صفحات العالم

عبقرية الإزاحة عن الديموقراطية

نشرت مجلة “الكتب وجهات نظر” (عدد آذار 2010)، وبترتيب خاص مع نشرة “جامعة جونز هوبكينز” مقالة موسعة عن مشكلة الديموقراطية في العالم العربي تحت عنوان “فن الاستبداد العربي”.
منه نقتطف:
اثنتان من الركائز الأساسية للاستبداد العربي، سياسية: انها تشمل الأنماط والمؤسسات التي تدير من خلالها الأنظمة الاستبدادية سياساتها وتحافظ بها على سيطرتها على السلطة، جنباً الى جنب مع القوى الخارجية التي تساعد على الحفاظ على سيادتها. ممارسات هذه الهياكل السلطوية ليست حكراً على العالم العربي، الا ان الحكام العرب ارتقوا بها الى درجة عالية من النقاء، ومارسوها بمهارة غير عادية. فعلى الرغم من ان الدولة العربية النموذجية لا تكون فعالة في الحياة اليومية الا ان اجهزة مخابراتها تكون عادة ممولة باسهاب، ومتطورة من الناحية التقنية، وشديدة النفاذ، وغير مقيدة من الناحية القانونية، ومحافظة على توازن رائع من التعاون واسع النطاق مع المؤسسات النظيرة في المنطقة فضلاً عن وكالات الاستخبارات الغربية. باختصار، “تحظى هذه الدول بالمركز الاول في العالم من حيث نسبة الناتج القومي الاجمالي المنفقة على الأمن”.
ومع ذلك فان معظم الأنظمة الاستبدادية العربية لا تعتمد على الاكراه الحاد والتخويف من أجل البقاء. فهي تعتمد بدلا من ذلك، على القمع الانتقائي الممزوج بقليل (وبالتالي غالبا ما يكون خفيا) من آليات التمثيل الديموقراطي، والتداول، والاختيار الجماعي، حيث تلعب انتخابات تعددية معدودة دوراً هاماً في حوالي نصف الأنظمة الاستبدادية العربية الستة عشر. كما كتب دانيال برومبرج قبل سبع سنوات:
الأوتوقراطيات المستقلة قد اثبتت انها أكثر قدرة على البقاء مما تخيلناه يوماً. البصمة المميزة لخليط من التعددية الموجهة، والانتخابات المسيطر عليها، والقمع الانتقائي ليست مجرد “استراتيجية بقاء” تعتمدها الأنظمة الاستبدادية، وانما نوع من النظم السياسية الذي تتحدى مؤسساته، وسيادته، ومنطقه اي نموذج خطى للتحول الديموقراطي.
تدفع احزاب المعارضة ثمناً فادحاً سواء قاطعت هذه المتاهات او شاركت فيها. فاذا شاركت أحزاب المعارضة في الانتخابات والبرلمان، فانها تواجه بخطر الاستئناس أو على الأقل ان ينظر اليها على هذا النحو من قبل الناخبين الساخرين والساخطين. اما اذا قاطعت “اللعب من داخل” السياسة الانتخابية والبرلمانية، فان “اللعب من الخارج” عن طريق الاحتجاج والمقاومة يتيح امكانية واقعية محدودة للتأثير، فضلاً عن الوصول للسلطة، وبسبب الوقوع في شباك هذه المعضلة، أصبحت المعارضة السياسية في العالم العربي منقسمة، مشبوهة، وممزقة من الداخل. هي ملعونة اذا شاركت وملعونة اذا لم تشارك.
تعزز اثنان من العوامل الخارجية الاضافية الهيمنة الداخلية للأنظمة الاستبدادية العربية. أولها هو الصراع العربي الاسرائيلي، الذي يخيم مثل الأبخرة السامة على الحياة السياسية في الشرق الأوسط، اذ يوفر وسيلة جاهزة ومريحة لتحويل الاحباط العام بعيداً عن الفساد وانتهاكات حقوق الانسان التي تمارسها الأنظمة العربية، ويحول غضب المواطنين للخارج ليركزوا على ما يبثه الاعلام العربي الخاص والحكومي على حد سواء من قمع اسرائيلي للفلسطينيين بشكل عاطفي، وباستطراد رمزي، للشعب العربي كله، حرية الاحتجاج على اوجه القصور في الأنظمة العربية نفسها، وسوء نوعية التعليم والخدمات الاجتماعية، وانعدام فرص العمل والشفافية والمساءلة، محظورة الا ان الرأي العام العربي يستطيع التنفيس عن غضبه في الصحافة وفي الشوارع على هدف واحد مأمون: هو اسرائيل.
والعامل الخارجي الثاني هو الدول العربية نفسها، التي تعزز كل منها الأخرى في التسلط وتقنيات المراقبة والتزوير، والقمع، مما حول ال 22 عضوا في جامعة الدول العربية على مدى العقود الى ناد للحكام المستبدين. من بين جميع المنظمات الاقليمية الرئيسية، تبقى جامعة الدول العربية اكبر عقبة امام تعزيز وتشجيع معايير الديموقراطية. في الواقع، يخلو ميثاقها، الذي لم يعدل منذ نصف قرن، من اي ذكر للديموقراطية او حقوق الانسان، بخلاف كل هذا، يظل عدم وجود مجرد مثال واضح للديموقراطية العربية، امراً يعني انه لا يوجد مصدر لنشر او مضاهاة الديموقراطية في اي مكان داخل العالم العربي، حتى في عصر العولمة، كما جاء في الموجة الثالثة: ان اثار المظاهرات كانت “أقوى بين البلدان المتقاربة جغرافياً وثقافياً متماثلة””.
هل حكم على العالم العربي ببساطة بمستقبل سلطوي لأجل غير مسمى؟ لا اعتقد ذلك، فعلى الرغم من ان بدايات التغيير في السياسة الخارجية للولايات المتحدة خلال السنوات 2003 حتى 2005 شجعت الانفتاح السياسي وأتاحت على الأقل مساحة للتعبئة الشعبية الديموقراطية في دول مثل مصر ولبنان والمغرب فضلا عن السلطة الفلسطينية. الا ان أغلب هذه النوافذ اغلقت جزئياً أو كلياً في الوقت الراهن، لكن على الأقل ذاقت قوى المعارضة العربية والمجتمعات المدنية مذاق السياسة الديموقراطية.
ثلاثة عوامل يمكن ان تعجل بالتغيير الديموقراطي في العالم العربي. أولها، ظهور دولة ديموقراطية واحدة في المنطقة، ولا سيما في البلاد التي يمكن ان ينظر اليها باعتبارها نموذجا. هذا الدور سيكون من الصعب على لبنان لعبه، نظراً لتعقيد فصائله الحاد وتشرذم سلطته التوافقية، فضلاً عن استمرار التدخل الشديد في سياسته. ولكن اذا احرز العراق تقدما سياسياً، اولاً عن طريق انتخاب حكومة ديموقراطية جديدة هذا العام ثم بانسحاب لائق وسلمي للقوات الاميركية، يمكن ان تتغير المفاهيم تدريجياً في المنطقة. مصر ايضا تستحق المشاهدة، حيث تغرب الشمس ببطء على ثلاثة عقود من حكم حسني مبارك الذي يبلغ من العمر 81 عاما فسواء خلفه ابنه جمال (46 عاما) أم لا، فان النظام سيواجه بضغوط واحتياجات سيجبر على التكيف معها.
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى