صفحات سورية

سوريا بين الطائفية السياسية والمذهبية

null
ثائر الناشف
لا يمكن النظر إلى الطائفية ، بمنظار واحد ، أو بعين واحدة ، بمعنى إما أن تكون طائفية سياسية أو لا تكون ، لأن الطائفية سواء كانت سياسية أو مذهبية ، هي السمة الرائجة في كل المجتمعات الإنسانية ، وهي الجزء الأساسي الذي تتحدد على إثره ملامح الهوية ونوعها ، إن كانت وطنية جامعة ، أو مذهبية مناطقية.
سوريا هي واحدة من المجتمعات العربية والإسلامية التي يذخر نسيجها الاجتماعي بتركيبة طائفية غنية ، وبذات الوقت معقدة ومتشابكة تنذر بالتمزق ، كلما اشتدت الأخطار الخارجية ، وازدادت دائرة التهميش والاضطهاد .
لم تعرف سوريا الطائفية قط ، خلال القرن التاسع عشر ، إبان الحكم العثماني ، رغم وجودها الفاعل في لبنان ، الذي كان تابعاً لولاية الشام ، وقد شهد أولى حروبه الطائفية سنة 1845 ، من دون أن يمتد تأثيرها إلى دمشق ، كما لم تعرف الطائفية خلال النصف الأول من القرن العشرين ، الذي شهد الحربين العالميتين ، وإن كانت الطائفية المذهبية ( سنة ، نصيرية ، دروز ، إسماعيلية ) قد جرى صهرها في بوتقة وطنية واحدة ، لصالح تعزيز وتدعيم هويتها الوطنية .
لكن الطائفية المذهبية في سوريا ، ورغم قلة أخطارها ، مقارنة بنظيرتها السياسية ، باتت أمراً واقعاً لا يمكن الهروب منه أو التستر عليه ، ولا يخفى الدور الفاعل الذي لعبته دولة الانتداب الفرنسي في تغذية الحس الطائفي بوجهه المذهبي ، وتالياً بوجهه السياسي ، فتقسيمها سوريا إلى خمس دول ، أهمها ما كان يسمى آنذاك ، بدولة العلويين في الساحل السوري وعلى امتداد جبال اللاذقية ، وكذلك دولة الدروز في جبل العرب ، كان بلا شك ، المقدمة الأولى ، التي مهدت لاحقاً ، بُعيد جلاء القوات الفرنسية عن سوريا ، لتثبيت أركان الطائفية السياسية ، التي وجدت في الأحزاب السياسية – كحزب البعث- مطية لامتطاء صهوة السلطة ، والغطاء الشرعي اللازم لتنفيذ مشاريعها السياسية .
إن الوثيقة السياسية التي قدمها وجهاء الطائفية النصيرية للمندوب السامي الفرنسي في بيروت ، في ثلاثينيات القرن الماضي على خلفية توقيع القوى الوطنية السورية ممثلة بالكتلة الوطنية لاتفاقية العام 1936 التي رسمت معالم استقلال البلاد وحددت السقف الزمني لجلاء القوات الفرنسية ، فقد ناشدت تلك الوثيقة دولة المندوب الفرنسي ، بالبقاء في سوريا لغرض حماية كيان الطائفة وهويتها المذهبية من زحف الطوائف السورية الأخرى ، وعلى رأسها الطائفة السنية ، أو سلخ الساحل السوري – جبال اللاذقية – وضمه إلى دولة لبنان الكبير ، لضمان حقوق الطائفة وامتيازاتها ومكتسباتها السياسية ، لا سيما وأنها تعتبر نفسها ، الأكثر تظلماً وتهميشاً من بين الطوائف الأخرى في التاريخ السوري المعاصر .
تلك الوثيقة المؤرشفة في سجلات وزارة الخارجية الفرنسية ، دقت ناقوس الطائفية ، وشدت أنظار أبناء الطائفة النصيرية ( العلوية ) التسمية الأخيرة جرى اعتمادها وتعميمها بتزكية من السلطات الفرنسية ، شدت أنظارهم إلى خطورة أن يبقوا عرضة للمساومات السياسية والاستخدام المجاني ، كما في العهد العثماني ، مثلما يؤكد الكثير من مثقفيهم ومسئوليهم .
وعليه ، فإن المرحلة التي تلت الاستقلال عام 1946 ، شهدت البداية الأولى لتأسيس واقع الطائفية السياسية التي تدثرت برداء العلمانية والقومية العربية ، لاسيما وأن فرنسا لم تستجب كفاية لمطالب تلك الوثيقة السياسية ، فجرى التعويض عنها ، بقبول الأمر الواقع ، والانخراط المنظم في الحياة السياسية ، من خلال بوابة الأحزاب ( زكي الارسوزي) والجيش ( صلاح جديد ، حافظ الأسد ، محمد عمران ) أو من خلال الاثنين معاً .
في هذا السياق ، لا بد من الملاحظة في إطار رصد الظاهرة الطائفية في سوريا ، أن ظهور الطائفية السياسية لم تكن وليدة اللحظة التي تسلم فيها حافظ الأسد مقاليد السلطة ، بل امتدت على نحو نصف قرن ، منذ مطلع ستينات القرن الماضي ، ولم يجر الكشف عن وجهها إلا مؤخراً ، إبان وفاة حافظ الأسد ، وتسلم نجله بشار السلطة ، بغير ما يتفق مع دستور النظام نصاً وروحاً ، لجهة تحديد السن ( أربعون عاماً) ومع مبادئ البعث ، التي لا تؤمن البتة بالولاء الطائفي ، لكن التوريث أظهر مدى هشاشة تلك المبادئ أمام واقع الطائفية المزمن ، الذي قال كلمته بنقل السلطة من الأب إلى الابن ، وفعل فعله بتجاوز مواد الدستور ورأي الشعب .
ومن المحطات الأخرى التي ظهرت فيها الطائفية السياسية ، أنه وقبل تاريخ العام 2000 مطلع القرن الحادي والعشرين ، العام الذي ورِثَت فيه السلطة طائفياً ، جرى ظهورها بوتيرة أقل حدة وصعوداً ، وذلك في مطلع ثمانيات القرن الماضي إثر استهداف مدرسة المدفعية في حلب التي قام بها النقيب إبراهيم اليوسف ، وراح ضحيتها شبان أبرياء لا ناقة لهم ولا جمل ، سوى أنهم من أبناء طائفة النظام ، وذلك لأسباب شتى ، كان أبرزها العامل الطائفي في الجيش ، فكانت هذه العملية رداً طائفياً مدوياً ، تطور لاحقاً إلى مواجهات دامية في أحياء حماة وشوارع حلب ، بين رجالات النظام دون طائفته ، وبين الإخوان المسلمين دون المجتمع ، إلا أن الضحايا الذين قضوا في تلك المواجهات كانوا بالآلاف وقد دفعوا حياتهم ثمناً للاحتقان الطائفي .
أما العوامل التي أفسحت المجال أمام الطائفية السياسية ، فيمكن تلخيصها بعاملين اثنين ، العامل الأول ، تمثل بفشل مشروع الوحدة العربية بين سوريا ومصر ، بفعل الأخطاء الجسيمة التي أحدثها نظام الوحدة في كل مناحي الحياة السياسية على صعيد إلغاء الأحزاب ، أو الحياة الاقتصادية على صعيد التأميم الاشتراكي لكل مرافق الدولة ومؤسساتها ، الأمر الذي أحدث فراغاً عميقاً ترك الدولة السورية مكشوفة الظهر بلا سند ديمقراطي أو مؤسساتي كان معمولاً به قبيل الوحدة ، ومن ذلك الفراغ العميق ، تسلل العسكر بواجهة البعث ، كما تسللت الطائفية السياسية بواجهة الاثنين ( الجيش والبعث ) .
العامل الثاني ، تمثل في هزيمة العرب ( سوريا ، مصر ، الأردن ) في حرب الأيام الستة أمام إسرائيل عام 1967 ، وقد جرى توزيع مسئولية الهزيمة ، وفقاً لاعتبارات سياسية مغلفة بأخرى طائفية ، مع العلم أن الذي كان مسئولاً عن قيادة الجيش السوري آنذاك وزير الدفاع حافظ الأسد ، الذي برأ ساحته من حمل وزر الهزيمة، واستغل حالة الذهول والشلل التي أصابت الشارع السوري ، من خلال تحميل أوزارها لرفاقه البعثيين من الطوائف الأخرى ، مثلما جرى ليوسف زعين رئيس الوزراء في حينه .
وبطبيعة الحال ، لم يكن ظهور الطائفية السياسية مقروناً بظرف سياسي معين شهدته سوريا وعاشته إحدى الطوائف دون غيرها ، بل كان منسلاً من رحم الطائفية المذهبية ، فالحس المذهبي الدفين في نفوس الأجداد ( أصحاب الوثيقة ) جرى غرسه في نفوس الأبناء والأحفاد ، ولا تنبع الخطورة هنا من الطائفية المذهبية وحدها ، كونها المحرك ( الدينمو ) لشحن العقول وشحذ النفوس بحقيقة كيانها الطائفي ، بل أن منبع الخطورة في الدرجة الأولى ، يكمن في تطييف مؤسسات الدولة ، وشخصنتها باسم العلمانية ، كما حصل مع مؤسسة الجيش ( سرايا الدفاع سابقاً ، الحرس الجمهوري لاحقاً ) ومع أجهزة الأمن ( المخابرات العامة والعسكرية والجوية ، أمن الدولة ، الأمن السياسي والعسكري ) ولم يكن “البعث” إلا غطاء لستر ظاهر تلك الطائفية .
والسؤال الذي يتردد صداه في ثنايا العقل، أيهما أشد خطراً وتفتيتاً لهياكل الدولة والمجتمع، الطائفية السياسية أم المذهبية ؟.
الجواب عن ذلك السؤال ، يحتمل أكثر من صيغة ، فالصيغة الأولى ، أن الطائفية المذهبية ظاهرة دائمة ، وحقيقة واقعة في كل المجتمعات ، وبالتالي لا خطر منها وعليها ، إذا ما انطوت في إطار المؤسسات وتحت كنف الدولة .
الصيغة الثانية، أن لا سبيل لمواجهة الطائفية السياسية التي تعيشا سورية اليوم، إلا بإعادة تفكيك هياكل الدولة والمجتمع من جديد، وذلك يستدعي التغيير السياسي، لإعادة التوازن السياسي ( أقلية – أغلبية ) وليس التوازن المذهبي بين مؤسسات الدولة.
إن ما تعيشه سوريا ، مرحلة متطورة من الطائفية السياسية ، فالناظر إلى مؤسسات الدولة ، لا يخطئ وجودها ، بل سيجدها موزعة على أساس طائفي ومناطقي ، حتى داخل صفوف ” البعث” الذي تحكم الطائفة باسمه ، فالأغلبية السياسية التي ضمنتها من الطوائف الأخرى منذ انقلاب 23 فبراير/ شباط 1966، لا تعدو كونها مبايعة بأرخص الأثمان ، طمعاً بجزء يسير من كعكة السلطة .
وما عزز حضور الطائفية السياسية ، اقتراب النظام من إيران والتحالف معها ، لأسباب ظاهرها سياسية – اقتصادية ، بداعي الدفاع عن فلسطين ودعم ” المقاومة ” وباطنها طائفي – مذهبي جرى العمل عليه منذ وصول رجل الدين الإيراني علي الخميني للسلطة في طهران عام 1979 ، وظهر جلياً في وقوف الأسد الأب إلى جانب إيران ودعمها في حربها ضد العراق طيلة ثمانية أعوام .
كما تعزز حضورها ( الطائفية السياسية) أكثر من ذي قبل مع اعتلاء الأسد الابن سدة الحكم ، الذي تزامن مع تطورات إقليمية كبرى ، أبرزها الحرب الأميركية على العراق عام 2003 ، وسقوط نظام صدام حسين ، ما أعطى زخماً سياسياً متزايداً لجارته اللدودة إيران ، كي تبسط نفوذها الإقليمي في المنطقة وتنفيذ مشروعها المذهبي ( التشيع السياسي ) بغطاء سياسي عنوانه الدفاع عن المقدسات ، انطلاقاً من سوريا التي باتت ساحة مفتوحة أمام كل الاحتمالات .
الحوار المتمدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى