بلاد ترمّم حواسّها بلا… رأس
أنطوان أبو زيد
في إحدى القصص القاسية لزكريا تامر، وهو من عرف بها وبسوداويته فيها، يروي مأساة الشخص الوحيد الذي راح يسير في المدينة، ورأسه لا يزال بين كفيه، في حين ان البشر أجمعين، في المدينة، كانوا يهيمون في الطرق بلا رؤوس. بالطبع ليس موضوعي قصص زكريا تامر المشوّقة والشديدة الرمزية والكثيرة الدلالة على القمع الفكري والجسدي، مما تحفل به انظمتنا العربية، وانما موضوعنا هو مساءلة المجتمع اللبناني، الذي لا نزال نؤثر الانتماء اليه على رغم صدّه وقساوته اللذين يبديهما حيالنا، نحن ممن لا نزال نبادر الى فتح صفحة جديدة من العلاقات معه وإبرام اتفاقات معقولة في حسن الجوار، بيننا وبينه.
ولكن، عبثاً!
مسألة الرأس أساسية، في عرفنا، وفي عرف الناس الأسوياء قاطبة. أعني بها مسألة الحكم على الأمور بحكمة، والاتعاظ من الماضي، والسعي الى استشراف المستقبل، بما يخدم الحاضر وبشره وعقولهم وافئدتهم وحجرهم وشجرهم، إن بقي شجر. على انّ ما يلاحظه المواطن، مثلي، الذي سبقه نوع من التسونامي غيرالمرئي، وأقلقه وسهّره وجعله يراجع حساباته – بالمعنى المعنوي، إذ لا حسابات اخرى – وجعل يسائل نفسه عما إذا كان في الوجود الخطأ، حيث أسقط وعاش، هذا الذي يراه يجعله يتحسس رأسه، بل يحاول قلعه بالحسنى، ما دمنا في بلاد ديموقراطية.
أول ما يلاحظه هذا المرء صعود أنواع من الحمّى – بلا أمراض حقيقية هذه المرة – الاجتماعية والاقتصادية، والتي تنمّ جميعها عن المآل الفكري، بل المسلكي، الذي صرنا اليه. ففي مقابل الحمّى العقارية التي تنهض في بلادنا وبيروتنا، ولا تترك فراغا ولا جنينة ولا بيتا قديما او معلم طفولة ايا يكن سخيفا، إلا تبني مكانه مركزا عرمرميا يليق بالزوار، فتصير معه الأسعار، اسعار الحجار ناراً تحرق حتى الشهداء، فكيف بالمواطنين؟ في مقابل هذه الحمّى، يطلق الأساتذة صرخات استغاثة، الثانويون منهم والجامعيون، بأن الرواتب أكلتها الضرائب، وبأن مراتب العلم رمّدها الظلم اللاحق بذوي الرأس، هذا الرأس الذي لبث يشعّ إيمانا بالوحدة بين أعضاء الجسد اللبناني، وقت كانت هذه الأعضاء في اقتتال مميت. اليد اليمنى تقاتل اليسرى، والساق تقاتل الساق، والركبة تقاتل الركبة، وكل يظنّ ان القلب فيه والشر كل الشر في الآخرين.
في مقابل حمّى الطائفية والقبلية والاقطاعية التي لا تستحي بأن تطلّ برأسها، وتخز جسم الوطن المنهك بإبر الانقسام المغلّف بسحر الكلام، وتذكّر المتناسين من المواطنين الآخرين بأنّ صورة الوطن إن هي إلا ما ترتئيه وتفصّله وتعدّه لهم، شاؤوا ذلك أم لم يشاؤوا…، نجد المواطن المفرد والساقط من جنّة الجماعات ولغاتها واحتفالاتها ومواسمها ورموزها وامجادها، وقد اوشك على التهام ذاته، فجعل ينبش عميقا، حيث هو، في التراب الذي يضمّه موقتاً، الى ان تحين جرّافة الجماعة او مقاولها على قلعه من ذلك المكان، عن المعنى الذي من أجله يقهر، ومن اجله سوف يهجّر أو ينحر.
في مقابل حمّى السخافة والتسطيح والتشبيح ومسرح الزنّار ونازله، وتلفزيون الحقيقة الممجوجة والوقحة، والشويات (جمع show) التي تملأ سهراتنا بالبوبكورن والكورنفلكس والمشروبات على انواعها والشربات علينا وعلى اولادنا، يحاول المسرح، بشقّ النفس ان يشقّ الليل المدلهمّ عليه وعلينا. المسرح، هذا المرآتنا التي كادت هذه الحمّى ان تذهب به، لولا فدائيون حقيقيون، بالمعنى الثقافي للكلمة، فدائيون آمنوا بأن للكلمة السامية مسرحاً سامياً، وباْنّ جزءاً من معنى البلاد، من معنى الوطن ينبغي ان يردّ اليه، لتعود اليه الروح، وليعود بعض من سلطان العقل اليه، لنعرف انفسنا فيه، ولتخفّ غربتنا عنه قليلا.
في مقابل حمّى الادّعاء وأكل الرأس قبل الأوان، والنسبة ليست قليلة – إذ تبلغ اقلّه سبعين في المئة من الشعب – ممن يبادئونك بالقول إنك لست بشيء في عالم التجارة، وانك لست بالشيء في عالم الفنتيسولوجيا، ولست بشيء في عالم دهان السيارات، ولا في سرعتها واناقتها وفتحات البخّاخ فيها، ولا في توقيفها الوقفة التي توحي للآخرين من الخواجات والخواجيات بأن صاحبها جدير بأن يكون صاحب المقام الفخيم في المكان السليم، في مقابل حمّى الفخامة هذه، أجد هذا المواطن المهموم، الملموم على وجعه من كلّ مواجع الوجود وآلامه، مشتاقا الى غناء بلبل او حسّون، في شجرة اللوز البرّي التي أزهرت وأورقت وعقدت ثمارها المقبلات، بصمت، نبّهت الفنّان العصفور الى بهائه، فغنّى، وكنت شاهدا على غنائه، إلا اني ظللت حاسده على امر، كان لا يزال ينخر قلبي، وهو انه مؤمن اكثر مني بعدم لزوم الزرع ولا الحصاد ولا تخزين الطعام في الأهراءات. وانه غلبني جمالا وصوتا وحبا بالحياة و العطاء.
فمتى تفارق بلادي انواع الحمّى؟ ومتى تفارقني همومي؟ ومتى التشبّه بالعصفور؟ انها مسألة دهور، على ما أظنّ.
النهار