أنا الذي أكل الفأر
إلى رياض سيف ورفاقه
أحمد مولود الطيار
ذيل الفأر المتفسخ المتدلي من الشفتين عن (خيانات اللغة والصمت – تغريبتي في سجون المخابرات السورية – فرج بيرقدار) منظر عجزت السريالية بكل إبداعاتها الفنية عن الآتيان بلوحة كهذه
وحده النظام السوري تفوق على تلك المدرسة الفنية و استطاع حفر اسمه بأحرف من دم السجناء في سجلات أضحت خاصة به , وبأنظمة أخرى على شاكلته , تملأ بلدنا من المحيط الى الخليج
تتوالى اللوحات السريالية المتقنة الصنع (كل الاعتذار من تلك المدرسة الفنية ) , في ” مصانع ” تلك الأنظمة , وآخرها كان النظام الأمريكي , الذي يبدو أنه الأستاذ و المرجعية في ذلك .
أقرأ في إحدى الصحف على ما جاء من فضائع في سجن أبو غريب في العراق : ” الكلاب تلتهم الأعضاء الذكرية لأربعة عشرة معتقلا عراقيا لانتزاع معلومات مهمة منهم “, و خصائهم لأن المخصيين أصبحوا كثرا .
تلمست ما بين فخذيّ و أنا أشيح بناظري عن ذلك الخبر المرعب الذي يجعل قلبك يفر من بين ظلوعك .
منظمات حقوق الإنسان, تسجل الانتهاكات يوميا و تقول في تقاريرها: إن الوضع الذي آلت إليه حقوق الإنسان في العالم تسجل تراجعا خطيرا لم نشهده منذ خمسين عاما خلت. ويعتبرالنظام الأمريكي حاليا، من أكثر الأنظمة انتهاكا لتلك الحقوق , وتستشهد بالعراق و أفغانستان و غوانتانامو .
ماذا يريد النظام الأمريكي ؟!! الأنظمة العربية تضحك في عبّها وجدّ مسرورة , لتخبطات المارد الأمريكي وتراهن على ازدياد تخبطه، أكثر فأكثر، حتى يتوه و يفقد كامل مشيته في وحولنا المعدّة سلفا .
كانت رحلة الإنسان في الأنظمة الديكتاتورية , عكس النظرية الداروينية , التي تقول بالتطور التدريجي لذلك المخلوق من قرد إلى … إنسان. أبت تلك الأنظمة إلا أن تحفر اسمها في سجل المكتشفات و الإنجازات العلمية, و تبرهن على خطأ نظرية داروين , حيث تقول , و الواقع يثبت صحة ما تذهب إليه : إن الإنسان يتحول تدريجيا القهقرى , من إنسان كامل , مصانة كرامته و حقوقه و إنسانيته , إلى قرد لا يتقن إلا لعبة البهلوانات و المزاودات و التمسح و التقرب إلى جلاديه , ليكون مهرجا بامتياز .
صمدت هذه النظرية فترة طويلة . حتى جاء النظام الأمريكي, لا ليدحضها و إنما ليضخ الدم فيها من جديد , ويطورها (القهقرى ) يقول : إن دورة الإنسان تبدأ من إنسان كامل , إلى قرد متسلق , ثم إلى الحضيض , حشرة تدبّ على الأرض .
منظر ذيل الفأر المتدلي من الشفتين ، يرسل إلى أمعائي إشارات متحدية كلما هممت بإلقاء شئ في داخلها , أقبض بكلتا يدي متكورا على نفسي، مانعا ذلك الكهف العميق من الرمي خارجا بافرازاته .
حسن , أمضى سني شبابه الأولى في ” مدرسة تدمر الشهيرة ” , ست سنوات أمضاها بين ردهات و باحات و زنازين ذاك المعتقل الرهيب , لا تزال إلى الآن تلقي بأشباحها على حاضره المرّ و مستقبله الشاحب , رغم انقضاء سنين طويلة على خروجه من المعتقل .
تهمته هي الانتماء إلى تنظيم سري محظور و مناهضة أهداف الثورة و الإساءة إلى النظام الاشتراكي. (بالمناسبة هذه التهمة غدت ” كليشيه جاهزة ” لكل المعتقلين السوريين بكافة أطيافهم . استبدلت حاليا و استعيض عنها مباشرة بعد ربيع دمشق المؤود بكليشيه أخرى تقول : محاولة تغيير الدستور بالقوة , وإثارة النعرات الطائفية , و الإساءة إلى الوحدة الوطنية ، ووهن نفسية الأمة!!!) .
أكد لي أكثر من مرة أن لا علاقة له بذاك التنظيم لا من قريب ولا من بعيد , كل ما في الأمر أن له أقارب محسوبين على ذلك التنظيم , ولكن ” …. تزر وازرة وزر أخرى ” لدى النظام السوري .
أسرّ لي بعد قراءته لما كتبه فرج : أنا من أكل الفأر.
وقف شعر رأسي. أنت أكلت الفأر ؟!! و أنت من يعنيه فرج ؟؟!! لماذا ,وكيف وو …؟؟؟؟
قال لا أدري , الفئران الميتة كثيرة , الكثير من المعتقلين , أجبروا على أكل الفئران الميتة المرمية في مجارير و مستنقات السجن الرهيب و أخذ يشرح بألم متجذر فيه , كيف أرغموه أولاد ال …. و الكلاشينكوف المصوب على رأسه بعد أن أركعوه أرضا, تلك العملية التي استغرقت دهرا .
ثمل بالألم , أخذ يسهب في الوصف , قرر تحدي السجن والسجان, إثارته , اغاظته ,هدفه الذي يسيطر على كل ماعداه , جبروت إرادة الإنسان الذي صمم وقبل التحدي. أقبل على الفأر يلتهمه بكل ما أوتي من قهر وحقد على نظام استباح أدمية الإنسان.
أكل فأر ميت عقوبة خفيفة مقارنة مع عقوبات أشد إيلاما تنتهك حرمتك و خصوصيتك و تطعن في صميم كرامتك.قال لي .
قلت : وهل يوجد أبشع من أكل جثة فأر متفسخ ؟!
هز رأسه دون أن يجيب , لكن عيناه تكلمت بأشياء و أشياء .
لم يفلحوا في تحويله إلى قرد , كان يعتمر و يتجلل بنقاء و صفاء قلّ نظيره . تشعر بالصغر و الضآلة في حضرة أولئك الأنموذج من البشر .
أرهقته سنوات المعتقل, حفرت في جبينه أخاديد كثيرة, حاولوا ثلمه و تعكيره, لكنهم يعمون إن هم حدقوا في صفاء عينيه, لكنهم سيتوبون, إن هم حدقوا في ذلك الفضاء الواسع و أطالوا التحديق.
في جلسة صفاء معه بوجود ثلة من الأصدقاء تتعاطى هموم و شجون الوطن , أخذنا نلكزه ليروي لنا قصة ” تدمر الرهيبة ” , كان من بين الحاضرين معتقلين أخر أمضوا سنوات تفتحهم في سجون صيدنايا و عدرا وفروع التحقيق المنتشرة في كل متر من هذا الوطن . جرت العادة و أصبحت فيما بعد عرفا لدى المعتقلين ,أنهم لا يتحدثون عن معاناتهم بوجود معتقل من “ خريجي مدرسة تدمر الشهيرة “, فالاحترام هنا واجب , وكما في الجيش , لا تتكلم الرتبة الصغيرة في حضرة الكبيرة .
كانت الأحاديث تقفز من موضوع إلى أخر ومن نكتة إلى أخرى، وسط سحب الدخان و قرقعات الاركيلة و….
قد تكون ساعات الشراب , هي لحظات الصحو الوحيدة في مجتمعاتنا العربية، لأن العقد تنزاح و يتحرر اللسان و تغدو زلاته هي الحقيقة . يتراجع التابو و يسقط الرقيب القابع في كل مسام فينا و يغدو الفضاء رحبا واسعا لا تحده عين و لا يحيط به محيط . يتمادى الأفق حتى يكسر حدوده و يعود بطبيعتنا التي شوهتها الحضارة المستوردة إلى نقاوته الأولى, في البدء كان الماء و في البدء كانت حواء و كان ادم .
أهكذا كان هدف النظام السوري ؟ إعادة من في تدمر إلى بدء الخليقة, عراة, حفاة لا تستر عوراتهم حتى ورقة التوت.
يأتي الصوت عاليا قبيحا :
الكل عراة
الكل يتمدد فوق زميله .
تستلقي الأجساد بعضها فوق البعض في تشكيل لحمي يندى له جبين الإنسانية (هرم من اللحم العاري المستباح)
أخذ يتحدث مطلقا من بين سحب الدخان زفرات عميقة :
_ …..
– أنت أنت يا ابن القحبة
– نعم نعم سيدي
– هات الصابونة
– حاضر حاضر سيدي
– اثقبها
– كيف كيف سيدي ؟
– أحضر ” قصاصة الأظافر “
– …………
– اثقبها
رحت أثقبها بيد مرتجفة وقلب يحاول الخروج من بين أضلاعه, قلب يتمنى انتهاء رحلته الآن و التوقف عن مسيرة الذل و الهوان . عيون رفاقي وزملائي تتراكض نحوي خائفة مذعورة , قلوبهم طبول أسمعها , أجسادهم العارية من كل شئ تحاول ألا تحتك ببعضها , كانوا يخمنون أن طقسا جنسيا بدائيا قذرا حقيرا سيشاهدون .
كمن يحفر بئرا في صحراء :
– ثقبتها سيدي
– دع ، دعه … يلج في الثقب . وأشار الى …
– …….
– هيا يا ابن الكلب
– ………
– هيا يا ابن الزانية , هل تريد ….هنا في السجن ل ….
_ هيا يا شطور .. أدخله
– ……..
– أخرجه
– ……….
– أدخله . بدأت تنبسط يا ابن ……
– أدخله, أخرجه, أدخله, أخرجه, أدخله, أخرجه………………….
-……………………….
ماذا يا ابن الساقطة ؟ هل انبسطت ؟ هل ارتحت ؟ .. أمك , …. أختك ………..
كنا ننظر إليه مذهولين غير مصدقين, عيونه المطفأة مغمضة تفيض بأنهار العالم, رأسه يهتز يمنة و يسرة غير مصدق, حركات يديه يشرعها عالية إلى الله متضرعة, لو هز بها الكون لتساقط عند قدميه, كان يرتجف كأن حمّى أصابته.
أحد زملائه ممن ساروا على طريق الجلجلة , انفجر باكيا : بربك توقف , أتوسل إليك كفى , ينعن ….. , ينعن …… , ياالله , يا رب يا…. أضحت الكلمات حشرجات غير مفهومة , الدموع أصبحت مدادا كتبت وستكتب كيف تحول الإنسان إلى حشرة تدب على الأرض . كانت الدموع و كان الوجوم و الذهول و كان الألم يعتصر الجميع.
لدقائق لم ننطق بعدها , كنا أشبه ما نكون بطقس سادي مازوشي , الكل يعذب ويتعذب . ومن العيون المغمضة و الوجه الذي يعتصر بين دفاته ألم العالم كله , أخذ يغني بصوت اختلطت فيه الأنة و الحشرجة و كبرياء جريح :
يما مويل الهوا
يما مويليا
ضرب الخناجر
ولا حكم العفن بيّا
و أخذنا نردد ورائه :
يما مويل الهوا
يما مويليا
ضرب الخناجر
ولا حكم النذل بيّا
تندحر الظلمة ويبدأ الفجر بارسال خيوطه الأولى معلنا بدء صباح جديد . كانت الأجساد منهكة فراح الكل في نوم عميق.
تدمر ولّى , ذهب , لكن جراحه , آلامه , عذاباته باقية لم تندمل .
فرج وحسن , راشد , عبد الستار ، نبيل , خليل , اسماعيل , خلف و آخرون و آخرون تتقاسمهم المنافي و التشرد والطرقات و لقمة خبز هي بالحسرة . متى ترد المظالم إلى أهلها ؟؟
متى تندمل الجراح ؟؟
متى يعود الألق إلى الأرواح المنطفئة ؟؟
متى ومتى ومتى ؟؟!!!
• حسن ، هو حسن الهويدي : معتقل سابق في سجن تدمر الصحراوي من عام 1987 ولغاية عام 1992 .
• راشد الصطوف : معتقل رأي سابق قضى خمس سنوات في سجن تدمر وعشر سنوات في سجن صيدنايا .
• عبد الستار قطان : معتقل رأي سابق .
• نبيبل الفواز : معتقل رأي سابق لمدة \ 15 \ سنة.
• خليل حمسورك : معتقل رأي سابق لمدة سبع سنوات .
• اسماعيل الحسن : معتقل رأي سابق لمدة \ 15 \ سنة .
• خلف الجربوع : معتقل رأي سابق سبع سنوات .
خاص – صفحات سورية –