ليبراليون في فخ الشعبوية
ورد كاسوحة *
لم يعد الكلام عن «العجز» كافياً لتوصيف ما يعتمل في بنية أنظمتنا المسماة اعتباطاً عربية. وغالباً ما يجري الالتفاف على هذا الاعتمال بإشاعة تعابير من قبيل: شلل، تخبّط…الخ. تعابير جرى العمل عليها جيداً في مطابخ حاشية السلاطين العرب من «منظّرين» و«نخب مهيمنة». و«عدة الشغل» هنا ضرورية حتى لا يذهب المرء بأفكاره بعيداً، ويقع في «الخلط» و«سوء التقدير»، فلا عفونة ولا اهتراء ولا من يحزنون! جلّ ما في الأمر «عجز مؤقت» و«خلل بسيط» في التخطيط والتنسيق بين القادة العرب… إلى آخر الأسطوانة المشروخة. وليس هناك من يقول لهؤلاء «المنظّرين» إن الشريحة التي يريدون أن يوصلوا إليها هذا الانطباع قد سبقتهم بأشواط. يكفي أن يشاهد أحدنا برنامج «منبر الجزيرة» على قناة الجزيرة (رصانتها لا تنفي تبعيتها لنظام عربي) حتى يدرك أن المواطن الذي يتداخل الآن على البرنامج ويدلي بدلوه قد ألقى كلّ هذه الرطانة البلهاء التي تتغذى عليها صحفنا اليومية في سلة المهملات. هذا ليس مديحاً مجانياً «للشعبوية»، ولا استسلاماً لخطابها السائد، بل هو محاولة للقول إن «النخبوية» التي تسوّغ للديكتاتوريات العربية ارتكاباتها باتت في مأزق حقيقي. ومأزقها هو مع الشعوب العربية التي تجاوزتها لا مع «التخلف الجمعي» الذي تقبع فيه هذه الشعوب كما يشاع عادة. فعندما ينبري ليبرالي مزعوم للدفاع عن سياسات نظام عربي معين ويردّ عليه مواطن عادي بالقول (ما معناه): دفاعك باطل لأنه نظام ديكتاتوري متسلّط ومفقر لشعبه نصبح أمام معادلة جديدة (على شكل سؤال) تقول: أيهما الأكثر ثقافة ودراية: المثقف المتلبرل أم المواطن العادي؟ هنا تنتفي صفة «اللبرلة» عن المثقف، ولا تعود تهمة «الشعبوية» ملائمة تماماً لهذا المواطن الذي فضح زيف السلطة و«الثقافة» التي تموّه هذا الزيف في آن معاً. وإذا أردنا الدقة أكثر لقلنا إن المعادلة التي أراد فرضها منظّرو السلالات الحاكمة لم تنتف فحسب، بل انقلبت عليهم بالكامل. فأصبح المنظّر «النخبوي» الذي يقلّل من شأن تجاوزات رعاته ولا يجد من سبيل للتغطية عليها سوى التصويب على «البعبع الإيراني» هو الشعبوي والخاضع للرّطانة المتسيدة (بفعل فاعل طبعاً وإلا لقلنا إنها سائدة)، لا ذاك المواطن الذي حرم طويلاً من إمكانية الفعل بحجة أن فعله هذا صادر عن مرجعية شعبوية غير منتجة. وهذا يعني أن الشعبوية كما نعرفها لم تعد كذلك تماماً. فهي اليوم باتت تخضع لتراتبية شبيهة بالتراتبية الطبقية في التحليل الماركسي. فهنالك «شعبوية» «للجماهير العريضة» وهذه مذمومة في عرف مدّاحي الأنظمة لأنها تنتمي بحسبهم إلى موروث «التخلف» الذي عفناه بعد اكتشافنا جنّة النيوليبرالية. ونبذ هذا النمط من «الشعبوية» للنيوليبرالية هو ما يضاعف من استهدافها ومن حجمها معاً، بوصفها بؤرة العداء لنسق (نيوليبرالي) يريد أن يتسيّد وأن يصوّر خصومه على أنهم وحدهم الشعبويون، ما يعني أيضاً أن شعبويتهم هي وحدها المنظورة والعينية!
وهنا نصل إلى الضفة الأخرى التي تقبع عليها شعبوية مفارقة هي شعبوية «النخب». وعلّة هذه الأخيرة هي بالتحديد نخبويتها. «فالنخبوي» يتكئ عادة على نظرية الاصطفاء واحتكار المعرفة. والتقليل من شأن «العوام» و«الدهماء» (أسماء مختلفة لمعطى واحد هو الشعب) ركن أساسي من أركان هذه النظرية. فما دام هؤلاء لا يقرأون ما نكتب، وإذا تسنّت لهم القراءة لا يفهمون منها شيئاً، إذاً فلنتجاوزهم ولنركّز جهدنا على من تستطيع كتاباتنا أن تنفذ إلى وعيهم وتحدث فيه البلبلة المطلوبة. والحديث هنا يدور على طلبة الجامعات الذين ينتمون «بمعظمهم» إلى طبقة مترفة. طبقة كانت ذات يوم طبقة وسطى وملّت من كونها كذلك. ومن لم يملّ منها سقط إلى هاوية خط الفقر وما دون. وهذا الملل تسلّل بدوره إلى القضايا التي آمنت بها هذه الشرائح، وطبعاً لم تعد كذلك اليوم. والحال أن هذه المساحة المستجدة من انعدام الجدوى هي وصفة مثالية لمن يريد أن يغذّي مشاعر ليست شعبوية بالكامل، لكنها بالتأكيد تنتمي إلى ذلك النسق من الشعبوية الذي يسود عادة في فترات الحروب والقلاقل والنزاعات الكبرى. على هذه الخلفية نشأت النازية والفاشية بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، أي على خلفية انعدام اليقين وحاجة الناس إلى من يشعرهم بالامتلاء القومي. وهذا بالضبط ما تخلقه اليوم التعبئة الحالية في مواجهة النفوذ الإيراني (وهو نفوذ موجود وحقيقي ولكن صورته في الإعلام غير حقيقية تماماً).
والسؤال الفعلي هنا هو التالي: كيف يمكن من ينظّر لمناهضة الخطاب «الشعبوي» (ضد إسرائيل) أن يمضي في تنظيراته فيما هو متورّط في نسق شعبوي مقابل أكثر فداحة بما لا يقاس من سابقه؟ يكفي أن ننظر إلى معيار واحد هو معيار الرعاية السلطوية لكلا الخطابين (أو لأحدهما) حتى يتضح لنا البون الشاسع (أخلاقياً) الذي يفصل بينهما. فالخطاب «النخبوي» المناهض لإيران يفتقر بخلاف نظيره الجماهيري المناهض لإسرائيل إلى من ينظّر له (أي ضده) ويحشد الطاقات في مواجهته، الأمر الذي يجعل منه غير منظور، ومفتقراً إلى سند حسّي. والسند هنا ليس بالضرورة أن يكون نظاماً نفطياً كما هي الحال مع الرعاية السعودية للخطاب المعادي للعامة والفقراء، بل قد ينقضي الأمر بتوفير مظلة رمزية ومستقلّة عن السلطات كلها، تتكفل بها أحزاب ومنظمات وأفراد يجمعها ائتلاف واحد ومتعدّد في آن. ائتلاف ليس على أجندته من بنود إلا الإصغاء جيداً لأصوات حرّة ورصينة كصوت سماح إدريس الصارخ اليوم في صحراء الثقافة العربية المستقلة.
المشكلة إذاً هي في وجود رعاية لمن ينظّر للتمركز حول ذات عربية متضخمة و«مهددة» «بالاجتياح الإيراني» الوشيك، وانحسارها ـــــ أي الرعاية ـــــ عمن يقول إننا نقع في الشطط عندما نعتقد أن أولوية الصراع مع إيران تتقدم على أولوية مناهضة إسرائيل ونهجها التوسعي.
وفضلاً عن مأزق توفير الرعاية السلطوية من عدمه، هنالك أيضاً مأزق الشرعية التي تؤرق كلا الطرفين بنسب متفاوتة. وهنا يمكن أن نسجل «لائتلاف» الاستقلال عن النظام العربي تقدماً ملحوظاً. ذلك أن «الشعبوية» المنعقدة في مواجهة السردية الصهيونية تنطوي على شرعية لا تحوزها نظيرتها المنعقدة في مواجهة جار طامح وطامع هو إيران. ولتذليل هذه العقبة يجب وضع السرديتين على قدم المساواة. وحتى يحصل ذلك لا بد بداية من توليف خطاب يضفي على الأجندة السلطوية المناوئة للنفوذ الإيراني شرعية معقولة. طبعاً لن يكتب لهذه المشروعية أن تصل إلى الحدود التي وصلت إليها مشروعية الصراع مع إسرائيل، لكن إيصالها إلى حد تغدو فيه مستساغة لدى مزاج عربي عام هو بالنسبة للسلالات الحاكمة و«نخبها» إنجاز لا يستهان به. وقد نجح هؤلاء إلى حد ما في اختراق
هذا المزاج، وحمله على زحزحة قناعات راسخة ومبدئية، والاستعاضة عنها بأخرى رجراجة وغير مقنعة إلا لمن يعاني مأزقاً حقيقياً في ترتيب أولوياته وتكييفها مع المتغيرات الجيوسياسية الحاصلة في المنطقة. وهؤلاء «كثر» لسوء الحظ و«كثرتهم» تجعل منهم كتلة صلبة وغير مرنة. والصلابة هنا ليست صلابة في المبدأ والخيار الأخلاقي بل صلابة في التمسك بوعي متمذهب ومتمحور حول ذات منتفخة (كما أسلفنا) وخائفة من جوارها (الشيعي الصفوي). ما يعني أنها باتت سهلة الانقياد ومستعدة للاستقالة من أدوار تاريخية لعبتها سابقاً في مواجهة «جوار» آخر (إسرائيلي عنصري قائم على الاجتثاث) هو وحده ما يجب أن تتعيّن هويتنا (وكذا وجودنا) في مواجهته. طبعاً كان يمكن هذا «التغير الاستراتيجي» أن يبقى في حدوده الدنيا لو لم يدخل عامل المصلحة في المعادلة. فإدماج هواجس الخوف وانعدام اليقين بدورة اقتصادية تتغذّى على الريع النفطي في الخليج دون وجود بدائل أخرى متاحة زاد من توريط المنتفعين من هذا النسق الاقتصادي في السردية المناوئة لإيران. والعامل الاقتصادي القائم على الريع وشراء النفوذ لا يفرّق عادة بين الأكثريات والأقليات، أو بين الفقراء والأقلّ فقراً. لذا فإن استغلال البيئة الطاردة في دول المنشأ (نتيجة للتفاوت الطبقي وانعدام العدالة في توزيع الثروة) والحاجة إلى العمل في الخليج أضفيا على الخطاب الذي يقول بانعدام جدوى المواجهة مع إسرائيل بعداً ذرائعياً حاسماً. وهذا البعد هو الذي يعوّل عليه اليوم الخطاب النخبوي (الشعبوي) لاستقطاب من لم تستطع الرّطانة «الليبرالية» الجوفاء استقطابه.
* كاتب سوري
الأخبار