الجماعات المتخيلة ليست خيالية
عمر كوش
يدعو التفكير في مفاهيم الهوية والجماعة والأمة والقومية إلى الانطلاق من اعتبارها نتاجات ثقافية من نوع محدد، يتطلب فهمها، كما ينبغي، إمعان النظر في كيفية بروزها إلى حيّز الوجود التاريخي، وكيفية تغير معانيها مع الزمن، وما يجعلها تحوز اليوم ما تحوزه من شرعية وجدانية عميقة. وقد بيّن بندكت أندرسن في كتابه «الجماعات المتخيلة» أن خلق هذه النتاجات منذ نهاية القرن الثامن عشر كان الخلاصة العفوية التي نتجت من تقاطع معقد بين قوى تاريخية عديدة، لكنها ما إن خلقت حتى غدت قياسية، أي قابلة لأن يعاد زرعها، وأقلمتها، بدرجات مختلفة من وعي الذات، في مختلف الأقاليم الإنسانية، التي تحتضن ضروباً من التربة الاجتماعية شديدة التباين، وقابلة كذلك لأن تندمج ضمن تشكيلات سياسية وإيديولوجية شديدة الاختلاف، لذا فإن من المهم معرفة الأسباب التي جعلت هذه النتاجات الثقافية المحددة تثير ما أثارته، وما زالت تثيره، من أصناف الارتباط العاطفي العميق.
ويبدو أن الارتباك يصيب منظري القومية حين يصطدمون أمام الحداثة الموضوعية التي تبدو عليها الأمم في عين المؤرخ مقابل القِدم الذي تبدو عليه في أعين القوميين، وأمام الكونية الشكلية التي تتسم بها الهوية القومية، بوصفها مفهوماً اجتماعياً ثقافياً، من حيث إنه يمكن لأيّ كان في العالم الحديث أن تكون له هوية قومية، مقابل الخصوصية العُضال، التي تتسم بها تجلياتها الملموسة، إضافة إلى القدرة السياسية التي تتمتع بها القوميات مقابل فقرها الفلسفي، بل عدم تماسكها، لذلك لم تنتج الإيديولوجيا القومية مفكرين كباراً، من أمثال هيغل وهايدغر وهوبز وتوكفيل وماركس وفيبر وسواهم.
وقد اعتبر أندرسن الأمة جماعة سياسية متخيلة، يتضمن تخيلها أنها محددة وسيدة أصلاً، وحاول تقديم اقتراحات يمكنها أن تفضي إلى تأويل أكثر إقناعاً لما تمثله القومية من خروج على القياس، أي بالافتراق عما قدمته كل من النظرية الماركسية والليبرالية، حيث مثلت القومية بالنسبة إلى النظرية الماركسية ذلك الخروج على القياس أو الشذوذ المزعج، الأمر الذي دفع إلى تجاهلها بدلاً من مواجهتها.
غير أن تعريف الأمة بوصفها جماعة سياسية متخيلة، هو تعريف مأخوذ بروح أنثروبولوجية، ولا يحوّل الجماعة المتخيلة إلى جماعة خيالية، بل حقيقة وواقعية، لأن تخيلها يجري بأدوات واقعية، في حين أن إرنست غلنر رفض اعتبار القومية يقظة الأمم على وعي ذاتها، كونها تخترع الأمم حيث لا وجود لها، وبالتالي هناك إمكانية لتخفي القومية وراء مزاعم زائفة، وبما يحوّل «الاختراع» إلى «تلفيق» و«زيف»، وليس إلى «تخيّل» و«خلق». ويتولد عنها وجود جماعات تمتاز عن الأمم حين تُقارن معها بأنها «حقيقية».
ومن قصر النظر أن يحسب أمر جماعات الأمم المتخيلة بكونه لا يتعدى خروجها من أحشاء الجماعات الدينية والملكيات السلالية وحلولها محلها، لأن انهيار الجماعات واللغات والسلالات المقدسة، كان يخفي تحته ما كان يعتري طرائق إدراك العالم من تغير جوهري، عَملَ على جعل «التفكير» في الأمة أمراً ممكناً. لذلك، فإن إمكانية تخيل الأمة لا تنشأ تاريخياً هي ذاتها إلا حين، وحيث، تفقد التصورات الثقافية الجوهرية البالغة القدم، سطوتها البدهية على العقول المعنية.
وفي الحالة الأوروبية، شكّل تلاقي الرأسمالية وتكنولوجيا الطباعة، المنصة للأمة الحديثة، بما اتسم به من هيئة وتركيبة أساسية، إلى جانب ما تتميز به اللغة البشرية من تعدد قدري خلق إمكانية شكل جديد من أشكال الجماعة المتخيلة.
أما في البلدان التي خضعت للسيطرة الاستعمارية، في قارتي آسيا وأفريقيا، فقد نشأت القومية رداً على الإمبريالية العالمية التي جعلتها منجزات الرأسمالية الصناعية ممكنة. لكن الرأسمالية عملت أيضاً، خاصة بنشرها الطباعة، على خلق قوميات في أوروبا هي قوميات شعبية نصيرة للغات المحلية، قوّضت بدرجات مختلفة المبدأ السلالي القديم، وحثت كل سلالة حاكمة على تجنيس ذاتها.
وهناك عدد من المثقفين والمفكرين يركز على الطابع شبه المرضي الذي تتسم به القومية، وعلى جذورها الضاربة في تربة الخوف من الآخر وكراهيته، وضروب ألفتها مع العنصرية، مع الإقرار بأن الأمم تُلهم الحب، الذي غالباً ما يكون حباً عميقاً منطوياً على التضحية بالنفس، حيث تُظهر منتجات القومية الثقافية، من شعر، ونثر قصصي، وموسيقى وفنون تشكيلية، هذا الحب بوضوح شديد في الأشكال والأساليب المختلفة. في حين أنه من النادر أن نجد منتجات قومية مماثلة تعبّر عن الخوف والنفور. وحتى في حالة الشعوب المستعمرة، التي لديها مبرر فعلي لأن تشعر بالكراهية تجاه حكامها الإمبرياليين، فإن من المدهش أن نرى مدى الضآلة التي يتسم بها عنصر الكراهية في هذه الضروب من التعبير عن الشعور القومي.
السفير