عن القهر والغلبة مصدراً للشرعية
موفق نيربية
باقتراح من وزير الداخلية السوفياتي بيريا، وموافقة المكتب السياسي للحزب الشيوعي بزعامة ستالين، تمّ إعدام 22 ألف بولندي، من أطباء وأساتذة وبرلمانيين وضباط في الجيش والشرطة ومثقفين. وفي غابة كاتين نفسها، سقطت منذ أيام الطائرة التي كانت تقلّ الرئيس البولندي وعشرات من كبار أركان حكومته. لا يُتَوقّع أن تهز الكارثة بنيان الدولة والمجتمع البولنديين، إلا بحجم الحزن الطاغي. ولكن، ورد إلى خاطر بعضنا ما يمكن أن يحدث لو تعرضت لمثل ذلك دولة تقوم شرعية سلطانها على القهر والغلبة وحدهما، لا على مصادر الشرعية السياسية الحديثة التي تحصّن البلاد أمام الزلازل.
طوال عقودٍ من القرن العشرين، اقتبس الكثيرون تعداد مصادر الشرعية عند ماكس فيبر، بين وجود القائد الملهم الكاريزماتي، والتقليد الموروث الراضي بالحكم المطلق، إلى الدولة الوطنية الديموقراطية الحديثة القائمة على الدستور والمؤسسات وفصل السلطات وتداول الحكم بالرجوع إلى رأي المواطنين الأحرار بين فترة وأخرى. لكن أحداً لم يعد يعترف بالمصدرين الأولين، في إعطاء أية سلطة شرعيتها. والشرعية في مضمونها السياسي رضا المحكومين وقبولهم المعلن بطريقة حكمهم، وفي شكلها الحقوقي هي الاتفاق مع القانون الساري في الفضاء المعني – الذي يتسع ويصبح كونياً شيئاً فشيئاً -، وفي التسليم بحكمه والانصياع له. في حين لا يسلّم حكام القهر والغلبة بذلك القانون، يلجأون إلى القومية والقبلية والدين لتشريع سلطاتهم واستدامتها. فالأخطار المحدقة بالأمة وهجمات الاستعمار لا تحتمل إلا قبضة الفرد الحديدية المطلقة، وكذلك إرث الدم وخصوصيته، أو التميّز عن الآخرين بالعون الإلهي.
ما يحدث في السودان حالياً تجسيد لأزمة الشرعية في احتدامها. وليس مصادفة اقترانها بطلبات «شرعية» لمساءلة الرئيس البشير أمام المحكمة الجنائية الدولية، وباستحقاق تقرير مصير الجنوب «الشرعي»، ودخول السودان في سوق النفط «الشرعية» الدولية. هناك حاجة وضرورة إلى سلطة شرعية أكثر التزاماً بالمعايير العالمية، وإلى إثبات قبول الشعب لحكم حكامه، وإلى تصويته على تشريع ما سبق، وما سيأتي. وسينجح البشير في اجتياز الحاجز بدعم من حزبه وأجهزته ووعوده الداخلية والخارجية، لكن الوقت ما زال مبكراً للحكم على نجاح السودان نفسه.
وما يحدث في اليمن فيه شيء من ذلك، سينتقل إلى غير موقع في المنطقة. فالبعض يقبل مبدأ التطور الهادئ الآمن مقبلاً، والبعض الآخر يقبله مدبراً، وغيرهما يلتف عليه محتمياً بمبدأ الاستقرار والمصلحة الدولية فيه وقلق الناس من الفوضى. لكن القاسم المشترك بين الجميع هو تأخير الأمر واللعب على عامل الزمن، لعل الظروف المحيطة تتغيّر، أو تتقولب الظروف الداخلية بحيث تصبح أكثر ملاءمة لاستمرار السلطات الحالية. في هذه الحالة الانتقالية التي يمكن أن تطول، لا بدّ من تعزيز القهر وتنويع أشكاله، بل الابتكار فيها. فالحاجة إلى الشورى أو حتى البيعة – بمفهومها الأصيل لا باقتباساتها المحدثة – انتفت منذ ثمانمئة عام، ودفعت حالة الانحدار والتدهور والانكشاف آنذاك أمام الخارج إلى تمرير مفهوم القوة والقهر والغلبة أساساً شرعياً للسلطان، لأن الحاكم القوي الفاجر أفضل من الضعيف الصالح، فقوة الأول للناس وفجوره عليه، وضعف الثاني على الناس وصلاحه له.
بالقياس والشكل، تصبح الهجرة إلى الخارج أو الداخل خياراً مقبولاً من الغالب بأمره والمغلوب عليه، لا يحجبه الأول – بالمنع من السفر مثلاً – حين يكون محاصراً أو منتشياً بانتصاراته إلا عن النخبة، ما دام لم يعد قادراً ومطلق اليد – كما كان في الماضي – في استئصالها على ما فعل جمال باشا في أوائل القرن الماضي بنخبة المشرق، وما فعل ستالين وهتلر في نخبة البولونيين في الحرب العالمية الثانية. والاستقرار لا يكون ممكناً إلا بتجفيف النخبة أو تحييدها، أو بصمتها وانكفائها في الهجرة إلى داخل النفس لانعدام القدرة على الهجرة إلى الخارج أو الرغبة فيها. يخطو السودان خطوة على طريق الشرعية المعاصرة بعدما خطا العراق خطوتين، ويتلكأ اليمن في خطوته، وتُقيّد أرجل لبنان بالسلاسل من جديد. لكن الأوضاع عموماً تنذر بتسارع أكبر، محسوب على مسطرة العالم المتغير. فنسبية الزمن ثبتت، والأعوام تزداد قصراً وانكماشاً يوماً بعد يوم. فما الذي ينتظرونه؟
بعد حالة الاستقرار والاستبداد الطويلة، التي ساعد عليها ودعمها «الاستعمار» ذاته الذي لا يسمحون لنا إلا برؤية أخطاره ومطامعه، أصبح مطلوباً وضرورياً القبول بمبدأ التحديث المتدرج. لأن مفهوم الاستمرار في الحفاظ على السلطة أصبح معادلاً ومقابلاً لمفهوم الثورة في العمل المعارض سابقاً، فكلاهما يحمل الطاقة على تخريب عملية التقدم.
وكل تأخير في أداء الاستحقاق يؤدي إلى خراب الهيكل، أو إلى مساءلة أكبر للمتأخرين عن واجباتهم، الذين يتحملون مسؤولية ما يحدث أو سيحدث. وأصبح مثار استغراب أن يخاف أولو الأمر – بما لديهم من القدرة على البطش – من فتح النوافذ أمام حرية التعبير أولاً، أو تطبيق لائحة حقوق الإنسان، كأول خطوة في تعزيز الثقة والرغبة في المشاركة، ولو في شكل محدود.
والمؤسسات الصورية القائمة أو التي يتم تصنيعها كشكل فارغ للتطوير لا تكفي إلا قليلاً وموقتاً، وهي شهادة على من يتمسك بشكلانيتها قبل أن تكون شهادة له. كما أن الدساتير لا تعني شيئاً ما دامت معطلة بحالة الطوارئ الرسمية أو الفعلية. فالنزعة الدستورية مفهوم لا يقبل الالتفاف عليه، والعصر لن يقبل بين ظهرانيه دفاعاً مفبركاً عن الشرعية المبنية على غير العقد الاجتماعي، الذي هو وحده شريعة المتعاقدين والحكم بينهم.
ذريعة الدولة القوية أيضاً لم تعد كافية، فلا أحد عاقلاً يريد عبور باب التغيير من طريق النيل من قوة الدولة التي هي بذاتها ضمانة هذا التغيير. لكن قوة الحاكم لم تعد التعبير الملائم عن قوة الدولة منذ قرون، وها هي قوة الرئيس العراقي الراحل بجبروتها لم تستطع الحفاظ على الدولة، وفتحتها أمام «الخارج» الذي شتّت شملها وبناءها وأعادها إلى دائرة الخطر وآلام التأسيس الجديد. ذلك يثبت أن القهر والغلبة لم يعودا مصدراً للشرعية أولاً، وليسا حصناً منيعاً للدولة في الشروط المعاصرة. ربما يكون الفساد خطوة على طريق التراكم والتنمية إذا استطاع تبييض أمواله، وإلا فهو استنزاف للثروة الوطنية ستجرى محاسبته أصولاً. والاستبداد نفسه ربما يكون مدخلاً إلى الدولة – الأمة، مشروطاً بالتحول إلى حكم القانون، ومفتوحاً على التحول إلى الدولة المدنية الحديثة. في حين يصبح باستمراره مجرد قشرة صلبة لا تحوي إلا الفراغ والفوضى الكامنة. لذلك يقال إن المسار الحديث ابتدأ من حيث العقل.
الحياة