صفحات مختارة

لماذا يبقى الديكتاتور على قيد الحياة؟

بسام مقداد
في الخامس من آذار من كل عام تحتفل قطاعات واسعة من الشعب الروسي والاحزاب السياسية، وفي طليعتها الحزب الشيوعي، بذكرى وفاة ستالين. يذكر موقع الحزب الشيوعي الروسي على الانترنت ان آلاف المواطنين الروس تجمعوا في هذه المناسبة في الساحة الحمراء في وسط موسكو ووضعوا الزهورعلى ضريح ستالين.
الجدل حول ستالين ودوره في تاريخ روسيا خلال القرن العشرين لا يزال قائما في روسيا حتى الآن، على الرغم من مرور سبعة وخمسين عاما على وفاته. يذكّرنا هذا النقاش بما يدور الآن في العراق من صراع حول صدام حسين ودوره في المأساة العراقية الراهنة. من المعروف ان النظام السوفياتي السابق لعب دورا بارزا في تثبيت دعائم سلطة صدام حسين وسائر أنظمة “الممانعة” في المنطقة. وانتشرت في الاتحاد السوفياتي قبل سقوطه في اوائل التسعينات من القرن الماضي، ومن ثم في روسيا الاتحادية بعد ذلك، اسطورة مفادها ان صدام حسين هو حفيد ستالين من ابنه البكر ياكوف. وكان ابن ستالين هذا تم أسره على يد الألمان إبان الحرب العالمية الثانية وقُتل في أحد معسكرات الاعتقال الالمانية، بعدما رفض ستالين، كما يقال، مبادلته بالجنرال الالماني باولوس الذي قاد معركة ستالينغراد وتم أسره إثر هزيمة الجيش الالماني فيها.
لكن الاسطورة تقول بأن الالمان لم يتخلصوا من ابن ستالين “مراعاة” لوالده، بل تم إرساله الى العراق، حيث كانت المانيا تتمتع بنفوذ كبير آنذاك، وخصوصاً في اوساط الحركة الاستقلالية العراقية عن بريطانبا. وفي العراق تزوج ياكوف من امرأة عراقية وأنجب منها صدّاماً. في تموز من عام 2002 نشرت مجلة ogonok الاسبوعبة الروسية الشهيرة مقابلة مع غالينا، حفيدة ستالين من ابنه ياكوف المذكور، بعنوان “كلا انا لست شقيقة صدام حسين”، نفت خلالها غالينا هذه الرواية – الاسطورة نفيا قاطعاً، بالطبع.
لكن على الرغم من نفي هذه السيدة لتلك الرواية التي كانت تنتشر على نطاق واسع جداً في الاوساط الشعبية الروسية آنئذٍ، الا ان صدام حسين، كما هو معروف، كان يحظى بتعاطف شعبي واسع في الاتحاد السوفياتي قبل انهياره، ومن ثم في روسيا الاتحادية بعد ذلك. ولم يكن هذا التعاطف سوى صدى للسياسة الرسمية التي اتبعها الاتحاد السوفياتي خلال فترة توسعه الهائل بعد الانتصار على النازية في الحرب العالمية الثانية وتعاظم نفوذه في اوساط ما كان يسمّى “حركة التحرر الوطني” و”الانظمة الوطنية التقدمية” التي انبثقت من هذه الحركة.
لم يكن صدام وحده “حفيد” ستالين، بل كان ولا يزال لستالين أحفاد كثر في منطقتنا وفي “بلدان حركة التحرر الوطني”. العلاقة التي كانت قائمة بين الاتحاد السوفياتي وهؤلاء “الاحفاد” لا تزال معالمها واضحة في العلاقة التي تربط روسيا بالبلدان التي لا تزال تقع تحت هيمنة أنظمة مشابهة لنظام صدام حسين، سواء تحت الشعارات الدينية او شعارات العدالة الاجتماعية او الشعارات القومجية.
لهذا، فالاهتمام بالجدل الذي لا يزال محتدما في روسيا حول دور ستالين في التاريخ الروسي ليس اهتماما بالتاريخ، بقدر ما هو اهتمام بالواقع الراهن في هذه المنطقة وفي سواها من بلدان افريقيا واميركا اللاتينية، التي لا يزال “أحفاد” ستالين يلعبون دورا هائلا في تحديد مصائر بلدانها وشعوبها. ان الاحفاد، كما “الجد” لا يزالون يتمتعون بتأثير هائل في الاوساط الشعبية في بلدانهم على الرغم من كل الجرائم والقباحات التي ارتكبها “الجد” ويرتكبها هؤلاء في حق شعوبهم وبلدانهم.
صورة ستالين تعود الى روسيا
في آذار نشرت الصحيفة الايطالية “Altrenotizie” مقالة لمراسلها من العاصمة الروسية تحت عنوان “شبح ستالين في الساحات الروسية”، تحدثت فيها عن الاستعدادات الهائلة التي يقوم بها مؤيدو الديكتاتور للاحتفال في 9 أيار المقبل بالذكرى الخامسة والستين للانتصار على الفاشية. وألقت الصحيفة الضوء على اللافتات الهائلة التي يتم اعدادها في موسكو وتحمل صورة ستالين التقليدية باللباس العسكري، ولفتت الى طباعة كميات هائلة من البطاقات البريدية والمناشير والكتب تكريما لذكراه، وسوف تباع في الشوارع تماثيل ستالين النصفية المصنوعة من البرونز والجبس، ومختلف المنتجات والأزرار والايقونات التي تحمل صورته. ويقول كاتب المقالة من العاصمة الروسية ان هذا يذكّره بالسنوات الاولى لعهد بريجنيف في مطلع الستينات، حين كانت تسود في الاتحاد السوفياتي “الستالينية الشعبية”، حيث كان سائقو التاكسي والشاحنات يلصقون على زجاج مركباتهم صور ستاليـــن كرمز لـ”الماضي البطولي”.
أبرز سمات الستالينية
في اواخر العام الماضي وفي استطلاع أجرته الاسبوعية الروسية new times وافق 50 في المئة من الذين شملهم الاستطلاع على وصف ستالين بأنه “قائد حكيم قاد الاتحاد السوفياتي الى القوة والازدهار” ولم يرفض هذا الوصف سوى 13 في المئة فقط.
وتقول الاسبوعية المذكورة في مناسبة أخرى ان استطلاعات الرأي التي يجريها السوسيولوجيون الروس تظهر ان ستالين دائماً في عداد الثلاثة الاول من “أبرز القادة في كل العصور”. معرفة الناس بالارهاب الستاليني لا  تترك الا تأثيراَ ضعيفا على الوعي الجماعي.
أحـد المشاركين فـي مؤتمر “تاريخ الستالينية” الذي عقد في موسكو اواخر عام 2008 يقول ان اهم السمات المميزة للستالينية منذ ولادتها هي اعتمادها الارهاب وسيلة صالحة لمعالجة القضايا السياسية والاجتماعية. فقد سمح عنف الدولة بالذات بمركزة الحكم، وتمزيق العلاقات الافقية وخلق حركية عمودية عالية. كما سمح بتشكيل هذا الجيش الكبير من المنخرطين في العمل العبودي، الذي حل مكان العمل المأجور في الاتحاد السوفياتي.
من هنا فإن الذاكرة عن الستالينية هي الذاكرة عن ارهاب الدولة كعامل عضوي مكوّن للمرحلة بكل احداثها وتجلياتها.
الجلادون والضحايا
ان الذاكرة عن الستالينية في روسيا اليوم هي الذاكرة عن ضحايا ولكن ليس عن جريمة. وليس من توافق اجتماعي على التعبير عن هذه الذاكرة بوصفها ذاكرة عن جريمة. المشكلة انه ليس من سند بالمعنى الحقوقي يستند اليه الوعي الاجتماعي في ذاكرته عن الستالينية. فلا توجد وثيقة حقوقية واضحة يسمّى فيها ارهاب الدولة جريمة. السطران الواردان في مقدمة قانون عام 1991 حول اعادة الاعتبار الى الضحايا غير كافيين كما ترى  new times نقلا عن المشارك المذكور في مؤتمر “تاريخ الستالينية”. ولم تجر في روسيا الجديدة محاكمة واحدة للمشاركين في الارهاب الستاليني. بل على العكس، في ايلول الماضي تقدم حفيد ستالين، يفغيني جوغاشفيلي، بدعوى ضد صحيفة “نوفايا غازيتا” الروسية بتهمة تشويه سمعة جده لأنها قالت ان “ستالين أرسل الى الموت آلاف المواطنين…” وطالب الصحيفة بتعويض يقارب 200 ألف جنيه استرليني تقريبا.
إن فهم الوعي الجماعي للمآسي التاريخية يرتكز على توزيع الأدوار بين الخير والشر والتماهي مع واحد من الدورين. ان التماهي الاسهل هو مع الخير، اي مع الضحية البريئة، بل الأفضل التماهي مع النضال البطولي ضد الشر. ومن الممكن حتى التماهي مع الشر، كما فعل الألمان لكي يتملصوا من هذا الشر: للأسف ايها السادة، أجل هكذا كنا، لكننا لسنا كذلك الآن، ولن نكون ثانية كما كنا أبداً.
“لكن ماذا نفعل نحن الذين يسكنون في روسيا؟”، يتساءل عضو المؤتمر المذكور. “فمن الصعوبة جداً أن نقسم الناس في الإرهاب السوفياتي جلادين وضحايا. في الذاكرة عن الإرهاب ليس في وسعنا توزيع الأدوار الرئيسية ووضع الضميرين “نحن” و”هم” في مكانيهما. ان هذا العجز عن حصر الشر يعرقل تشكل ذاكرة كفية عن الارهاب ويعمق الصدمة التي تتميز بها طبيعتها ويصبح سبباً من أسباب إبعادها الى هامش الذاكرة التاريخية”.
صورتان متناقضتان لستالين
عملت القيادة الروسية التي أتت بعد يلتسين على ترميم الماضي واستخدامه على أكمل وجه. فقد سعت الى اقناع مواطنيها بفكرة البلد العظيم الذي يبقى “عظيما في مختلف مراحل التاريخ ويخرج مرفوع الرأس من جميع التجارب التي يمر بها”. هذا النموذج تحتاجه هذه القيادة من أجل تضامن السكان واستعادة هيبة الدولة وتعزيز سيطرتها. لكن صورة الدولة العظمى “المحاطة بالأعداء”، كما في السابق، برزت على خلفيتها صورة القائد صاحب الشوارب العظيم. برزت صورة ستالين! “هذه النتيجة كانت حتمية وطبيعية”.
صورتان لستالين دخلتا في صراع شديد: صورة الستالينية كما هي، أي صورة النظام الاجرامي المسؤول عن عشرات السنين من ارهاب الدولة، وصورة مرحلة الانتصارات المجيدة والانجازات العظيمة، وفي مقدمها الانتصار الرئيسي في الحرب الوطنية العظمى. استبدلت اليوم الذاكرة عن الحرب بالذاكرة عن النصر. وبدأ هذا الاستبدال بعد سقوط خروتشوف مباشرة. ولم تنته عملية الاستبدال سوى الآن، “حين لم يتبق أحد تقريبا من المقاتلين على الجبهة الذين كان في وسعهم من خلال تجاربهم الشخصية تصحيح الصورة النمطية الجماعية”.
ان الذاكرة عن الانتصار من دون الذاكرة عن ثمن الانتصار، لا يمكن بالطبع، ان تكون معادية للستالينية. لذا تتعايش على نحو سيئ مع الذاكرة عن الارهاب. هاتان الذاكرتان دخلتا في صراع بينهما. النصر هو مرحلة ستالين، والإرهاب أيضاً هو مرحلة ستالين. مصالحة هاتين الصورتين عن الماضي مستحيلة الا اذا طردت الواحدة منهما الأخرى، او على الأقل أدخلت عليها تعديلات جدية. وهذا ما حصل، اذ تراجعت الذاكرة عن الارهاب واستبعدت الى هامش الوعي الجماعي.
بشير مراسل الصحيفة الايطالية المذكورة الى ان هناك أخباراً مفادها ان مجموعة من “الستالينيين” من منطقة بولونيا في ايطاليا سوف تشارك في التظاهرة المزمع تنظيمها في موسكو، وستحمل معها بيانا أصدرته باسم “الفيديرالية البولونية للحزب الشيوعي الايطالي” في يوم وفاة ستالين “الصديق العظيم للشعب الايطالي”.
كم تتشابه الامور! لا يزال الجميع يذكر الاحتفال التكريمي الذي أقيم منذ مدة وجيزة في بيروت تكريما لصدام حسين، ومشاركة الشيوعيين اللبنانيين في هذا التكريم! ¶
النهار الثقافي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى