من الدين الانضباطي والدولة الاعتباطية إلى ما بعد
بقلم ياسين الحاج صالح
في حيثية التحكم الذاتي أو الانضباط، الدين في بلداننا هو أقرب معادل للدولة الغربية الحديثة. السلطان السماوي هو ما يشغل الموقع “البانوبتيكي” الذي تكلم عليه ميشال فوكو في “المراقبة والعقاب”: يشرف على الناس ويراقبهم جميعا في وقت واحد، يراهم من داخلهم ومن خارجهم أيضا، من دون أن يروه. الصلوات الإسلامية الخمس التي يؤديها كثيرون، الصيام الذي تلتزمه أكثرية المسلمين، طقوس وعادات دينية وأخلاقية متنوعة يتقيد بها كثيرون أيضا… هذه جوانب لانضباط جسدي وسلوكي كثيف وواسع النطاق، لا يجد المرء نظائر أخرى له في مجتمعاتنا، ولا يضاهيها في الغرب إلا ضوابط الدولة الحديثة وقواعدها.
من جهة أخرى، وخلافا لما هي الحال في الغرب، الفرد في مجتمعاتنا يتمتع بدرجة عالية من الحرية الخام، ومتدنية من الحرية المدنية أو السياسية القائمة على الانضباط الجسدي والنفسي والسلوكي والفكري. أعني بالحرية الخام، اللاتقيد الكلي في الحيز العام، أو بالأحرى خارج النطاق الخاص: يفعل الواحد منا كل شيء تقريبا، ولا يمتنع عن فعل شيء إن أمن العاقبة. يكاد يكون كل ما هو خارج البيت أو الحي دار غربة أو بيئة معادية، مباحة: يُعامل الشارع والحديقة بقسوة، المرفق العام بعدوانية، تُرمى الفضلات في كل مكان، انضباط الجسد متدنّ: نبصق أينما كنا، ونتبول بصورة شبه علنية في الزوايا نصف المحجوبة. هذه الحرية “الطبيعية” وفيرة. على أنها مقصورة على الذكور حصراً.
أما في الحيز الخاص، في بيوتنا وبيئاتنا الضيقة، فنحن منضبطون بدرجة لا بأس بها: نحترم إلى حد كبير قواعد دينية وعرفية في التعامل مع الأفراد والأشياء، ونراعي جيدا الترتيب والمراتب المقررة، بل وننجح أحيانا في نطاقاتنا الضيقة في الانضباط بقواعد غير عرفية وغير دينية، نبتكرها لأنفسنا أو نكيّفها مما هو متاح من أنظمة منتشرة عالميا. وحين نكون نساء، ننضبط حتى خارج النطاق الخاص جسديا وسلوكيا. يبدو الانضباط قريناً للخصوصية والمرأة. ولعله من هذا الباب يتطلع إسلاميون كثيرون إلى الجمع بينهما: بردِّ النساء إلى البيوت، وإلا فبالعزل بين الجنسين في المدرسة والجامعة، ما يعادل نقل البيوت إلى الحيز العام.
الحرية المدنية نادرة، في المقابل. حريات الرأي والتعبير والاعتقاد والتجمع والاحتجاج والتنظيم والسفر والترشح والانتخاب متدهورة. تظهر السلطات العامة تشددا صارما في مجال قمع الحريات العامة. أما الحريات الخام فلا تكاد تعنى بضبطها. ما يحتمل وجوده من قوانين في هذا الشأن مهمل وغير فعال، الأمر الذي يعززه التسيب والفساد الواسعان لنخب السلطة والإدارة العامة والأجهزة القضائية.
***
هل الناس الذين ينضبطون دينياً، هم أنفسهم غير المنضبطين خارج الحيز الخاص؟ يتقاطعان بمساحة كبيرة. إن لم يشعر البعض بأن قيامهم بحقوق الله رخصة تعفيهم من الوفاء بحقوق الناس أو برعاية المشترك العام بينهم، فإنهم لا يجدون رابطا بين الاثنين. يصلّون ويصومون، لكنهم لا يمتنعون عن رمي أوساخهم في النهر (بردى مثلا)، أو ترك مزبلة وراءهم في الحديقة التي يلوذون بها من حرّ أماسي الصيف. ولا يبدو أن النساء يسجلن تمايزا ذا بال عن الرجال في هذا الشأن.
فهل لذلك صلة بكونهم وكونهن غير أحرار سياسيا؟ هل يكون التعامل العدواني مع كل ما هو خارج النطاق الخاص، احتجاجا سياسيا؟ ليس الأمر كذلك في الواقع. مفهوم المصلحة العامة غريب على أكثرية سكان بلادنا، كان ولا يزال. وهو على كل حال، ليس مفهوما فطريا أو وراثيا. حيث يكون قويا، فإن قوته نتاج التربية والتعليم والقوانين، حصيلة انضباط مصنوع، تتعهده اليوم الدولة بوسائل التعليم والقانون والإدارة والعقاب. في هذا، دولنا قاصرة إلى أقصى حد. ليس هذا لأنها تنكر الحريات العامة لسكانها، بل لأنها لا تبذل ولا تتيح بذل أي جهد يرسخ مبدأ المصلحة العامة في أذهانهم وفي أعيان عالمهم، ولا تصلح نخبها القائدة مثالا إيجابيا على الانضباط بذلك المبدأ.
فهل يحتمل أن السلطات تنكر حريات مواطنيها العامة لأنهم لا يزالون خاماً، “متخلفين”، وغير جديرين بالحرية؟ وأن استبدادها المعاين يكتسب معقولية ما من انضباط سياساتها بمخطط تطوري، تستبطنه الدولة بما هي كذلك، ومآله الترقي والتقدم العامان، على ما يتصور عزيز العظمة؟ ولا في حال من الأحوال. الواقع أن أطقم الحكم فيها هي، بالعكس، مثال للأنانية والامتياز وتسخير العام لمصالحها الخاصة. ونمط ممارستها للسلطة ليس تفريديا، ولا انضباطيا أو مجردا وعاما، بل هو محاسيبي وقمعي وشخصي وامتيازي. وعبر المحاسيبية والامتياز، يقوض هذه النمط فرص التفريد والانضباط، ويغذي التشكلات الجمعية العضوانية، العشيرة والطائفة وأشباههما.
تبدو السلطة العمومية المفترضة امتدادا لحرياتنا الطبيعية الخام، لا لانضباطنا في المجالين الديني والخاص. وهي ذاتها سلطة خام وطبيعية، لا تتخيل لنفسها غير الحرية الخام، حرية فعل كل شيء ونيل كل شيء وعدم اعتراض أي شيء سبيلها، ومواجهة أي اعتراض بالإكراه المادي المباشر. هي أيضا ذكورية جدا وذات نزوع استعرائي، لا توفر فرصة لاستعراض قضيبها الرهيب أمام محكوميها، ولا لتعرية هؤلاء وكشفهم، أو إخصائهم. في مصر، “أم الدنيا”، يشيع أن يكره ضباط الأمن الموقوف أمامهم على الإقرار بأنه “مرة” (امرأة)! أما في سجن تدمر السوري فقد كان مطلوبا منا، نحن السجناء السياسيين، أن نقول إننا “طنطات”، أي مخنثون أو فاقدون لرجولتنا، ما يجعلنا مستحقين للتعذيب والإذلال.
السلطة الجهازية (نقيض المؤسسية هنا) تتصرف في الحيز العام بقليل من الانضباط، وأحيانا بطيش واستهتار، أما إذا تعرض سلطانها لتهديد فتتصرف بوحشية منفلتة، تبتغي منها تأديب المتمردين المحتملين وترويع عموم السكان. “السلطان” هو مجالها الخاص الذي لا ينضبط سلوكها في مواجهة أي “تطفل” عليه إلا في حدود قدرتها. توصف أحيانا بأنها اعتباطية. وهي جديرة بهذا الوصف الذي نُضمِّنه أيضا صفتها “الخارجية”، بمعنى تعذر استبطانها واحترامها، المتصل بدوره بضمور عنصرها المعنوي، مقابل التضخم المفرط لبعدها العضلي الإكراهي. لكن الجوهري في الصفة الاعتباطية هو امتناعها (السلطة) على الانضباط بقاعدة مطردة، بقانون ثابت أياً يكن. في هذا المعنى هي نقيض السلطة في الدولة الغربية الحديثة على نحو ما حللها فوكو. السلطة التي تهندس الأجساد والحركات والنظرات، السلطة الدسبلينية، ليست سلطة الدولة وحدها، إنها مستبطنة في الأسرة وفي المدرسة والثقافة والإدارة…، وفي مناهج العلوم، وفي هيكلة الجامعة، مبثوثة في كل زوايا الجسم الاجتماعي. لا تترك هذه السلطة الحداثية شيئاً طبيعيا، تقضي على الحريات الخام للسكان تماما، “تمدنهم”، وتعاقب بدأب لا يكل، كل ما هو طبيعي وخام. أبو الأعلى المودودي محقّ في القول إن المقابل العربي لكلمة state ومعادلاتها الأوروبية، هو الدين، وليس الدولة. لكنه بنى على ذلك نظرية سياسية تمنح وكالة حكم إلهية للإسلاميين. محصول نظريته التي تغفل وقائع مقاومة الدين والخروج منه، القديمة والحديثة، إقامة دولة دينية شمولية، يحكمها باسم الله متدينون متعصبون، وتفرض شموليتها الذاتية بالقوة الخام، خلافا للدولة الحديثة التي هي شمولية فعلاً، لكن شموليتها موضوعية إن جاز التعبير، انضباطية وليست قمعية.
***
لدينا، إذاً، دين انضباطي فعال بصورة معقولة. ولدينا انضباط محقق في مجالاتنا الخاصة. لكننا غير منضبطين في “الدولة” وفي الحيز العام. من جهة أخرى، لدينا سلطات حكم اعتباطية (لا تنضبط بأيّ قواعد) ومستوى متدنٍّ من الحريات المدنية. السؤال الذي يمكن أن يثار هنا يتصل بكيفية تعميم الانضباط من المجالين الخاص والديني إلى المجال العام والسياسي.
لا يتحقق ذلك بحال استنادا إلى الضوابط الدينية المقررة في “الشريعة”. فضلا عن تراجع التماهي العام بالإسلام واتساع قاعدة الخروج من الدين، معلوم أن هناك مجالين استعصيا على هذه تاريخياً. مجال الإيمان الشخصي الحي الذي يتعذر ضبطه فقهيا، وقد استثمره التصوف، ومجال سلطة الدولة التي جرى تقنين الشريعة في ظلها كإطار اجتماعي محدِّد لهذا التقنين، لكن ليس كموضع يُقَنَّن بفاعلية مثل غيره. وهو ما أبقى الباب مشرعا لما سمّاه عبدالله العروي “طوبى الخلافة”، الطوبى التي لم تمنع يوما الفقهاء أنفسهم من تقبّل دول الأمر الواقع، وحتى تسويغ ما يصفونه هم أنفسهم بالظلم (تجنبا لـ”الفتنة”). هذا فيما يعول بالضبط على تمكين الإيمان الشخصي الحي وعلى الدولة العامة من أجل تحكم ذاتي جديد وتمدن جديد.
فإذا كان الواقع المعاين مُحَكِّما، فمن الجلي أن الطاقة الانضباطية للتدين محدودة جدا خارج النطاقين الخاص والديني، فوق كونها مقصورة أصلا على المسلمين المؤمنين. ولا يكاد الضمير الديني الإسلامي ينهى اليوم عما يعتبر مفاسد من وجهة نظر الدولة الوطنية وحسن سير مؤسساتها وإدارتها. التكاسل في العمل وقطعه من أجل الصلاة مثلا، أو إدخال الاعتقاد الديني للمعلم في العملية التعليمية، بل ودرجة أدنى من التردد في سرقة المال العام (قياسا إلى أي مال خاص)، فضلا عن الإضرار بالبيئة من دون وازع…، أمور مشاهدة كثيرا اليوم في سوريا. فوق ذلك يستبطن التدين الإسلامي منطقا اجتماعيا جمعويا ومضادا للفردية التي هي مناط الانضباط. باختصار، لا حل دينيا في مجتمعاتنا المعاصرة لتدني الانضباط المدني، المؤسس للحريات العامة.
كيف يحتمل أن يتطور انضباط في المجال العام والسياسي، إذاً؟
ربما بتطوير البعد الفكري والمعنوي، أكاد أقول الديني، للدولة والفرد. أعني أن يتطور للدولة “روح” ذاتي مسائل ومحاسب، “دين” تنضبط به. وكذلك أن يتكوّن الفرد، ويمسي قيمة ومبدأ. يلزم أن يكون الفرد عاما حتى يتصرف حيال العام كأنه في مجاله الخاص. والفرد العام هو “المواطن”، الذي لا يراعي الصالح العام إلا لأنه متشكل معه ومن مادته، فيتبادلان معا الصيانة. العام (الدولة والقانون…) يصون جسد الفرد وبيته وعمله وعقله (“مقاصد الشريعة”؟)، والفرد يصونه لأنه امتداده الطبيعي.
ليس الدين حلاً لمشكلة الدولة الاعتباطية خلافا لما يفضل أن يعتقد الإسلاميون. لا يصلح دستورا للدولة، ولا أخلاقية عامة للأفراد حيالها، وحيال الحيز العام بخاصة. والدولة ليست حلا لمشكلة الدين الانضباطي المتطلع إلى السلطة، على ما يزكي علمانيون عابدون للدولة. هي فاقدة للبعد القيمي الذي كان من شأنه أن يجعلها ملجأ للأكثرية في وجه تسلطية الإسلاميين وشدتهم. والواقع أننا لا نرى سبيلا لتطوير بعد أخلاقي للدولة من دون صراع معها ومع الدين معاً، يفكّ قبضة هذا عن الأفراد فيسهل تشكل ضمائر خاصة وإرادات وعقول خاصة لهم، ويضبط اليد الباطشة لتلك فيجعل انفكاك تبعيتهم الدينية حرية مدنية عزيزة.
نحتاج إلى اشتغال نقدي واسع على كل من الدولة الاعتباطية وصيغة الانضباط الديني المتاحة في آن واحد. الأولى عامة، لكنها خام و”طبيعية” وذكورية، والثانية منضبطة، لكنها جزئية ومتراجعة، وعازلة للنساء، وغير مؤهلة لتوليد انضباط عام، مواطني. الاشتغال على الدولة وحدها أو على الدين وحده، غير كاف. لا بد من مخاصمتهما معا. الرهان دولة عامة انضباطية، ودين طوعي خاص ¶
خاص – صفحات سورية –