من ذاكرة الصفحات: رسالة قصيرة إلى بشار الأسد
أكرم شلغين
بداية، أحب أن أوضح أنني لست من هواة الإستماع إلى خطاباتك أو قراءة مقابلاتك الصحفية أو من متتبعيها، فوقتي ثمين جداً وكل دقيقة منه محسوبة ولا أستطيع هدره بالاستماع مرة إلى الفلسفة غير الموفقة عن “الربيع” (بتجويف هذه الكلمة من المحتوى السياسي التاريخي الذي قيلت بسياقه)، وأخرى عن تعريف “المثقف” والذي يبدو أنك ارتأيت أن لا وجود لمثقف في سورية إلا أنت وقبلك أبيك، وحديثاً فهمك من هم من المجتمع المدني .. ولكن أحياناً تعترضني عبارة لك يقتبسها هذا أو ذاك لذا أجد نفسي مضطراً لقراءتها ضمن نص آخر وردت به. وهذه المرة وجدت من اقتبس منك تصريحاً قلتَ فيه لصحفيين أمريكيين: “عندما اشعر بأنني لا استطيع ان اقدم شيئاً لوطني سأرحل ” ولهذا أجد نفسي مضطراً لتوجيه هذه الكلمات المقتضبة تعليقاً على عبارتك وأرفقها بغيض من فيض من التساؤلات التي لا يتسع وقتي لمزيد منها الآن. قبل كل شيء، يجب أن تعرف أنه ليس مهماً ما تشعر به أنت كواحد بل المهم ما يشعر به العشرون مليون سوري؛ ليس مهماً ما تشعربه وتقوله أنت بل المهم ما يشير إليه ويقوله الواقع. وأما حاجة الوطن إليك أو مدى إمكانيتك على تقديم شيء للوطن فلا تقررها أنت أو أبو المجد (بهجت سليمان) أو آصف شوكت أوحسن خليل أو مصطفى طلاس وأمثالكم، بل يجب أن يقررها الشعب السوري وحده. هذا الشعب الذي لم يختارك، هذا الشعب الذي لو أجريت انتخابات حرة ونزيهة لقال كلمته بوضوح لا للأسد ولا لإبنه، ولو أجريت انتخابات حرة نزيهة (على غرار ما يجري في العالم بالطبع) وكان هناك اسماً آخراً غير اسمك (حتى لو لم يسمع بإسمه أحد في سورية من قبل) لاختارت سورية بملايينها العشرين الاسم الآخر للخلاص من الأسد وإرثه.
ندرك جيداً أنك ابن أبيك حينما تقول ما تقوله. كذلك ذاكرتنا ليست قصيرة ونتذكر أنه بعد يوم دامٍ في سورية (خاصة في حلب) استباحت به السلطة دماء الناس الذين خرجوا للشارع ليقولوا لا لحافظ الأسد قال والدك ومورثك حافظ الأسد كلمته المشهورة مساء ذلك اليوم (8 آذار عام 1979) أنه لو وجد مواطن واحد تزعزعت ثقته بأبيك لترك الحكم ..وإن جلسة بين سنابل القمح في قريته تعادل عنده كل كراسي الحكم …ولكن المسألة له كانت وطنية وقومية. وبينما كان أبوك يدعي ذلك كان يهيء أخيك باسل لمستقبل سياسي رئاسي وراثي وهو في سن المراهقة.
ما لفت انتباهي أيضاً في ما نقل عنك هو ادعاءك بالمواطنة حين تقول: ” كمواطن سوري ، علي …”! والسؤال الذي يبقى بدون جواب هو: هل تعتقد أنك بمثل هذا التصريح تسخر من الصحفيين الأمريكيين ظناً أنهم لا يدركون كيف سارت وتسير الأمور في سورية ؟ أم أنك تعتقد أنهم مثل السوريين يسمعون كلماتك ولا يستطيعون التعليق عليها خوفاً من مخابراتك؟ أم أنك فعلاً أجهل من أن تدرك ما تعنيه كلمة مواطن في سورية؟ كيف تتلفظ الآن بمفردة “مواطن”؟! لو كان هناك في سورية مواطن ومواطنة وما ينطبق عليك ينطبق عليهم وبالعكس لكنا مثلك 20 مليون سوري بعشرين مليون دستور يفصل ويعدل على قياسات كل فرد منا، و كل منا يقول مثلك ومثل أبيك: أنا رئيس و”بعثية ونزلت عالشارع مين العرصة البدو يمانع؟”، و يستدعي ذلك أن نتلاعب بالملايين من الدولارات من الأموال العامة مثلكم والتي لا تعرف ميزانية الدولة عنها شيئاً، ويعني أن تكون الأموال مودعة باسمنا في بنوك الغرب تماماً مثل الأموال الذي ما زالت مودعة باسم أخيك باسل (الوريث الأول قبل أن يموت بذلك)؛ كذلك إذا كانت مواطنتنا كسوريين مثل مواطنتك فهذا يعني أن عشرين مليون سوري وسورية بإمكانهم أن يُعطوا بشكل ما رتبة فريق دون أن يعرفوا معنى العسكرية ودون الخضوع لدورة عسكرية أو مروراً بمراتب بل بقفزات بهلوانية يصبح كل منا “سيادة الفريق”؟
بالتأكيد من نشأ في كنف حافظ الأسد لم يعش تفاصيل يومية وحياتية مواطنية كتلك التي تعيشها الملايين من السوريين. فأنت ترعرعت والخدم والحشم حولك وحواليك، ذهبت إلى المدرسة بأفخم أنواع السيارات في العالم ومرافقتك مدججة بالسلاح، وحين ذهبت إلى الجامعة كنت مرافقاً بحملة السلاح الذين انتظروا حاملين حقائب السامسونيات على المداخل والأبواب وفي المقاصف وفي دورات المياه… وتتلفظ الآن بكلمة “مواطن”؟ هل انتظرت مرة واحدة في حياتك داخل سورية بالدور (مع اعترافي بعدم نجاح مثل هذا التساؤل لأننا نسينا الدور منذ انقلاب أبيك ومصادرته للسلطة والدولة ومؤسساتها وتحويله إلى مزرعة خاصة بلا نظم أو معايير معروفة إنسانياً…)؟ وبالتأكيد لم تسمع ما سمعته أنا من الموظف البعثي حين قلتُ له: “لكن في القانون لا تستطيع أن تفعل ذلك!” فأجابني : “مواطن بيفهم بالقانون ما بيلزملنا…نحنا اللي منحط القوانين ونحنا الوحيدين اللي منفهمها…وما ألك حق و الله ما بيعطيك …. ” هل تقدمت لعمل وقالوا لك غير مقبول لعدم وجود الموافقة الأمنية؟ هل وجدت من يتحامل عليك لأن انتماءك أولاً وأخيراً لسورية وليس لانتماءات أخرى ضيقة؟ هل وجدت من قال لك كم تدفع كي أسمح لك بالعمل؟
هل استخدمت السرفيس في تنقلاتك؟ هل ذهبت إلى المستشفيات العامة إن مرضت؟ هل حضرت مرة لترى المخابرات يحتلون بيتك؟ هل رأيت الابن يبكي موت أبيه وهو لا يمتلك ثمن علبة الدواء التي تنقذه؟ هل قالت لك مرة واحدة أمك لايمكنك تناول العشاء اليوم لأنه ليس فالبارحة كان دورك بالعشاء واليوم دور أخيك أو أختك؟ هل رأيت وأنت صغيراً مجموعة ملثمة تقتحم بيتكم ليلة رأس السنة وتختطف أباك وتخفيه ولن تراه مرة أخرى إلا بعد حوالي عقدين من الزمن تراه هرماً مريضاً مكتئباً وهو من ملأ دنياك فرحاً عندما كنت صغيراً؟ هل رأيت من يقول لأختك أو لابنتك في الجامعة لن تنجحي في مادتي مالم …..؟ هل عرفت معنى أن لا تأتمن على بيتك وابنك وإبنتك وأخيك وأختك؟ هل عرفت معنى أن يهرب الأب ابنته خارج سورية خوفاً من فواز الأسد؟ هل عرفت أن تترك الشابة خطيبها خوفاً من أن يقتله بديع الأسد الذي قرر أن هذه الصبية ملكاً له؟ أو هل أرسل مرة كمال الأسد عصاباته ليأخذوا الحديد الذي ستسقف سكنك به دون أن تستطيع الكلام لأن البنادق مشهورة في وجهك؟ هل رأيت من يُفصل من عمله لأن أخيه سجين سياسي؟ هل أتت دوريات المخابرات إليكم لتجبركم على لإعلان البراءة من ابنكم دون أي سبب؟ هل أديت الخدمة العسكرية وعرفت معنى الإذلال وعرفت من ينتقم منك لأنك لست من “توبه”؟
من أين لك أن تقول “أنا كمواطن” وأنت لا تعرف ما تعنيه كلمة مواطن في سورية ولم تعش ظروف المواطنة السورية بالشكل الذي هندسها عليه والدك حافظ الأسد؟ كفاك مزايدة ولا تحوجنا لمزيد من الكلام عندما تدلي بتصريحاتك وتتطلق كلماتك دون أن تفكر بأبعادها ودون استخفاف بعقل الصحفيين الذين الجالسين مقابلك، و إلا سيُرد عليك وسنجعل كلمتنا بين الناس في الصحف تفضح بدلاً من أن نتركها في القلب تجرح. لو أتيح لنا انتخابات حرة نزيهة لقلنا لك: “لا” وقد تماديت أكثر من اللازم أنت وعائلتك ومن حولكم باستغلالنا واستغلال طيبتنا وصمتنا وتحملنا، و لو أتيح لنا لقلنا لك ارحل ودع يدك عن مقدرات بلادنا فهي ملك لشعبنا وليس لك ولعائلتك وزبائنكم ودعنا نبني بلادنا ودولتنا ووطننا بالشكل الذي نستحقه بعد أن عانينا منكم طيلة هذه العقود
2004
خاص – صفحات سورية –