مدرسة فرانكفورت ناقدة هيمنة العقل وتحوله أسطورة
عمر كوش
يخوض كمال بومنير” في كتابه “جدل العقلانية” في مناقشة مواقف وآراء الفيلسوف “هربرت ماركوز” حيال العقلانية، واقتضى منه ذلك التعرض إلى مواقف هذا الفيلسوف وآرائه تجاه العقلانية وأشكالها وتمظهراتها، وتجاه سواها من المسائل الفلسفية الأخرى، وامتد الأمر ليطاول مواقف وأقوال بعض فلاسفة مدرسة فرانكفورت حيال العديد من القضايا والإشكاليات الفلسفية الحديثة.
وما يثير حفيظة المؤلف، ويدعوه إلى التساؤل، هو تردد ماركوز حيال مسألة العقلانية التكنولوجية، حيث يبدو أنه يعتبرها، من جهة أولى، أداة تحكم وسيطرة على الإنسان، ولكنه، من جهة أخرى، يعتبرها أداة تحرر وانعتاق، الأمر الذي يدعو إلى الاعتقاد بوجود تناقض في فكر ماركوز، وإلى التساؤل عما إذا كان الفكر الماركوزي قد عرف مثل هذا التناقض.
والواقع هو أن ماركوز اعتبر أن ثمة من يوظف العقلانية التكنولوجية، أي تلك التي تتحدد بالطابع العلمي والتقني، ليس للسيطرة على الطبيعة فقط، بل على الإنسان أيضاً.. واتخذت هذه السيطرة في عالم اليوم صورة مغايرة لما كانت عليه في المجتمعات غير التكنولوجية، من حيث ارتباطها بآليات وأشكال جديدة من الضبط والمراقبة والسيطرة على الإنسان. لكن المؤلف يجد في بعض النصوص الفلسفية لماركوز موقفاً آخر تجاه العقلانية التكنولوجية، يعتبر فيها أن هذه الأخيرة هي أداة تحرر الإنسان وانعتاقه من السيطرة، وأن قوام هذا التحرر والانعتاق هو الاستخدام المتزايد على الدوام للمعرفة العلمية والتكنولوجية في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والحضارية عامة.
ولا يرى المؤلف أي تناقض داخلي في فكر ماركوز على خلفية موقفه من مسألة العقلانية التكنولوجية، وذلك على الرغم من ان بعض الغموض في موقفه من هذه العقلانية، من جهة علاقتها بالسيطرة على الإنسان المعاصر داخل المجتمعات المتقدمة صناعياً. ويطالب بأن لا ينبغي أن يدفعنا ذلك إلى الاستنتاج بوجود تناقض في موقفه، عندما اعتبر أن قوام هذا التحرر الإنساني هو الاستخدام المتزايد للمعرفة العلمية والتكنولوجية في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والحضارية عامة، والسبب هو أن الارتباط الذي قام بين العقلانية التكنولوجية والسيطرة هو في حقيقة الأمر نتيجة التوجيه السياسي الذي كرس هذه السيطرة، وهو توجيه مصدره تلك القوى والمصالح المحركة لهذه العقلانية. وبما أن السيطرة القائمة كانت نتيجة عوامل وشروط اقتصادية وسياسية ـ وهي شروط تاريخية ـ فإنه يمكن القول مع ماركوز أن تغير هذه العوامل والشروط المتحكمة في وضع الإنسان في المجتمعات المتقدمة صناعياً أصبح أمراً ضرورياً ولازماً، غير أنه ليس كافياً لكسر حلقة القمع والسيطرة التي تمارسها تلك القوى المهيمنة. بل لا بد أن يصل التغير إلى بعد الوجود الإنساني الذي علق به حاجات الإنسان ورغباته ودوافعه الغريزية. ذلك أن تغير الإنسان من خلال هذا البعد لا يقل أهمية عن تغيير وضعه الاقتصادي والسياسي، خصوصاً وأنه قد أصبح من الممكن تحقيق هذا اليوم، بفضل الإمكانات والإنجازات العلمية والتكنولوجية التي باتت تتمتع بها المجتمعات المتقدمة صناعياً.
ويتناول المؤلف مسألة العقلانية وأشكالها لدى مدرسة فرانكفورت مركزا اهتمامه على دراسة مفهوم العقلانية لدى روادها وبالأخص ماكس هوركايمر وتيودور أدورنو، اللذان يمثلان، مع ماركوز، الرعيل الأول للنظرية النقدية. وكان، من بين أولى المهام الفلسفية لدى هؤلاء الفلاسفة مهمة نقد العقلانية الأداتية، التي أصبحت توظف في المجتمعات المتقدمة صناعياً، بغية السيطرة على الإنسان، بشكل يخدم القوى والمؤسسات السياسية والاقتصادية القائمة، والتي تمثل عائقاً حقيقياً لحرية الإنسان وذلك على الرغم من أن العقلانية التي بشر بها فلاسفة عصر الأنوار، ودعوا إليها، كانت تهدف إلى عقلنة العالم، وتحرير الإنسان من مختلف أشكال الاستبعاد التي كان يخضع لها.
وقد اتجه نقد العقلانية، والنقد الموجه للعقل لدى فلاسفة فرانكفورت، خصوصاً أدورنو وهوركهايمر وماركوز وهابرماز، إلى نقد العقل الأداتي وتمظهراته المختلفة، حيث انطلق أدورنو وهوركهايمر من نقد عقل الأنوار الذي قدم نفسه ممثلاً لسلطة العلم الطاردة للأوهام والأسطورة، وباعتبار العقل مفتاح الحقيقة، والعلم قائد أسطورة التقدم المطرد الذي لا يخطئ سبيله. وقد تحول العقل إلى عقل أداتي حين انتصرت ملكة الفهم على العقل، وتاه هذا العقل في الحساب، متخلياً عن وظيفته النقدية، وتطابق مع السلطة عندما طغى على فعاليات الحياة وأنماطها، وأخذ شكل الآلة أو الوسيلة القادرة على إضفاء الأهمية لكل فعل، وإليه يعود تقدير أهلية وجدوى كل نشاط، وإثبات المعقول واستبعاد اللامعقول. وأخذ مفهوم العقل شكله القطعي عندما فقد أي إمكان للتواصل والرأي والتبادل، وصادر أي قيمة أخرى للعقل تبتعد عن النزعة العلمية، فتحول هذا العقل إلى ميثولوجيا على حدّ تعبيرهما، بل وتواطأ مع الأسطورة، التي كانت هي بدورها عقلاً في ما مضى من الزمن .
وانتظم الجهد النقدي لدى فلاسفة مدرسة فرانكفورت على تفكيك مفهوم العقل الأداتي، والأخذ بالمفهوم الإجرائي للعقل، باعتباره ملكة تحليل وتفكير مباشر، وفق منهجية فلسفية اجتماعية، تتناول بالنقد منظومة القيم والعلاقات التي أنتجها العقل المتمركز على الذات، والكشف عن تناقضات العقل الأداتي الذي حوّل فعل العقل إلى فعل هيمنة وسيطرة على الإنسان.
غير أنه، وفي خضم التطور التاريخي الذي عرفته المجتمعات الغربية، تبين أن التحرر الإنساني المنشود لم يتحقق بالفعل في الواقع الإنساني، بل على العكس من ذلك، أصبح الإنسان يعاني ويواجه سيطرة لا مثيل لها عبر ما عرفته الإنسانية في تاريخها، ذلك أن العقلانية الأداتية، في ظل المجتمعات الغربية قد أفرزت أشكالاً وآليات جديدة للسيطرة. الأمر الذي يتطلب دراسة وتحليل العقلانية التكنولوجية، التي اتخذت شكل بناء علمي وتقني لتنظيم الطبيعة، ومعرفة قوانينها قصد السيطرة عليها، والتي تم تسخيرها لما يخدم مصالح الإنسان ومنافعه، غير أن المعرفة العلمية والتقنية التي وُجهت للسيطرة على الطبيعة والتحكم فيها قد تم استخدامها أيضاً للسيطرة على الإنسان، بمعنى أنه تم نقل السير من مجال الطبيعة إلى المجال الإنساني.
[الكتاب: جدل العقلانية في النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت
[المؤلف: كمال بومنير
[ الناشر: الدار العربية للعلوم ومنشورات الاختلاف، بيروت، 2010
المستقبل