ثورة قرغيزستان: فجر كاذب آخر؟
سعد محيو
هل الثورة الشعبية الجديدة في قرغيزستان انتفاضة ديموقراطية حقيقية، أم مجرد فجر كاذب آخر أملته المباراة الشطرنجية الدائمة بين روسيا وأمريكا؟
الإجابة الصحيحة ربما تكون في منزلة بين منزلتين .
فالمائة قتيل والألف جريح الذين سقطوا في هذه الانتفاضة، لم يقرروا إزهاق حياتهم لإغلاق قاعدة “ماناس” الجوية الأمريكية الضخمة التي انطلق منها الشهر الماضي فقط 50 ألف جندي أطلسي إلى افغانستان، ولا لتعزيز قاعدة “كانت” الروسية . إنهم نزلوا إلى الشوارع احتجاجاً على الفساد .
فالرئيس كرمان بك باكييف لم يترك سانحة تمر منذ وصوله إلى السلطة (إثر ثورة شعبية أيضاً) من دون أن يغتنمها للإثراء هو وعائلته وعشيرته، وبالتالي، المعطيات المحلية تبدو كافية لتبرير الثورة الشعبية الثالثة منذ استقلال قرغيزيا عن الاتحاد السوفييتي السابق العام 1991 .
ومع ذلك، وبسبب الأهمية الجيو- سياسية التي حظيت بها هذه البلاد الجبلية الصغيرة والمُفقرة في وسط آسيا على إثر الحرب الأمريكية في أفغانستان، لايمكن بالطبع إسباغ أي نوع من البراءة على الدورين الروسي والأمريكي . فمصالح الدولتين كبيرة للغاية، وهي تتركز على الشأن العسكري بالنسبة إلى الولايات المتحدة، فيما تشمل الجوانب القومية ومسائل الأمن القومي (إلى جانب المسائل العسكرية) بالنسبة إلى روسيا .
لقد قال الرئيس المُطاح به باكييف أنه “لايريد أن يُصدّق أن روسيا تقف وراء الانتفاضة الجديدة” . لكن يتعيّن أن يبذل جهداً أكبر كي يُصدّق . فرئيس الوزراء بوتين كان أول من اعترف بالنظام الجديد، وهو أشفع ذلك بإرسال المزيد من القوات إلى القاعدة الروسية . علاوة على ذلك، القاصي والداني يعلم أن روسيا تعتبر أن ثمة فرصة ذهبية هذه الأيام لاستعادة نفوذها في حديقتها الخلفية، بسبب انشغال أمريكا في ترتيب بيتها الاقتصادي الداخلي وفي إعادة صياغة دورها في النظام العالمي الذي يشهد تغيّرات بنيوية عميقة وسريعة .
حتى الآن، نجحت بلاد القياصرة في ترويض القط الجورجي ومنعه من مداعبة الأسد الأمريكي، واستعادت هيبتها في أوكرانيا، وأوضحت لجمهوريات آسيا الوسطى الإسلامية أن إجازة الاستقلال عن الجغرافيا شارفت على نهايتها .
صحيح أن موسكو لاتفعل كل ذلك وهي تضع في رأسها هدف استئناف الحرب الباردة مع واشنطن (وبالتالي فهي قد لا تدفع قرغيزستان الجديدة إلى إغلاق القاعدة الأمريكية)، إلا أن الصحيح أيضاً أنها تقترب من اللحظة التي ستجبر فيها واشنطن على طلب إذن دخول منها قبل أن تمارس نشاطاتها العسكرية والنفطية في آسيا الوسطى . وهذا في حد ذاته سيكون انجازاً تاريخياً كبيراً .
لكن، هل ستكون مكاسب موسكو الصافية أرباحاً صافية أيضاً لقرغيزستان الجديدة؟
ربما، بشرط: أن تنجح زعيمة البلاد الجديدة روزا أتونباييفا في استخدام ثقافتها الفلسفية الرفيعة وخبراتها المديدة في السياسة الخارجية لاقناع واشنطن بأن تقنع موسكو بأن تمنحها حيزاً من حرية التنفس، وأن تقنع موسكو كي تقنع واشنطن بأن تتوقف عن اعتبارها مجرد محطة عسكرية عابرة .
وهذا الهدف، إضافة إلى إعادة بناء قرغيزستان على أسس ديموقراطية وشفافة ومتحررة من الفساد العشائري، لن تكون مهمة سهلة على هذه الأم الفيلسوفة التي ستعمل وسط بحر هائج يعج بأسماك القرش المحلية والدولية .
الخليج