لـغـة فلسـطـين
سليمان تقي الدين
قرّر الحاكم العسكري الإسرائيلي أن يعتقل ويطرد كل فلسطيني دخل أراضي الضفة ولا يحمل إجازة إقامة من سلطة الاحتلال.
القرار الذي اتخذ منذ ستة أشهر ويبدأ سريانه في هذا الوقت يستهدف عشرات الآلاف الذين دخلوا بأشكال ووسائل مختلفة بمن فيهم الذين انتقلوا من غزة إلى الضفة. فكرة القرار أن كل فلسطيني لاجئ حيثما كان وحيثما حلّ. اللاجئ هو الغريب عن الأرض والدولة.
جامعة الدول العربية رأت في القرار انتهاكاً للقانون الدولي الذي ينظّم الاحتلال! هذا هو الإنجاز الأكبر للدولة العبرية. صار همّنا بعد ستين سنة أن ندافع عن حقوق اللاجئين وأن نطالب إسرائيل باحترام قواعد الاحتلال. على هذا المستوى ليس لدينا اليوم مَن هو بمستوى القاضي الدولي «غولدستون». صار الحق الفلسطيني يشبه حق المتسلّل المكسيكي إلى أميركا أو المغربي الذي يعبر جبل طارق إلى أوروبا.
في العقل السياسي العربي، في ثقافة الانسحاق العربي قبلنا كل المفردات والمصطلحات التي نشرتها الصهيونية عمداً. نحن نتعامل في حياتنا اليوم مع إسرائيل وانطلاقاً من وجود إسرائيل ومن شرعية احتلال إسرائيل التي لم ترسم حدودها بعد ولم نرسم حدودها نحن كذلك. أصحاب القضية، أصحاب الأرض، أصحاب الحق في يومياتنا ووعينا المشوّه هم عرب 1948، وعرب 1967، وعرب غزة، وعرب الضفة وعرب الشتات. نتعامل مع قضية شعب كانت له هوية تاريخية أكثر أصالة من أي هوية أخرى، أكثر «قداسة» وأكثر «عالمية» لأن أرضه منبع الرسالات وحاضنها، كأنه مجموعة من قبائل «النَوَر»، نبحث لها عن خيمة كبرى في الشتات غير المحدود، في السبي الدولي الذي ما يزال يلغي وجود هذه الهوية الوطنية في ما هو يخاطبنا بحقوق الإنسان.
فلسطين التي كانت ضحية «المسألة الشرقية»، ضحية الاستعمار القديم الذي أعاد تشكيل اجتماعنا السياسي في الحربين العالميتين، ضحية الإمبريالية لأن إسرائيل حارسها ووكيلها المستوطن في أرضنا وفي عقولنا، هذه يجب أن نستعيد اسمها الحقيقي، هويتها، وأن نرفض تفكيكها إلى مجموعة من المطالب و«الحقوق» الصغيرة لمتسوّلين، لشحاذين، لمعوقين، لفقراء، للاجئين. هناك قاموس كثيف من «الاستشراق» أو «الاستغراب» والتأمرك والأسرلة يجب نقضه. نحتاج إلى ثورة في اللغة تعبيراً عن ثورة في الوعي وعن إحساس بالحرية. لقد أدمنّا الاستعباد، أدمنّا التماهي مع الغاصب والمغتصب حتى صار العبد يشفق على طغيان سيده. ليس هناك من قضية لاجئين، ليس هناك من قضية توطين، ليس هناك من قضية حصار ولا خرق وانتهاك لحقوق الإنسان، بل هناك جريمة عصر ترشق دمها الأسود في وجه نظام عالمي ظالم، ونظام عربي عاجز، وإنسانية لم تعرف طريق خلاصها من إرث الاستعمار والإمبريالية. من الآن فصاعداً لا نظنّ أن طرد عشرات آلاف من أرضهم مجدداً هو العنوان ولا المسجد الأقصى الذي يغرق في مستنقع الاستيطان، ولا الحرم الإبراهيمي الذي يُصادر مصادرة الضمير، هناك شعب له تاريخه وله رؤيته للكون وللحياة تحاول إلغاءه سلطة من متعهدي الإرهاب المنظم، الإرهاب الدولي، الإرهاب الاستعماري لكي يكون عبرة، ولكي تكون تلك السلطة سيدة على جيرانه والآخرين من حوله، في هذا العالم الثالث العجوز الذي فقد الارتباط الصادق بأنبيائه وبرسالاته وبحضارته وفقد ثقته بنفسه بعد أن اغتالوا بوسائل مختلفة قادته وثواره ونصّبوا مكانهم موظفين من درجة أولى برتبة ملوك ورؤساء وسلاطين وأمراء ومعهم نفر من الحواشي الذين يشربون ماء الملح الغربي في كؤوسه المذهّبة.
حاكم عسكري إسرائيلي يملي إرادته على أمة الملايين بطرد عشرات آلاف من أرضهم لأنه طرد مئات آلاف من قبل وجرف الأرض والشجر ورسم الجدران التي قطعت شرايين الحياة زمن تهاوت جدران الحرب الباردة وبين الإمبراطوريات الكبرى. هذا الحاكم العسكري يروّض العرب كل العرب على فكرة الخوف والعجز، على السكوت عما سيأتي في غد من تغيير لديانات العالم بمسلميه ومسيحييه ليعبد هذا العالم إله بني إسرائيل القاتل لكل ما عدا هذه القبيلة المختارة، هذه الشركة الدولية التي صنعت في ثقافة الغرب صهيونية عنصرية على حساب المسيحية في مهدها الفلسطيني، وعلى حساب الإسلام الذي جاور الكنيسة في الشرق والغرب ولم يتجاوز دلالتها الإنسانية ومشاعر المؤمنين بها لا في القدس حيث صلى عمر ولا في الأندلس، حيث كان اليهود في أمن وأمان.
فلسطين تموت فقط حين «نبكيها كمُلك مُضاع»، حين تصبح قضية سرية نتلعثم في وصفها وشرحها ونغيّر لغتنا كل يوم في التعامل معها، مرة بالتسويات المجانية ومرة بإطعام الوحش الصهيوني قطعة هنا وقطعة هناك لعله يشبع. مفهوم أن يتعب بعض أهل فلسطين، مفهوم أن يحبط بعضهم الآخر، مفهوم أن يخرج البعض من لغة الثورة والتحرير، خاصة إذا كانت فلسطين محاصرة بين احتلال همجي وعجز عربي حتى الخذلان.
لكن هناك عرباً في هذه الأمة لا يمكن أن يديروا ظهورهم لفلسطين، لأن المشروع الصهيوني الذي ينتعش في إيديولوجيته ويتغذى من التردي العربي ويتحدث عن قدس عاصمة أبدية يهودية، وعن يهودا والسامرة، سيعيد خارطة إسرائيل الكبرى من «الفرات إلى النيل» الفرات المجبول بالدم والنيل المجبول بطمي السياسات التي وضعت مصر المشروع النهضوي، المشروع القومي، المشروع العربي، في خط معاكس لمجرى النيل وكأنها تسير القهقرى في التاريخ.
تبدأ كتابة التاريخ في العقول والأفئدة وفي التعبير الشفوي واللغة، فهل نبدأ بتصفية إرث اللغة والتاريخ في الأسرلة التي بدأت في «كامب ديفيد» و«واي بلانتيشن» و«الشرق الأوسط» و«مسألة اللاجئين» و«الأونروا» و«اليونيفيل» لكي نبدأ بفلسطين وحيفا ويافا وبئر السبع وغزة هاشم وبيت لحم والناصرة وشعب «الجبّارين» كما كان يردّد قائد فلسطيني؟
السفير