صفحات سورية

افتتاحية الموقف الديمقراطي*: النظام السوري وسياسة الانكفاء الذاتي

null
– 1 –
لم يدرك النظام السوري ,إلى الآن, أنّ المتغيرات الدولية المتسارعة التي يمرّ بها العالم منذ أكثر من ربع قرنٍ مضى ,هي التي أضحت المحور الرئيس لحركة التاريخ ,وأنها في انبساطها وتقدمها, وفي تراجعها وانكفائها في لحظات معينة, ما تزال تشكل الاتجاه العام لنضال الدول النامية وحتى المتقدمة في سعيها الدائم للتجدد الحضاري الذي لم يكتمل إن لم يكن في بداياته الأولى.

ولم يدرك النظام السوري ,ومعه عدد من الأنظمة الشمولية المتبقية في العالم, أنّ العامل الداخلي في التحولات العميقة التي أصابت النظم الشمولية في الدول “الاشتراكية ” السابقة هو العامل الحاسم والناجم بطبيعته عن جدل الاختلاف بين الشعارات المعلنة وبين ممارسة الأنظمة التوتاليتارية للحكم, وفرض نهجها الموسوم بالعسف والاستبداد على شعوبها, بما يمثل ذلك من افتراقٍ كبير بين الفكر السياسي الذي يستند إلى المنهج الجدلي في بعديه الاجتماعي والتنموي ,وبين احتضان الأيديولوجيا السائدة لفكر زائف يشكل في مضمونه تعبيراً عن إرادة القوة التي أخفقت في وعدها التاريخي بتحرير الانسان وتحرر الشعوب من الاستغلال والظلم الاجتماعي
لذلك فإنّ جذر الاشكاليات التي يواجهها النظام الشمولي لا تكمن أساساً في مجموعة العوامل والتحديات الخارجية وإن تضمنتها بدرجةٍ معينة من الأهمية , وإنما تكمن في بنية النظام نفسه وطبيعته الانعزالية لا عن الجوار والمحيط العربي والدولي,وحسب ,وإنما عن القوى السياسية والاجتماعية الحية والفاعلة في مجتمعه , وذلك نتيجةً لافتراق نهجه ومساره عما تتطلبه الاحتياجات الحيوية للمجتمع ,تلك التي تتبلور في اللحظة الراهنة من تاريخنا المعاصر في ضرورة إحلال الديمقراطية ,وبناء الدولة الوطنية,وسيادة القانون المدني , وإطلاق مفاعيل التنمية الشاملة, والقضاء على الفساد المستشري في مؤسسات الدولة القائمة, وإعادة التأسيس لوحدةٍ وطنية ديمقراطية قائمة على الارتباط الجدلي بين التعدد السياسي والتنوع الثقافي,وبين ضرورات تحقيق التماسك الاجتماعي عبر قيام هيئات ومنظمات المجتمع المدني بدورها الخاص بها في مختلف الميادين.
لا تكمن الإجابة على سؤال الحاضر والمستقبل,إذن, في متغيرات عارضة لسياسات الدول الأخرى ‘إزاء الموقف من النظام الذي أحرز منها حالياً فك طوق العزلة عنه, إذ لا يعني ذلك أنه أضحى مؤهلاً للاستمرار أو قادراً على مواكبة المتغيرات الدولية المتسارعة, وعلى الوفاء بمتطلبات واستحقاقات العلاقة مع القوى الخارجية في منطلقها ومستقرها النهائي ,لأن المشكلة مرتبطة بما هو أبعد مدىً من تلك المواقف السياسية المتغيرة لعدد من دول الجوار والعالم, ويمكن أن تشكل للنظام السوري نوع من الانفراج السياسي لعدد محدود من السنوات ,فهي مرتبطة أساساً بالضرورة الموضوعية لاستكمال دائرة الجدل بين الداخل والخارج ,تلك التي لم تكن في نهج النظام أو في حساباته السياسية التي تعتمد على إدارة الأزمات التي يواجهها بدلاً من المبادرة إلى ابتكار الحلول الصحيحة للخروج منها.
– 2 –
وفي هذا الإطار تجدر الإشارة إلى أن الارتباط الوثيق بين السياستين الخارجية والداخلية, لا بدّ أن يفصح عن نفسه لدى الدولة الوطنية عبر التأكيد على أولوية المصالح الوطنية , وينعكس بالتالي بصورةٍ إيجابية على مجمل الأوضاع الداخلية السياسية منها والاقتصادية والعلمية والتنموية, أما في الأنظمة الشمولية, كما هي حال النظام السوري الذي يتم فيه الافتراق بين مصالح المجتمع ومصلحة الفئة الحاكمة, فللسياسة الخارجية مقاصد وأهداف أخرى مختلفة, تتجلى في توظيف مكتسباتها لصالح تعزيز موقع الحكام في تحكمهم في البلاد واستئثارهم في الثروة والسلطة, ومحاولة التخلص من مأزق الشرعية والمشروعية الدستورية التي تفتقد إليها السلطة السياسية , في الوقت الذي يتم فيه توظيف ذريعة ” الضغوط الخارجية” لتشديد القبضة الأمنية ومحاصرة القوى الوطنية الديمقراطية, والمضي في احتجاز السياسة وانتهاك حقوق المواطنة في مختلف المجالات.
من الواضح , إذن, أن إشكاليات النظام السوري لا تتعلق بما هو معلن من ذرائع ظرفية حول ما يدعى بالتحديات الخارجية التي يمكن للعديد من الدول في العالم أن تتعرض لها ولا تفرض تبعاً لها حالة الطوارئ ولو لفترةٍ معينة ,خلافاً لما هي عليه الحال في سورية التي ما تزال محكومة بقانون الطوارئ منذ سبعٍ وأربعين عاماً ,والذي أدى إلى تعطيل القوانين المدنية في مجال الشؤون العامة والسياسية الخاصة بالمجتمع , حيث يجري تغييب معظم قواه وفاعلياته الوطنية عن المشاركة السياسية .
إنّ جذر المشكلة يكمن,إذن, في طبيعة الأزمات الداخلية المتفاقمة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية, والتي اعتاد النظام على إدارتها بدلاً من المبادرة إلى وضع الحلول اللازمة لمعالجتها , لأنّه في منطلق المعالجة ومستقرها تكمن الضرورة الموضوعية لإجراء التغييرات السياسية التي لا بدّ لها ان تطال بنية النظام ونهجه ومساره ومجمل العلاقات الداخلية القائمة, والمولدة أصلاً لهذه الأزمات وتجلياتها المأساوية داخل الأوساط الاجتماعية .ولذلك نجده في اللحظة الراهنة, وبعد إعلانه في أوساطه السياسية أنه استطاع أن يتجاوز مرحلة العزلة والانعزال التي فرضت عليه عربياً ودولياً , يعيد إنتاج سطوته الأمنية, وإعلانه العودة إلى يقينيات عنجهيته القديمة حول الحزب القائد للدولة والمجتمع والمتفرد بالحكم دون مواربة حتى في حضور من ارتضى الالتحاق بركبه السلطوي عبر ممارسة الانتهازية السياسية التي أدت إلى وأد مفهوم الاستقلالية لدى تلك القوى مما هو معروف.

– 3 –
1 – إنّ اجتماع الأركان الثلاثة لبنية سياسية شمولية,وليبرالية اقتصادية طفيلية, وفساد مستشري في الأوساط الإدارية والمالية والقطاعات الاقتصادية,من شأنه أن يؤدي كما هو في الواقع, إلى تدهور الأوضاع المعيشية لدى السواد الأعظم من الفئات الاجتماعية, وذلك نتيجةً للعطالة الاستبدادية القائمة في العملية التنموية, وخاصةً منها التنمية البشرية في ظل السياسات الاقتصادية الخاطئة ,والتراجع الكبير الذي أصاب التعليم العالي والجامعي, واستمرار انتشار الأمية وفقاً لمعاييرها الدولية الراهنة, إضافةً إلى ارتفاع معدلات البطالة, الفعلية منها, والمقنعة المنتشرة في مختلف مؤسسات الدولة ,وفي القطاع العام بكل ما يتسم به من التعثر والركود والخسائر الاقتصادية المستمرة في مواقعه المتعددة.حيث أصبح يشكل عبئاُ على الاقتصاد الوطني بدلاً من أن يكون أحد الروافع الأساسية في عملية الانتاج الاقتصادي.
2- لذلك فإنّ معظم الاتفاقيات الاقتصادية التي يبرمها النظام السوري مع الدول المتقدمة اقتصادياً , لا تستند إلى آليات متكافئة في الإعداد والتنفيذ, وهذا لا يعيبها بحدّ ذاتها , بمقدار ما يتكشف من خلالها عجز النظام عن توفير الشروط الموضوعية اللازمة لتفعيل آلياتها وتحقيق العوائد المادية والاقتصادية منها ,دون إدخال البلاد في أنفاق جديدة من التبعية .
3- وفي هذا الإطار يبدو أنّ الرائز الموضوعي الذي كان بمثابة الكاشف الكبير لحقيقة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والتنموية المتردية في سورية ,يتمثل في تعثر التوقيع والمصادقة على اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوربي, والتي كان من المفترض التوقيع عليها في حزيران العام الماضي, وذلك نتيجةً لعدم الوفاء بمجمل الشروط الاقتصادية والاجتماعية الخاصة بها , وأبرزها ما يتصل بمسألة حقوق الانسان التي اعتبرها النظام السوري مجرّد قضية سياسية داخلية لا يحق لأحد التدخل فيها ,متجاهلاً بذلك أهميتها الخاصة في التنمية الاجتماعية التي تشكل الضمانة الأساسية لإنجاح الاتفاقية على الصعيد العملي في الحاضر والمستقبل, ومتناسياً أهمية الحريات الديمقراطية في إطلاق مفاعيل التنمية وبناء الأسس الوطيدة للاستقرار الداخلي والارتقاء بالعملية التعليمية والتربوية بما يتناسب مع ضرورات التقدم العلمي والتقاني في البلاد.
مسألة حقوق المواطنة,إذن, وهي الأعم والأشمل من أن تندرج في جانب معين دون غيره , برزت كخلفية واضحة لعملية تأجيل التوقيع على الاتفاقية من الجانب الأوربي, ولم يستطع الإعلام السوري بركاكته المعهودة التغطية عليها بطريقةٍ مقنعة وذلك لأنها المسألة التي تقع في صلب عملية التقدم الانساني المعاصرة ,فضلاً عن كونها أبرز الاحتياجات الحيوية التي ينبغي توفرها لإنجاح الاتفاقيات التي تبرم بين الدول المتكافئة في العصر الحديث.
4- وعلى المستوى السياسي وبعد الانفراج الإقليمي والدولي ,تعود قضية شرعية النظام ومشروعيته الدستورية التي يفتقد إليها لتشكل الهاجس الداخلي الذي لم يجد , إلى الآن, سبيلاً لحلها سوى الالتفاف على الاستحقاقات الوطنية والديمقراطية التي تعيد بناء الموقف الداخلي منها ,ومعالجتها من خلال إحداث التغييرات اللازمة التي ينبغي إنجازها لإعادة إنتاج المقدمات الموضوعية الخاصة بها,وأبرزها إطلاق الحريات العامة والأساسية للمواطنين ,والإقرار بالتعددية السياسية ووقف العمل بقانون الطوارئ وبناء دولة الحق والقانون التي تستند إلى التداول السلمي للسلطة, وتوسيع المشاركة السياسية لتضم كافة القوى الوطنية الديمقراطية في البلاد ,وإيقاف مفاعيل التسلط والاستبداد والفساد الداخلي الناجمة عن هيمنة الحزب الحاكم على الدولة واستئثاره بالسلطة والثروة الوطنية ,هذه المفاعيل وما يرتبط بها ويتجلى من خلالها, تشكل بحد ذاتها المأزق الأساسي لسياسة النظام الداخلية ,ومشكلته التي تفاقم ظاهرة التحاجز القائمة بينه وبين معظم فاعليات المجتمع وقواه الوطنية الحية المحاصرة بكل آليات العسف والاضطهاد.
5- وما يفاقم من أزمته الداخلية ,ارتباطها الوثيق بطبيعة المتغيرات الدولية على امتداد العقود الثلاثة الماضية والتي ماتزال مستمرة بالرغم من التداعيات السلبية للأزمة المالية العالمية الراهنة, والتي تشير في منطلقها الأساسي والمحور الذي تنجدل عليه إشكاليات المنطقة والوطن العربي إلى ضرورة حل المسألة الديمقراطية وبناء أسس الاستقرار السياسي والاجتماعي في الدول المعنية ,مما يجعل الوضع الإقليمي مرشح إلى حصول العديد من الأحداث والتطورات القادمة ,وإلى أنّ العلاقات القائمة التي يتم التوافق حولها الآن لا تتسم بالاستقرار ,وخاصةً منها التحالفات القائمة بين الأنظمة المعنية داخل المشهد السياسي الإقليمي والدولي ,هذا ما يراكم أزمة النظام ويزيدها تعقيداً ,بوصفه نظامٌ فئوي لا يستند في الداخل إلى دولة يفترض بها أن تكون دولةً للكل الاجتماعي , ويداري ,في نفس الوقت ,عجزه عن إعادة بناء الوحدة الوطنية التي ينبغي أن تكون مصدر قوته ومنعته في مواجهة التحديات الخارجية والمشاريع الإقليمية والدولية التي تتقاطع مصالحها في هذه المنطقة من العالم.
– 4 –
لذلك كله ,وغيره,مما يدخل في إطار مواقفه المتناقضة من القضايا الكبرى وأبرزها قضية الصراع العربي/ الصهيوني , يبدو من الواضح ان النظام السوري لا يكترث لضرورة إحداث مراجعة نقدية وتقييم عام وشامل لنهجه ومساره وسياسته الداخلية, وليس في مساره المتعثر ما ينبئ بأنه مدرك لأهمية إنجاز الإصلاح السياسي ,أو الاهتمام بإعادة التأسيس لدولة وطنية ديمقراطية يتم بها ومن خلالها إعادة بناء الموقف من طبيعة نظام الحكم الشمولي بوصفه أسوأ أنواع الحكم في العالم ,وامتلاك زمام المبادرة لإطلاق التنمية في مختلف الميادين بما يضمن تحسين الأوضاع المعيشية للمواطنين, وتوفير الشروط الموضوعية للحراك السياسي والثقافي وتوطيد أركان الوحدة الوطنية.
لا ريب في أنّ السبب الرئيس يكمن في إشكاليات النظام الناجمة عن طبيعته البنيوية التي يصر على عدم تغيير بنيتها السياسية, وهذا ما يجعل مهمة التغيير الوطني الديمقراطي في سورية تحظى بالأولوية من بين المهام الأخرى, إذ أنّ شعبنا بكلّ ما يمتلكه من وطنية سياسية واجتماعية, لا يستحق أن يُحكم من هكذا نظام شمولي لا يمثّله بصورةٍ شرعية ,ينحصر جلّ تفكيره بالتشبث بالسلطة عن طريق العسف والاضطهاد, وإقصاء القوى الحية الفاعلة في المجتمع, ولا يستحق المجتمع السوري أن يستشري الفساد والإفساد في الأوساط الاجتماعية والسياسية المرتبطة بهذا النظام على حساب قوت الشعب ومعيشة المواطنين , وإنما يستحق أن يتخلص من ذلك كله ,وأن يعيش وسط مناخ الاستقلال الوطني بأبعاده السياسية والاجتماعية ,وأن تمثله دولة مدنية ديمقراطية يستطيع بها ومن خلالها, أن يحقق احتياجاته الحيوية المستلبة, وان يمتلك القدرات اللازمة للانتقال من واقع التأخر التاريخي إلى التجدد الحضاري ,وإعادة تأصيل الانتماء الوطني والقومي .
ما ينبغي فعله في اللحظة الراهنة,إذن, يتجلى في :
أولاً : العودة إلى توثيق عرى التحالفات السياسية بما يضمن تجاوز حالة التعثر التي يتعرض لها العمل الوطني ,والعمل على تصويب الأخطاء من خلال إحداث مراجعة نقدية عامة وشاملة ,وخاصةً للمرحلة التي ابتدأت مع بداية العقد الأول من هذا القرن ,وتحديد مجمل التداعيات السلبية الناجمة عن الممارسات الخاطئة للعديد من القوى الوطنية الديمقراطية, وكيفية معالجتها عبر توافقات لا بدّ منها من أجل إعادة التأسيس لآليات جديدة في العمل الوطني.
ثانياً : وفي هذا الإطار ينبغي العمل على محور إعادة إنتاج وتفعيل الحراك الثقافي والسياسي والنضالي ,وسط مناخ تشديد النظام لقبضته الأمنية, وكيفية استعادة المواقع الخاصة بهذا الحراك من منتديات تمّ إغلاقها, وتشكيل هيئات خاصة بهذه المجالات الحيوية التي تعيد للسياسة والثقافة دورهما في الارتقاء بآليات التواصل مع كافة هيئات المجتمع وقواه الحية والفاعلة, والقادرة على إيجاد المناخ العام المساعد على إنجاز مهام التغيير الوطني الديمقراطي.
ثالثاً : عدم الانسياق الانفعالي خلف محاولات النظام تصعيد المواقف العنفية والاستبدادية في محاولاته الدائمة لمحاصرة العمل الوطني وتعبيراته المدنية النابذة للعنف ,وتوطيد أركان ممارسة السياسة المدنية التي تستند إلى الحقوق العامة والأساسية للمواطنة في المجتمعات الحديثة.
رابعاً : التوقف عن المزايدات السياسية بين كافة القوى الوطنية , والتي غالباً ما تستند إلى رؤية أيديولوجية ضيّقة, ومحكومة بمنطقٍ تبسيطي خطي , والتحول في اتجاه إدراك الأبعاد والمضامين الخاصة بالبعد الديمقراطي لحق الاختلاف في الفكر والممارسة وسط التعدد السياسي والتنوع الثقافي الذي يفترض أن يكون أحد القضايا الهامة للتحالفات السياسية التي ينبغي لها المحافظة على انتمائها الوطني الديمقراطي.

العدد 114آذار 2010
يصدرها التجمع الوطني الديمقراطي في سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى