ماذا لو استقبلت دول أخرى شخصيات سورية؟
زين الشامي
غالباً ما يؤكد المسؤولون السوريون، وعلى مستويات رفيعة، على أن القنوات المؤسساتية هي من باتت تؤطر العلاقة السورية اللبنانية، وأن دمشق لا تتدخل في الشأن الداخلي اللبناني، ولا تحب أن تغوص أو تقحم نفسها في تفاصيل الحياة السياسية اللبنانية، وأنها تعلمت من أخطاء الماضي والمرحلة السابقة. هذا الكلام بتنا نسمعه أو نقرأه يومياً، لا بل أن سياسيين لبنانيين غالباً ما يروجونه خلال مقابلاتهم الصحفية هنا وهناك.
غير أن ما نسمعه ونقرأه شيء وما نشاهده ونتابعه هو شيء آخر ومختلف، ولعل «الحج» شبه اليومي لبعض السياسيين اللبنانيين إلى العاصمة السورية يثبت أن ما يتشدق به بعض المسؤولين السوريين أو السياسيين اللبنانيين ما هو إلا استغفال لعقول السوريين واللبنانيين وكل المعنيين بالشأن الإقليمي، ولعل آخر مثال ساطع وفاقع لما نحن بصدده كان الزيارة التي قام بها الزعيم اللبناني وليد جنبلاط، وما سبق هذه الزيارة من وساطات قام بها «حزب الله»، وهذا الحزب بالمناسبة لم يقم بالوساطة بناء على تكليف رسمي حكومي، وما قدمه جنبلاط من تنازلات سياسية و«اعتذارات» متلفزة وأخرى على صدر الصحف المكتوبة للسلطات السورية حتى تقبل إعادة العلاقة معه، وتقبل كذلك أن يعود إلى أحضانها بعد نحو خمسة أعوام من العداء والخصومة.
ان كل ما حصل لم يكن على علاقة بالمؤسساتية التي يجرى الحديث عنها هنا وهناك، وليس له علاقة لا من قريب ولا من بعيد بما يربط الدول ببعضها البعض، لا الدول العربية ولا الأجنبية كذلك.
علاقة دمشق مع بعض السياسيين اللبنانيين وبعض الزعامات الطائفية والسياسية اللبنانية، لا تقتصر ولم تقتصر، ولن تقتصر، على علاقتها بوليد جنبلاط، فهي تحتفظ بعلاقة تحالف سياسي شبه استراتيجي مع «حزب الله» بحيث بات هو وحده «المؤسسة» الوحيدة دون جميع المؤسسات الرسمية، وحتى السفارة السورية، بتمثيل دمشق في لبنان، وهذا الحزب هو الجهة الوحيدة التي تثق بها دمشق كل الثقة وتقبل بتحليلاتها ورؤيتها، وهي من تتوسط للآخرين من اللبنانيين الساعين لكسب ود دمشق، أو مصالحتها، أو حتى ربما زيارتها. ألم يقل المسؤولون السوريون أن ملف وليد جنبلاط عند «حزب الله»؟، ألم يشكر جنبلاط الحزب وأمينه العام على جهوده في تلك الوساطة؟ أيضاً ترتبط دمشق بعلاقة تحالفية مع حركة «أمل» وزعيمها نبيه بري رئيس مجلس النواب اللبناني، وعلاقة خاصة مع زعيم تيار المردة سليمان فرنجية، وهي علاقة ليست تحالفية وخاصة فحسب، بل غالباً ما يصف فرنجية علاقته مع دمشق بالعلاقة «العائلية» وهو ما لا يتجرأ أن يقوله إنسان سوري مهما كان مقرباً من السلطات، ومهما كان ما يربطه مع القيادة السورية.
في هذا المقام، يحتفظ الزعيم المسيحي ميشيل عون أيضاً بعلاقة «خاصة» مع دمشق، وما الاستقبال الحاشد المدروس والمنظم الذي أعد له حين زار سورية قبل نحو عام إلا دليل على ما بات يربطه مع السلطات السورية رغم كل أعوام العداء في السابق بينهما.
كذلك يفاخر وئام وهاب بعلاقته مع النظام السوري رغم كل ما يسببه من احراج لبعض اللبنانيين حين يصف تلك العلاقة، وحين يبدو كما لو أنه ناطق باسم دمشق في لبنان، لا بل انه، ونتيجة لهذه العلاقة الخصوصية، ما كان له أن يطالب الرئيس اللبناني بالاستقالة، وهي الدعوة التي تسببت في تشويش كبير داخل لبنان وقيل انه ما كان ليتفوه بها لولا الضوء الأخضر المعطى له من دمشق.
الأمثلة عن علاقة السلطات السورية بالمسؤولين اللبنانيين أكثر من أن تحصى، ونحن هنا لسنا بوارد احصائها حالة حالة بل للتأكيد على عدم دقة ما يقوله أي مسوول سوري، أو أي حليف لدمشق في لبنان، أو أي معلق إعلامي، عن «المؤسساتية» التي باتت تحكم علاقة البلدين ببعضهما البعض. ان ذلك يبدو كما لو أنه محاولة لاستغفالنا والضحك على عقولنا كما أسلفنا سابقاً.
لكن ماذا لو كانت الصورة مقلوبة ومعكوسة؟ بمعنى ماذا لو أن شخصيات سوريّة هي من تحج يومياً إلى لبنان، أو أي دولة إقليمية اخرى، فماذا عساه أن يكون موقف السلطات السورية منه ومن هذه الدولة؟ ان تجربة المعارضين السوريين الذين طالبوا يوماً ما بعلاقة ندية ومؤسساتية قائمة على الاحترام المتبادل والاعتراف باستقلالية البلدين وعدم التدخل بشؤون بعضهما البعض، وذلك حين وقّعوا ما عرف يومها بـ «إعلان بيروت – دمشق»، قبل نحو أربعة أعوام، حيث وضعتهم السلطات السورية في السجون وحاكمتهم بتهم مضحكة، لهو خير مثال على الطريقة التي تنظر بها السلطات السورية إلى علاقة أبنائها مع الشأن الخارجي سواء منه العربي أو الدولي، فمن غير المقبول أبداً أن يتدخل، أو يتحدث، أو يفكر أي سوري، مهما كان حجم انخراطه بالشأن العام، بالسياسة الخارجية للدولة السورية، فما بالنا إذا فكر أحد ما بزيارة السلطات اللبنانية ونسق معها وتحالف معها وحج يوميا إلى بيروت كما يفعل بعض اللبنانيين؟ ان السلطات السورية وضعت الناشط كمال اللبواني في السجن وحكمته مدة 12 عاماً لمجرد أنه زار الولايات المتحدة وقابل الرئيس جورج بوش، رغم أنه كان من أشد المعارضين لفكرة التغيير العسكري أو الخارجي، بل كان معارضاً سلمياً ويدعو للانتقال السلمي للسلطة.
ان العلاقة السورية اللبنانية اليوم لا تختلف كثيراً عن تلك العلاقة التي كانت تربط البلدين ابان فترة الوجود العسكري السوري في لبنان وما اصطلح على تسميته بعهد الوصاية السورية على لبنان، وهذا يعني أن لا النظام استفاد من أخطاء الماضي، ونشك في أنه يريد أن يستفيد ويتعلم، ولا السياسيين اللبنانيين تعلموا شيئاً من أخطاء الماضي غير السعيد لكلا الشعبين.
أما التبريرات عن «علاقة خاصة تاريخية» تربط بين البلدين والشعبين، وهو التبرير الجاهز لهذه العلاقات غير الرسمية وغير المؤسساتية التي تربط دمشق بحلفائها اللبنانيين، فما هي إلا تبريرات ساقطة لأنه لا يستطيع أي سوري أن يفعل في لبنان ما يفعله أي لبناني في دمشق ومع السلطات السورية.
كان لي صديق سوري مرتبط بعلاقة عمل في بيروت تتطلب منه زيارة شهرية إلى هناك، أخبرني يوماً ما أنه في أعوام الأزمة التي تلت اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري، أنه كان يقضي رحلته على عجل وينهيها خلال ساعات خوفاً من أن يلمح شخصية لبنانية أو يلتقيها بالصدفة، لأنه وحين العودة فلن يسلم أبداً إذا عرفت السلطات أن عينيه لمحت تلك الشخصية، ورغم ذلك فإنه لم يسلم، حيث استدعاه ضابط مخابرات في جهاز أمن الدولة يوماً ما وسأله بالتفصيل عن الساعات القليلة التي يقضيها في بيروت بدءاً من لحظة دخوله نقطة «المصنع» الحدودية مروراً بأي مطعم، فيما لو فكر أن يتناول وجبة غذاء هناك، وانتهاء بتفاصيل طريق العودة إلى دمشق.
انها فعلاً علاقة خاصة تلك التي تربطنا نحن السوريون مع كل دول العالم وليس لبنان وحده.
كاتب سوري
الراي