صراع على الألم بين أبناء الجواري، تعقيب على منهل السراج
ياسين الحاج صالح
تلوم الصديقة منهل السراج الطرف الخطأ على الشيء الخطأ. تأخذ على “السجين السياسي اليساري” (وهذا اسم جنس، ماحٍ لأية فردية وتمايزات ضمن اليساريين) أنه “استأسر بالشاشة”، وعُلِّقت على صدره الأوسمة، و”صادر فرجة الجمهور” على “السجين الإسلامي” الذي لم يعلق على صدره أي وسام (مقالتها: اليساري والإسلامي حين يعانيان آلام ابن الست وآلام ابن الجارية، “الحياة، 9/4/2010).
لا تكتفي المقالة بإعطاء انطباع غير صحيح بأن السجناء اليساريين السابقين معزّزون مكرمون في بلدهم، بل وتنسب إلى “خطابهم”، المتماثل والموحد بدوره، “هيمنة على الوجه الثقافي السوري، أدباً وفناً وسينما وتلفزيوناً”. تلوم الكاتبة اليساريين في آن على ما تحقق لبعض قليل منهم بمشقة، وعلى ما لم يتحقق للسجناء الإسلاميين، دون أن يكون واضحا لماذا يتعين على اليساريين أن ينشغلوا بتمثيل الإسلاميين الذين تلتمس الروائية السورية المقيمة في أوربا الأعذار لما يبدو من عجزهم عن تمثيل أنفسهم والتعبير عن آلامهم. ليس واضحا أيضا لماذا توجب الكاتبة على “الآخر غير المؤمن” أن يتحلى بوعي كاف لتحليل خطاب الإسلاميين الذي يبدو له تكفيريا، وأن يفهم دوافعه! لماذا لا يقع على الإسلاميين توضيح “خطابهم” هم؟
بلى، تفوق آلام الإسلاميين آلام اليساريين أضعافا مضاعفة. هذا شيء قاله يساريون، كاتب هذه السطور واحد منهم. بلى أيضا، نالت جوانب من سير سجناء يساريين بعض اهتمام، لكن بالقطع ليست سير كلهم ولا أكثريتهم ولا عُشرهم، وليس بحال كممثلين لكائن جمعي اسمه “السجين اليساري”. وبعيدا جدا عن الاستئثار بالشاشة، بالكاد ظهر عدد قليل من السجناء اليساريين السابقين على شاشات، غير سورية طبعا، ليقولوا كلمات قليلة عن سجنهم. ومن يحتمل أنهم فازوا بأوسمة ما، عددهم دون أصابع اليد الواحدة بكل تأكيد، فازوا بها كأدباء أو حقوقيين سجنوا، وليس بحال لمجرد كونهم سجناء يساريين سابقين.
و”الكتاب” الذي كان “حاضراً بقوة في أيدي اليساريين وكان من أولياتهم في السجن”، لم يحضر من تلقاء نفسه، ولا كان حضوره بديهيا على ما توحي الصديقة الكاتبة. لقد حصلنا بعسر على كتب، وبعد وقت متفاوت في طوله من توقيفنا العرفي.
***
لا يفهم وضع السجناء اليساريين في العقدين الأخيرين من القرن العشرين دون وضعه في تقابل مع السجناء الإسلاميين، وقد اعتقلوا في الوقت نفسه تقريبا وفي سياق إرادة النظام “تنظيف” البلد من كل اعتراض سياسي. كانت هناك ثلاثة أطراف في الحقل السياسي السوري حينها، وليس طرفين، نحن والنظام والإسلاميون. استفدنا دون ريب من تمايز موقعنا وتكويننا ودورنا عن الإسلاميين. كان الإسلاميون انخرطوا في صراع وحشي مع النظام، خسروه في النهاية، وعوملوا معاملة فظيعة، بمن فيهم من “لم يكن له رأي ولا مشورة” على ما كتبت صاحبة “كما ينبغي لنهر”. وفي الوقت نفسه تقريبا كان هناك معتقلون آخرون، أمثالنا، لم تسل على أيديهم قطرة دم واحدة، بينما تعرض أكثرنا للتعذيب، وبعضنا بوحشية، وفقد بعض قليل منا حياتهم أثناءه أو في الحبس المديد. لا أذكر هذا التقابل لتبرير ما تعرض له الإسلاميون، وقد سبق لي ولغيري أن أشاروا إليه إشارات مجملة أو مفصلة (بخاصة رواية “القوقعة” لمصطفى خليفة) وأدانوه بوضوح تام. أذكره للقول إننا وجدنا أنفسنا في علاقة تمايز عن السجناء الإسلاميين فرضت نفسها على الجميع. بدونا لسجانينا بالذات سجناء مسالمين، يعرضون تناقضا مؤثرا ومثيرا للسخرية بين هشاشتهم الشديدة وبين تطلعهم إلى تغيير سورية. المعاملة الأدنى سوءا التي حظينا بها تعود إلى هذا التمايز. كان لدى النظام نوعين من السجناء صبّ على بعضهم “أحمض ما عنده” لكونهم خاضوا مواجهة معه أشد عنفا؛ وشغل آخرون، نحن، موقع الغُرم الأدنى بين الغارمين، فكانت أوضاعهم أقل سوءا.
ولعل هناك جانبا آخر ضمن هذه العلاقة الثلاثية يحيل إلى فاعلية التكوينات الأهلية للمجتمع السوري التي نشّط الإسلاميون أسوأ ما فيها، ووقعوا ضحية هذا السيئ الذي نشّطوه، بينما كان موقع اليساريين خارج ذلك التسعير المقيت وضده. ويحتمل أننا، وبتفاوتات واسعة بيننا، استفدنا من جوانب من الفاعلية التمييزية لتلك التكوينات الأهلية.
أما مقابلة وضع اليساريين مع وضع الإسلاميين، كما تفعل منهل، مع إغفال بنية صراعات تلك الفترة واختلاف سبل مواجهة الطرفين للنظام، فلا يفيد إلا في تشويش المدارك وخلط المسؤوليات. ولتبين أهمية هذه النقطة يكفي النظر إلى وضع سجناء المعارضة الديمقراطية اليوم، وهو سيء بما فيه الكفاية. لكن لو تخيلنا أن النظام ووجه بصراع عنفي مع طرف داخلي ما، لكان من المرجح أن ينعكس ذلك تحسنا فوريا على أوضاع السجناء الديمقراطيين. هذا إن لم يفرج عنهم على ما حصل لسجناء يساريين مطلع عام 1980، بعيد تفجر الصراع المسلح بين النظام والإسلاميين. فهل هناك وجه للومهم على ما لا ذنب لهم فيه (ولا فضل)؟
معلوم، من جهة أخرى، أنه بقدر ما نجح النظام في حسم صراعات الحقبة لصالحه، أخذ الفارق بين أوضاع الإسلاميين واليساريين يتقلص نسبيا.
لم يعامل الإسلاميون بعدل، ولا بما هو قريب منه. لكننا لم نعامل بعدل، ولا يما هو قريب منه أيضا. ولا بما يومئ إليه بأية صورة. لم نكن أبناء ست، لا في السجن ولا بعده. كنا أبناء جارية أخرى.
***
ما من شيء يفترض أن يحول دون تناول نقدي لكيفية تعامل أي سجناء سابقين مع سيرتهم السجنية ونوعية توظيفهم أو استثمارهم لها. هناك أشياء كثيرة تقال في هذا الشأن. لكن هذا شيء، ونسبة هذا المأخذ المحتمل إلى “سجين يساري” كلّي شيء آخر. ووضع هذا النقد في سياق لوّام لليساريين ومتفهِّم للإسلاميين شيء ثالث. مما يسيء للضحايا جميعا أن يلام من نالتهم الوطأة الأدنى للفظاعة على نيل آخرين الوطأة الأشد. هذا لا يحول فقط دون رؤية المسؤولين الفعليين والمسؤوليات الفعلية عن الفظاعة، وإنما يفتعل مشكلة من لا شيء تقريبا. ليس بهذه الطريقة يعترف بآلام السجناء الإسلاميين ويعاد الاعتبار لهم. بالعكس، هذا يؤدي إلى تسييس معاناتهم، وتاليا إضفاء صفة نسبية عليها وإضعاف الحساسية العامة الضرورية حيالها.
ثم إن أحدا لا يستطيع مساعدة الإسلاميين إن لم يساعدوا أنفسهم. هم من يتعين أن يرووا حكايتهم وبالأسماء والتفاصيل. ما الذي يمنعهم من ذلك؟ ليس قلة الكتب وسوء أوضاعهم في السجن. للأمر علاقة بنوعية علاقتهم بمعتقدهم الإسلامي، وليس بالضرورة بهذا المعتقد نفسه، على ما يبدو أن منهل ترى. يفترض المرء أن من الممكن مبدئيا أن يكون المرء مسلما مؤمنا، وأن يروي سيرته الفردية ومحن حياته. ما يحول دون ذلك بخصوص عموم الإسلاميين يتصل في اعتقادي بأنهم هم، قبل الجميع، من يذيبون ملامحهم الفردية وسيرهم في ملحمة عامة مجردة، لا مكان للألم الشخصي فيها، إلا كعينة بلا ملامح من ألم عام، لا تُسطّر تفاصيله إلا في “مصاحف السماء”. وإلى “نكران الذات” هذا، أضيف تمييز الإسلاميين بين الذات والغير، بين ألم وألم، ودم ودم. ليس لأحد أن يتوقع اهتماما عاما بمحن حياته حين هو لا يعترف بوحدة الألم الإنساني ومساواة الآلام بين الناس. إذا كانت آلام غيري أرفع شأنا من آلامي، فلماذا علي أن أنشغل بأمره؟ إذا كان غير المسلمين وغير الإسلاميين أدنى من المسلمين والإسلاميين شأنا، فلماذا يتوقع هؤلاء تعاطف أولئك واهتمامهم؟ هذا فضلا عن أن من شأن إثارة الإسلاميين سير سجنهم الأليمة بالتفصيل أن يحرِّض على طرح أسئلة مشروعة ومحرجة عن سياساتهم وممارساتهم هم.
في النهاية، مؤسف جدا ما تقوله منهل من “أن ذهنية غالبية المجتمع السوري، لا تحمل هذه القناعات [اليسارية] التي تصبغ وجه البلد الثقافي، وهذه القناعات لا تلامس تطلعات الناس”. فعدا عن أن ما يصبغ وجه البلد ليس أي قناعات يسارية بحال، وعدا أن منهل تمنح نفسها رخصة غير شرعية لتعريف “غالبية المجتمع السوري” و”ذهنيته” و”تطلعات الناس”، لا تتبين الكاتبة أنها بعبارات ماهوية كهذه تصادق على تحويل ما هي محصّلات صنعية لسياسات وخيارات ثقافية سلطوية إلى طبائع قارة وأصناف اجتماعية ثابتة. وأن تفكيرها يندرج بيسر ضمن منطق تجميد البنى الاجتماعية والسياسية، والذهنيات، الذي تستهدفه تلك السياسات والخيارات، ويتيح تأبيد سيطرة النخب الامتيازية المتحكمة اليوم وشركاء إسلاميون لها. وإنما عن استبطان منطق التجميد الاجتماعي ذاك يتولد منطق الاعتقاد الذي ميّزته الكاتبة في “العقيدة الشيوعية”، والذي يتشرّبه مقالها من وراء ما عبرت عنه من نفور محموم حيال تلك العقيدة المنهارة وأهلها.
خاص – صفحات سورية –