الإصلاح في سورية: طبق الـ’سوشي’ وكوّة الحرّية
صبحي حديدي
هل يمكن لطبق من أسماك الـ’سوشي’ أن يفضي إلى الحرّية، في سورية؟ليس السؤال دعابة، بل هو عنوان موضوع جادّ، نشرته أسبوعية الـ’إيكونوميست’ البريطانية، وهي مطبوعة جادّة الجدّ كلّه في ضوء تاريخها العريق، ونفوذها الواسع في أوساط المال والأعمال والسياسة. خلاصة المقال تسير هكذا: مضى، وانقضى، زمن صحن الحمّص و’الرغيف المسطح’، كما تصف المجلة رغيف الخبز العربي، والمطاعم الدمشقية توفّر هذه الأيام مختلف المطابخ العالمية، استجابة لرغبة زبائن آخذين في التكاثر، كانوا يقصدون العاصمة اللبنانية، بيروت، من أجل مُتَع كهذه؛ فهل، تتساءل الـ’إيكونوميست’، ‘ما تزال اشتراكية البعث طيّبة المذاق؟’.
كاتب المادّة تناسى، إذْ الأرجح أنه يعرف جيداً، أنّ ‘اشتراكية البعث’ هذه لم تكن ذات مذاق طيّب في أيّ يوم، في ذائقة السوريين على الأقلّ، وحتى عند بعض صنّاعها ومنظّريها؛ فضلاً عن أنها لم تكن اشتراكية أصلاً، بقدر ما كانت اقرب إلى الـ’تأخّراكية’، حسب التعبير الساخر الذي نحته المفكر السوري الراحل ياسين الحافظ. ورغم أنه أشار إلى الكلفة الباهظة لطبق الـ’سوشي’ قياساً على ميزانية المواطن السوري العادي (38 دولاراً، في بلد يبلغ متوسط الدخل السنوي فيه 2700 دولار)؛ فإنّ كاتب الـ’إيكونوميست’ تغافل عن حقيقة أخرى بسيطة، مفادها أنّ المواطن الأوروبي العادي، المقيم في فرنسا أو ألمانيا أو إيطاليا، لن يجد المبلغ ذاته رخيصاً بخساً. في المقابل، قبل أسابيع قليلة كان موقع دولي، مختصّ بتخمين أسعار العقارات والمكاتب التجارية، قد صنّف العاصمة السورية في عداد المدن العشر الأغلى على نطاق العالم، فجاءت دمشق في الترتيب الثامن، بعد العاصمة الفرنسية مباشرة، ولكن قبل سنغافورة ونيويورك!
وفي باطن سؤال الـ’إيكونوميست’، حول الصلة بين طبق الـ’سوشي’ والحرّية، ذلك الإفتراض الليبرالي العتيق الذي يربط ـ على نحو آلي محض غالباً، جامد ودوغمائي في تنظيرات عديدة ـ بين حرّيات السوق الاستثمارية، والحرّيات المدنية والسياسية. وضمن التطبيق الكاريكاتوري، الكامن في خلفية معادلة الـ’إيكونوميست’، يتوجّب على طبق الـ’سوشي’ أن يفسح المجال لترخيص حزب سياسي معارض مثلاً؛ أو يكون طبق آخر من الـ’فوتوماكي’ كفيلاً بمنح الطبقة المتوسطة هامشاً أوسع في التعبير والرأي؛ وثمة، بالتالي، رباط وثيق مباشر بين تحرير الاستهلاك وتحرير الإنسان، وبين السوق والإصلاح؛ إلخ.
والحال أنّ المعادلة فاسدة لأسباب لا تخصّ انتفاء تطبيقها في كلّ زمان ونظام فحسب، بل كذلك لأنّ طبيعة نظام ‘الحركة التصحيحية’، الذي يحكم سورية منذ 40 سنة وتمّ توريثه للأسد الابن بعد رحيل الأسد الأب، تأبى هذه الصيغة الآلية المباشرة من التأثير المتبادل بين السوق والإصلاح. وهذه بنية عصيّة على الإصلاح، كما سبق لي أن ساجلتُ مراراً وتكراراً، لإنّ أية خطوة إصلاحية سوف تسفر أوّلاً ـ بوصفها تقتضي، أصلاً ـ هذا المقدار أو ذاك من تكسير المعمار المتحجّر، المتماسك بسبب انكفائه على أواصر الاستبداد والفساد والنهب والحكم العائلي.
وذات يوم، صيف 2005، وفي حوار مطوّل مع صحيفة ‘دير شبيغل’ الألمانية، سُئل بشار الأسد عن السبب في وجود ‘محاولات تحرّك نحو الديمقراطية هنا وهناك في العالم العربي. ولكن ثمة القليل فقط من الدليل على هذا في سورية’، فأحال ردّه إلى ثلاثة أسباب، أوّلها الفارق بين سورية وسواها: ‘حسناً، الحال تقول إنّ الدول العربية تتطوّر بمعدّلات مختلفة وضمن شروط تاريخية مختلفة. مصر، مثلاً، لم تشهد انقلابات كثيرة كما جرى في سورية.
يضاف إلى هذا أنّ القاهرة وقّعت اتفاقية سلام مع إسرائيل، في حين أننا لسنا في حالة حرب ولا حالة سلام مع إسرائيل. وبالمناسبة، لم يبدأ تطوّرنا إلا قبل سنوات قليلة مضت، ولهذا فإنّ التوقعات تتباين كثيراً. ولكن القضية الأساسية هي أننا في سورية قد فتحنا حواراً حول الأمر على الأقلّ’.
وفي هذا المستوى الأوّل، من اللافت أنّ الأسد تذرّع بالإنقلابات، رغم أنّ آخرها كان ذاك الذي وقع سنة 1970، وجاء بأبيه حافظ الأسد، ثمّ بآل بيته إلى السلطة! كذلك فإنّ الإحالة إلى موقف اللاسلم واللاحرب، مع الدولة العبرية، توحي بأنّ الديمقراطية السورية لن ترى النور إلا إذا سبقها السلام مع إسرائيل! وأخيراً، يبدو الإقرار بأنّ التطوّر في سورية عمره ‘سنوات قليلة’، بمثابة تسليم بأنّ 35 سنة من عمر الحركة التصحيحية، ساعة إجراء الحوار مع ‘دير شبيغل’، كانت زمناً ضائعاً في ما يخصّ التنمية والتطوير والإصلاح! وأمّا الزعم بأنّ النظام فتح حواراً حول التحرّك الديمقراطي، فإنّ حملات الاعتقال المتواصلة ـ منذ وأد ‘ربيع دمشق’ في مهده، مروراً بمحاكمة وسجن قيادات ‘إعلان دمشق’، وانتهاء بعشرات المعارضين والناشطين (أشهرهم هيثم المالح، 79 سنة، القاضي السابق، وأحد كبار ناشطي حقوق الإنسان في سورية، والذي سبق له أن اعتُقل أعوام 1980 ـ 1986) ـ إنما تغني عن كلّ تعليق.
في المستوى الثاني من الإجابة، وبعد أن يقاطعه الصحافي الألماني سائلاً: لقد استغرق الحوار أكثر ممّا ينبغي، يذهب الأسد إلى حزمة أخرى من الذرائع، فتسير إجابته هكذا: ‘إنّ سرعة تطوّرنا تعتمد على ما يتوجّب أن نواجه من تحديات، لا نستطيع دائماً التأثير فيها. على سبيل المثال، يتوجّب أن نتعامل مع قوى أجنبية تتدخّل في شؤوننا الداخلية. كلما تزايد التدخل، تباطأت سرعة التطوّر في سورية. ففي نهاية المطاف، ينبغي للعملية الديمقراطية أن تسود البلد بأسره. وطبيعي أنّ عدم حلّ نزاع الشرق الأوسط يبطىء التطوّر أيضاً. هنالك، كذلك، مسألة أيهما ينبغي أن تكون له أولوية أكبر عندنا: التطوّر السياسي أم النموّ الإقتصادي؟’. ويضيف، عن العلاقة بين هاتين الأولويتين: ‘هنالك بون شاسع بين الهدفين. فلكي نطوّر النموّ نحتاج إلى المساعدة من الإتحاد الاوروبي. وعند الكثير من السوريين الذين التقيت بهم، يحظى الفقر باهتمام أكبر من التطلّع إلى دستور ديمقراطي. إلى جانب هذا، هنالك الإرهاب أيضاً، والذي يقف في طريق التقدّم الديمقراطي’.
إجابة متذاكية، كما يتوجب القول، لأنها تمزج الإبتزاز (حكاية الإرهاب، والتدخل الخارجي)، بالإستفزاز (ما معنى أنّ العملية الديمقراطية ينبغي أن تسود في البلد كلّه؟ هل من المحتمل أن تسود في جزء من سورية، فقط؟)، والاستجداء (دعم الإتحاد الأوروبي)، بالديماغوجية (السوريّ الذي يهتمّ بالمعدة أكثر من الحرّية!)… ولقد صار واضحاً منذئذ أنّ الأسد استقرّ على نغمة جديدة لم يسبق لها أن كانت في ترسانة الذرائع التي اعتاد أن يسوقها، بصدد تأويل تعثّر الإصلاحات أو بطئها أو انعدامها. لقد كان، حتى وقت قريب، يتحدّث عن مشكلات الإدارة، وعجز المؤسسات القديمة، و’الحرس القديم’ لا كما يتمثل في ‘اثنين أو ثلاثة أشخاص يحتلون مناصب رفيعة في أعلى النظام’، حسب تعبيره، بل في ‘آلاف البيروقراطيين العاديين والمتحجرين على امتداد النظام، والذين تخندقوا في مواقعهم على مرّ السنين والعقود وليست لديهم أية مصلحة في أن يسير أيّ شيء على نحو مختلف’. كانت العوائق أيضاً، حسب أقوال الأسد في حوار خاص مع الباحث والمسؤول السابق في الخارجية الأمريكية فلنت ليفريت، تتمثل في استمرار الحرس القديم في ‘هذا القطاع الخاصّ الذي لا يحمل من صفة القطاع الخاص إلا الاسم، والذي يواصل الوجود في علاقة جنينية مع هذه البيروقراطية المتخندقة. أنظر إلى كلّ هذا، وعندها سترى الحرس القديم، وهذه هي العقبة الحقيقية أمام التغيير في سورية’.
أيها، إذاً، العقبة الحقيقية أمام التغيير في سورية؟ البيروقراطية المتخندقة التي لا تتقدّم ولا تتطوّر؟ أم القطاع الخاصّ، المستقيل من وظيفته كقطاع خاصّ؟ أم العامل الديموغرافي، كما قال الأسد ذات يوم غير بعيد، في حوار شهير بدوره مع صحيفة ‘إلباييس’ الإسبانية: ‘في سورية زهاء 300 ألف مولود سنوياً، وبعد عشرين عاماً قد يكون لدينا 300 ألف طالب لفرصة عمل’؟ أم هي ‘مفاهيم متجذرة فى المجتمع مما يجعل عملية التطوير أصعب’، كما قال في حوار 2001 مع ‘دير شبيغل’ إياها؟ لعلّه التدخّل الخارجي، أحدث الذرائع، حيث يُراد لنا التسليم بأنّ نظام الأسد هو آخر ممثّلي تلك الأنظمة، وآخر قلاع ‘الممانعة’ و’المقاومة’ و’الصمود’؟
ولكن… ألا تقول الأبواق بأنّ الحصار الذي فرضته الولايات المتحدة على النظام قد كُسر، أو هُزم، أو رُدّ إلى نحور المحاصرين؟
ألا ينفتح النظام على ‘الممانعين’ مثل ‘المعتدلين’، من طهران إلى واشنطن، مروراً بالرياض والقاهرة، سواء بسواء؟ ألا يواصل استدراج عروض لاستئناف المفاوضات غير المباشرة مع الدولة العبرية، محبذاً أن يكون الوسيط أمريكياً وليس تركياً أو أوروبياً؟ ألم يرفض النظام، من تلقاء ذاته ولأسباب تخصّ البنية المتحجرة دون سواها، توقيع اتفاقية الشراكة مع الإتحاد الأوروبي؟ ألا يتشاطر رجال من أمثال عبد الله الدردري، نائب رئيس الوزراء السوري للشؤون الاقتصادية، في تبرير تأجيل التوقيع على الاتفاقية، بأنّ النظام لا يتلقى دروساً في حقوق الإنسان من أحد؟
وفي العلاقة بين الاقتصاد والإصلاح السياسي، اعتاد الأسد أن يقول التالي: ‘الاهتمام المباشر الآن للمواطن وللشريحة الأوسع في سورية هو الموضوع المعاشي والاقتصادي’؛ أو: ‘هذا ما لمسته قبل أن أصبح رئيساً وما زلت، فإذاً هذا هو أهمّ شيء يجب أن نركّز عليه الآن في سورية’. بيد أنّ أبسط المعادلات هي تلك التي تقول باقتران الخبز والحرية، واستحالة إنجاز خطوات ملموسة على طريق تحسين الوضع المعاشي للمواطنين دون، أو قبل، إنجاز خطوات ملموسة على طريق الإصلاح السياسي والقانوني والإداري. معاش المواطن ليس جزيرة منعزلة مستقلة بذاتها عن سواها، ولهذا فإنّ تفاقم أسباب العيش طفحت إلى السطح حتى في دوائر السلطة، وفي ما تبقى من هوامش مطلبية داخل النقابات والمنظمات الشعبية التي تتبع النظام.
ويبقى المستوى الثالث من ذرائع غياب الإصلاح، أي مخاطر ‘الإرهاب’، واحتمال وقوع ‘تطورات مثل تلك التي جرت في الجزائر منذ 1991. في ذلك الوقت أساءت الحكومة تقدير الشعب، وهدّد الإسلاميون باستلام السلطة. والجزائريون يدفعون بدمائهم، وحتى يومنا هذا، ثمن إساءة التقدير تلك’، حسب تعبير الأسد. فهل يُفهم من هذا أنّ النظام يخشى الإصلاحات الديمقراطية لأنها يمكن أن تعيد إنتاج ‘الجَزْأرة’، حسب المعنى الذي قصده، اقتفاء للتعبير الرجيم الذي صاغه نائبه السابق عبد الحليم خدام؟
وهل الإصلاحات الديمقراطية التي شهدتها بلدان عربية مثل الأردن والمغرب والبحرين، بصرف النظر عن تقييمها في العمق والمحتوى الفعلي، انتهت إلى ‘جزأرة’ من أيّ نوع؟
تلك الأسئلة تنتمي إلى عالم تحليلي ودلالي شاءت الـ’إيكونوميست’ أن تضرب عنه صفحاً، عن سابق عمد وتصميم وليس بسبب من جهل أو ضحالة علم، لا لأيّ اعتبار آخر يسبق المراهنة الليبرالية على فاعلية طبق الـ’سوشي’ في فتح كوّة للحرّية. وتلك خلاصة ذرائعية هي الأشدّ ابتذالاً بالطبع، ولكن الأكثر احتقاراً لآمال الشعوب وآلامها.
‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
مقال الايكونوميست على الرابط التالي
http://www.economist.com/world/middle-east/displaystory.cfm?story_id=15868347&CFID=122573178&CFTOKEN=31265058
خاص – صفحات سورية –