هل لا يزال الماركسيون ماركسيين وماذا بقي من فكر ماركس بحسب طرابلسي وصاغية وشرف الدين وفياض وشرارة
بقينا ولم نبقَ.. ظلت المفاتيح لكن الماركسية صارت ديناً ويمكن تجاوز ماركس بماركس
ثناء عطوي
شكَّلت الماركسية عبقرية القرن التاسع عشر، واعتُبرت من أهم المشروعات الإيديولوجية التي قدمت فهماً مختلفاً للتاريخ والمعارف والأفكار، وقد ربطت الماركسية كإيديولوجيا ونظام فكري بين المثقفين في العالم ووحَّدت أحلامهم بمجتمعات أفضل، وأنتجت بيئة تشابكت فيها رؤى ومصالح الطبقات الاجتماعية على تنوعها، وأسَّست كفلسفة لاتجاهات نظرية لا تزال جزءاً من تفكير العصر لا بل »الأفق الفكري للعصر« بحسب جان بول سارتر.
وعلى الرغم مما يُقال حول موت ماركس وسقوط الإيديولوجية والشيوعية ونهاية التاريخ الذي دحضه هايدغر وربطه بنهاية النشاط الإنساني، إلا أن »سحر الماركسية« لم يخب في العالم، ولا تزال الماركسية تُمثِّل »أفيون المثقفين«، بحسب المفكر الفرنسي ريمون آرون، وهي كفلسفة لا تزال قُبلة للاكتشاف من قبل الكثير من الفلاسفة والمفكرين، لذلك يعود فكر ماركس اليوم منطلقاً لنقاشات وحوارات في الغرب، كون مؤلفاته تبقى أساسية للتعامل مع الرأسمالية المعاصرة من منطلق علمي، وأيضاً على اعتبار أن الفهم الماركسي للتاريخ »هو فوق أي عمل تاريخي« على حد تعبير جورج لابيكا.
البحث عن ماركس أو بالأحرى الماركسيين القدامى الذين تأثروا إلى حد كبير بهذه الإيديولوجيا، ومعرفة ما إذا كانوا لا يزالون ماركسيين، وماذا بقي لديهم من هذا الفكر وبأي اتجاه نحت علاقتهم الفكرية والنظرية بماركس، تساؤلات طرحناها على شريحة من »الأنتلجنسيا« اللبنانية الذين كوَّنوا المخزون الإيديولوجي نفسه وتفرقوا لجهة تطوير علاقتهم بالماركسية أو التراجع عنها، وبالتالي استخدام قراءاتهم الخاصة لإبراز مواقعهم وتمايزاتهم واختياراتهم، فالمفكر والكاتب فواز طرابلسي يعتبر نفسه أنه لا يزال ماركسياً، لكن بمعنى استلهام التراث الماركسي بما هو في اعتقاده أغنى تراث لفهم عالمنا المعاصر الذي أطلقته بالدرجة الأولى الثورة الصناعية، ويقول نعم أنا لا أزال ماركسياً، لأن الماركسية لا تزال تُقدم المفاتيح الرئيسية لفهم الرأسمالية التي طبعت عالمنا بقوانينها وتطورها وأزماتها، أنا ماركسي أيضاً بمعنى منهجي في التفكير الذي يُغلِّب الانتماء الاجتماعي والطبقي للبشر كعنصر أساسي محدِّد لسلوكنا وفهم تطورنا، وأيضاً كونها نقطة انطلاق نقدية لما هو سائد، بهذا المعنى الماركسية لا تزال بالنسبة لي نقطة انطلاق وقد اغتنيت بعدد من الروافد وأهمها الفرويدية، إضافة إلى كل الإسهامات التي جاءت من داخل الماركسية وخارجها ونقضتها وغيَّرتها وعدَّلتها، فالمقياس بالنسبة لي هو قدرة الماركسية على إنتاج معارف حول أوضاعنا. وهذا موضوع معقد برأيي، لأن الشيوعيين والماركسيين عموماً لم يكونوا ماركسيين كما ينبغي بأدواتهم النظرية ولجهة اشتغالهم على الواقع العربي، لقد كانوا قليلي العمل على ما يُنتج معارف حول أوضاعنا انطلاقاً من النظرية نفسها، وأخيراً أنا ماركسي، لأنني لا أصدق الأكذوبة القائلة بانتهاء عصر الإيديولوجيات، وأعتقد أننا في ظل العولمة والحكم الأحادي نحن في أقصى درجات الإيديولوجيا إذا كانت هي مجموعة الوسائل الفكرية والثقافية لتقرير واقع معين، وكل هذا العالم المربوط بالنيوليبرالية هو أحطّ أنواع الإيديولوجيا، كونه يختصر العالم بالسوق وغموضه وآلياته السياسية، وهي إيديولوجيا يجري تعميمها بوسائل فتاكة من نمط الفضائيات والأفلام والعدة الإعلامية.
أضاف: أنا ماركسي لكل الأسباب الآنفة، لكني لست ماركسياً بمعنى تبني عقيدة الدولة السوفياتية التي تبنت السلطة وارتبطت بها فتوقف تطورها، فالماركسية هي نظرية التحول والتجاوز والعلاقة بين النظرية والممارسة. ويزعم كثيرون أنهم ما عادوا ماركسيين، لأن الماركسية فشلت في الاتحاد السوفياتي. صحيح أنه لا يمكن تبرئة الماركسية من التجربة السوفياتية، وهناك جوانب من الماركسية تتبنى وصفات التغيير الخاطئة لجهة الاستقطاب، إضافة إلى خطأ تنبؤات ماركس بأن تطور الرأسمالية سيُقسم المجتمعات إلى أقلية من مالكي وسائل الإنتاج وأكثرية من الأجراء غير المالكين، وبالتالي ما أسماه ديكتاتورية البروليتاريا هو عملية ديموقراطية كاملة، متناسياً أن طبقة وسطى تُعقِّد التركيب الطبقي ستنمو بينها، علماً أن الطبقات الوسطى ليست مفعولاً به وإنما فاعل وأحياناً مسيطر، خصوصاً في المجتمعات الرأسمالية الناتجة عن الكولونيالية. أنا أعتقد أن النظرية هي نقطة بداية وليست نهاية، وهذا ما ينطبق على الماركسية. لهذه الأسباب مجتمعة فإن عالم ما بعد الاتحاد السوفياتي لا يبدو لي أعدل ولا أكثر مساواة ولا أكثر حرية وديمقراطية بالعلاقة بين أجزائه ولا أكثر ازدهاراً واستقراراً.
النزعة الخلاصية
العالم الذي افتقده طرابلسي مع انهيار الاتحاد السوفياتي لا يجده الكاتب والصحفي حازم صاغية في أساس الفكر الماركسي أصلاً، فالماركسية النظرية حتى قبل الاتحاد السوفياتي برأيه تفترض حلولاً لا حلول لها. الماركسية هي بنت النزعة الخلاصية مثل أي دين أو عقيدة تؤمن أنه مع نزول المسيح إلى الأرض أو ظهور المهدي أو تحقق الوحدة العربية ستنتهي كل المشكلات، علماً أن الحياة بحد ذاتها مشكلة وليست حلاً، لذلك فإن الماركسية ليست خلاصاً كما تدَّعي. ومن هنا أنا لا أصنِّف نفسي ماركسياً، كما أنني لا أعتبر نفسي ماركسياً اليوم، لأن المحرك الأساسي والحاسم في العالم الثالث ليس الموضوع الاقتصادي، الذي هو أساسي طبعاً، فنحن لم نتشكل بعد كدول ومجتمعات، الانقسام إلى يسار ويمين والانقسام الاقتصادي حول علاقات الإنتاج مطروح على دول ومجتمعات لم تتحقق بعد فعلياً، ولا تزال حتى اليوم القبيلة والعشيرة والإثنية هي المحددات الأساسية لتكوين مجتمعاتنا، هذا لا يُلغي سعينا للعمل من أجل دولة ومجتمع تقدمي، لكن السؤال الأساسي هو من نحن سياسياً لبنانيون، عرب، إسلام، قبائل أم عشائر؟ هذا الموضوع هو الحاكم لوعينا وينبغي أولاً أن نحله، وهذا سبب لانتهاء الأحزاب الشيوعية في العالم إلى اللاشيء أي إلى مجموعات ملتحقة بالسياسة أو بهذه الجهة أو تلك.
وقال: هذان سببان أساسيان لأقول إنني لست ماركسياً، لكن هذا لا يُلغي الإقرار بمساهمات أساسية حققتها الماركسية ودورها الأساسي في البحث وفي المسألة الاجتماعية والكلام عن علاقة الدين بالناس والاستنتاجات الأخرى، كما أن للماركسية فضلاً في إنتاج عدد من المثقفين، فهي كانت أشبه بعربات لربط مثقفي العالم الثالث بالأدب العالمي. وهذه مسألة مهمة جداً، لدينا حاجة لفكر ماركس في العالم الثالث اليوم بوصفه جزءاً من فكرة الحداثة. نحن بحاجة إلى فكرة الحداثة التي تؤكد لنا على آلية الدولة وعلى أهمية المجتمع والتصدي للدين والخرافة والولاء الطائفي.
الباحثة والأكاديمية فهمية شرف الدين تعتبر أن جزءاً كبيراً من الحقيقة موجود في الماركسية، فهي قدّمت منظومة أفكار وأعطت جواباً متسقاً حول عمليات الانتقال التاريخية، وناقشت قضايا التاريخ والفلسفة والاقتصاد وأفكاراً أخرى حول تكوين الطبقات بناء على انتقال علاقات الإنتاج وعناصره، والاستغلال وعلاقته بالتغيير الاجتماعي الذي ترجمه ماركس في ثورة البروليتاريا، من هنا أعتبر أن ما قدمه ماركس هو إضافة نوعية للفكر لن تموت، ولن يُغيِّر فشل الأحزاب الشيوعية أو نجاحها من ماركسيتنا التي لا يمكننا حذفها وإنما تجاوزها، بهذا المعنى أنا لا أزال ماركسية أؤمن بأن الأفكار التي أنتجتها الماركسية عبر مسارها لا تزال أدوات صالحة للتحليل، والتساؤل عن مدى العلاقة بين ما يجري وبين الأفكار هو تساؤل حقيقي، وبالتالي فمجموعة الأفكار التي أنتجتها انهيارات الأحزاب الشيوعية في العالم التي يسميها المفكر سمير أمين الشيوعية الاشتراكية القائمة بالفعل، وليس الاشتراكية بمعناها الحقيقي، هي أفكار لا يمكن تطبيقها كاملة، وهناك من يطبقها أحياناً بشكل خاطئ، لكن هذا لا يعني أن الخطأ سيصبح صواباً غداً. أنا مع أي تطبيق يحمل جوهر الأفكار، وبالتالي لا نستطيع أن نجعل الأفكار منزهة عن الخطأ، لأن محك أي فكرة التطبيق، لذلك فالطوباويات الشيوعية أنشأت مساحة واسعة بين التطبيق، كما جرى في الدول الاشتراكية، وبين النظرية. مقابل ذلك ماذا علينا أن نفعل، هل يؤدي ذلك إلى عجز الأفكار الماركسية أم تجاوزها؟ لا بد للمحللين للماركسيين أن يأخذوا بالاعتبار التغييرات المعرفية التي حصلت في العالم لا سيما ثورة التكنولوجيا التي لم تكن في بال ماركس، فما كان جائزاً قبل الثورة المعلوماتية لم يعد جائزاً اليوم، لذلك سيتم تجاوز الأفكار الماركسية، ولكن ليس التراجع عنها. صحيحٌ أن ماركس قدَّم أدوات لتغيير العالم، لكن ضمن مرحلة تاريخية كانت ترى إلى البرجوازية ومرحلة التصنيع وكأنها المرحلة التاريخية للمجتمع، وهذه مأخوذة عن هيغل، لذلك ما جرى منذ الثمانينيات غيَّر في نمط وأشكال منظومة الإنتاجية وتغير الفاعلون الاجتماعيون أيضاً.
الماركسية بالنسبة للكاتبة والباحثة منى فياض لطالما كانت فلسفة لم تتجمد فيها، كما تقول، بل أخذت منها ما يلائمها من أفكار، لذلك أنا لا أعتبر نفسي ماركسية بالمعنى الجامد للانتماء، صحيحٌ أنني تأثرت بفكر ماركس، لكني أيضاً أنا فوكوية ونيتشوية وفرويدية، لقد اكتشفت لاحقاً أن ماركس هو أول باحث اجتماعي في التاريخ، وقد كان لديّ حظ ممتاز في التعرف باكراً على نظرياته التي غيَّرت العالم وتركت بصمات مهمة على الكرة الأرضية، لكني أبداً لم أكن منغلقة ولا مرة على فكره وحده، ولهذا السبب لم أنخرط في الحزب الشيوعي مثلاً، لأنني ضد أي منظومة ديكتاتورية، لقد انتسبت إلى تيار لبنان الاشتراكي، لكن لفترة وجيزة وبوصفه يساراً يتلاءم مع أفكاري.
الأكاديمية والكاتبة عزَّة شرارة تعرفت على الفكر الماركسي مبكراً وتحديداً عقب حرب الـ ٦٧ بعد أن شعرت بضرورة الانتماء إلى مكان ما وممارسة العمل السياسي من خلاله، لقد دفعني ذلك للتعرف إلى أفكار ماركس وتبلور انتمائي الماركسي من خلال حلقات التثقيف التي شاركت فيها ومن ثم انتمائي لاحقاً إلى لبنان الاشتراكي الذي كان شقيقي وضاح عرِّابه مع مجموعة من الشباب المثقفين. قرأت كثيراً حول ماركس وأنغلز وتأثرت أكثر بلينين الذي أعتبره واقعياً أكثر وماو تسي تونغ أيضاً، هذه القراءات كانت تستجيب لحاجاتي الفكرية وتطلعاتي في إعادة تشكيل الواقع بعيداً عن خطب التجييش والتعبئة التي سادت في تلك الفترة، لكن في السبعينيات حدث تحول جذري في تفكيري نتيجة تجربة شخصية انعكست على مجمل قناعاتي بالفكر الماركسي، فبعدما حملت وأنجبت طفلتي التوأم انتبهت أنني لم أعد أؤمن بالعنف الثوري الذي هو مسألة مركزية في الفكر الماركسي، شعرتُ أنني سأكون خبيثة جداً إذا ما بقيتُ أنادي بالعنف، وأنا أرفض أن يتأذى أطفالي. الذاتية عندي غلبت على الموضوعية فتراجعت ماركسيتي ولم أعد أؤمن مجدداً بعنف ثوري إرادي، واعتبرتُ أنه لطالما لم أعد كذلك فقد انكسر شيء من ماركسيتي، وبدأت أضع علامات استفهام حول انتمائي، وقد ساهمت في ذلك أيضاً حالة الانشقاق التي شهدتها منظمة العمل الشيوعي، التي كنت أنتمي إليها، والتي كانت عبارة عن محيط أصدقاء ومجتمع كامل، وهكذا أحسست أننا خسرنا هذه الدائرة ووقعت معهم خصامات ورحت أفتش عن مكان آخر واتجاهات نسوية، وبقيت طيلة فترة الحرب الأهلية بعيدة عن هذه الأجواء. أنا اليوم وبعد كل تجاربي لا أعتبر نفسي ماركسية، وإنما أنا ليبرالية بمعناها الأوروبي، وأنا لبنانية قبل أي شيء.
ماذا بقي
ماذا بقي عند أحفاد ماركس اللبنانيين من الماركسية، كثير من المفاهيم والاستنتاجات التي صاغها كل الجيل الماركسي السابق ولا تزال عالقة في ممارسته وطريقة تفكيره، فطرابلسي يعتبر أن ما بقي عنده من الماركسية هي النظرة إلى العالم التي يمكن تسميتها المادية والجدلية، مادية بمعنى موضوع المعرفة الذي هو هذا العالم وليس الغيب، والمادية التاريخية وهي عبارة عن قوانين ومفاهيم لفهم تطور المجتمعات، هناك سؤال دائم اسمه لماذا؟ وهل هناك محرك رئيسي؟ الماركسية في الواقع تقترح الإجابة، المحرك الرئيسي ليس الاقتصاد وإنما الصراع بين القوى الاجتماعية، وأكبر تصحيح للماركسية هو وهمها بأن تطور الرأسمالية يُكنِّس كل البنى والتقاليد ومؤسسات ما قبل الرأسمالية، رغم أن الكثير من الماركسيين تنبهوا إلى هذا الموضوع، ومن بينهم ماركس نفسه، ليست هناك رأسمالية صافية ولا اقتصاد صافٍ وربما أكبر سقطة في الماركسية هي التي تفترض أن الماركسية هي ترسيمة مبسطة والعالم كله يمكن أن يصبح مثل بريطانيا. صحيح أن ماركس هو نبي العولمة أو نبي الطور الثاني أو الثالث منها، لكنه في الوقت نفسه تصوَّر أن العالم يتوحد ضمن التفاوت. لقد بقيت عندي من الماركسية المؤشرات التي أعطتها حول وظيفة الدين، وبقيت بما هي علم للرأسمالية التي لا تقدم عن نفسها معرفة وإنما إيديولوجيا ولا تفسر آلياتها، في حين أن ماركس يقول الأزمات هي الوجه الملازم للرأسمالية التي تقضي عمرها في محاولة لتجاوز أزماتها، من دون أن يكون معنى ذلك أن كل أزمة تؤدي إلى انهيار، فمقالات ماركس في الرأسمالية لا تزال صالحة، لكنها نقطة انطلاق للإغناء والتطوير.
ويضيف: الفكر الماركسي هو محطة أساسية في الفكر الإنساني المرتبط بالدرجة الأولى بفكرة المساواة من الناحية القيمية، أما من الناحية العلمية فهو تتويج لتركيب، كما يقول لينين، مؤلف من ثلاثــة مذاهب كبيرة هي الفلسفة الألمانية والسياســة الفرنســية وعلم الاقتـصاد البريطاني.
النوستالجيا لحقبة محددة من الزمن هي ما بقي لدى غالبية الماركسيين القدامى، وهي المكان الذي لا تزال تتفاعل فيه الأفكار وتصوراتها، فالنوستالجيا المرتبطة بفترة ازدهار اليسار في العالم بقيت بقوة عند منى فياض، وأيضاً بقيت المكونات الثقافية الحاسمة التي وضعها ماركس، كما تقول، كالموضوع الطبقي ومفهوم العدالة الاجتماعية ومسألة استغلال قوة العمل، وهي القيم نفسها لا تزال موضع تأثير على عزة شرارة أيضاً، وكذلك التشبيهات الماركسية، فأنا جداً متعاطفة مع الفقراء ومواقفي في حرب تموز جاءت من هذا المنطلق الماركسي، وأكثر الشخصيات النسوية الأميركية التي أتعامل معها في الحركة العالمية التي تعمل ضد العنف والحرب هن ماركسيات قدامى، لقد أُنتج الفكر الماركسي بالتلاقح مع الليبرالية الأميركية، وأعتقد أن من لا يكون شيوعياً وعمره عشرون يكون بدون قلب، ومن يبقى شيوعياً بعد الثلاثين يكون بلا عقل، وهذا يعني النضج وإعادة التفكير بقناعاتنا التي يبقى منها ما هو مفيد ويتلاءم مع نمط حياتنا وقدراتنا الفكرية.
قوة الأفكار وتأثيراتها في مرحلة زمنية ما هي التي بقيت عند حازم صاغيه، الذي يجزم أن ما من فكرة يمر عليها الإنسان إلا وتترك مكاناً في وعيه أو لاوعيه، وقال رغم الكثير مما تهافت من تعاليم ماركس، فإن إسهام الماركسية في المسألة الاجتماعية يبقى أساسياً وتبقى الماركسية نُوى اجتماعية وأدوات تحليلية فاعلة، فهي شكَّلت إحدى البيئات النادرة، حيث تلاقى المسلم والمسيحي واليهودي والعربي والكردي والأمازيغي وتقاربوا وتشاركوا في التطلعات، وقد اتسعت الأحزاب الشيوعية لوجوه تنويرية ونخبوية توافق إبداعها مع احتكاك بالأفكار الأكثر توهجاً للرائد الألماني، الذي تعرَّف العالم من خلال تعاليمه على المساواة بين الإنسان والإنسان وبين المرأة والرجل والأسود والأبيض، وأدركوا في ضوئها دأدركوا أن القبائل والعشائر والأمم والأديان ليست قدراً يصحب أ أ أن القبائل والعشائر والأديان ليست قدراً يصحب بالضرورة الوجود الإنساني، وعن طريق الماركسية انبنت عقول البعض بطريقة نقدية حملتهم على نقد الماركسية نفسها لاحقاً.
فهمية شرف الدين ترى أن الماركسية كمنظومة فكرية كاملة بقيت عندها، فهي لا تزال صالحة للتحليل، وعليها أن تُطبق على متغيرات جديدة لم تكن موجودة وإنتاج بدائل لها، من هنا شكَّلنا مع المفـكر ســمير أمين منتدى البدائل الذي يمكن عبره قول ما هــو إضــافي حول التغيرات التي طرأت، لكننا في الواقع لا نزال ندور في حلقة مفرغة ونستعيد المقولات بطريقة أخرى، أعتقد أنه ينبغي علينا انتظار عمليات التراكم ككل فكر نوعي، وأن نرى إلى إمكانية إنتاج فكر آخر يتجاوز ماركس بالمعنى الإيجابي أي من خلاله إلى أماكن أخرى، فالواقع أن ما يُبقي ماركس حاضراً بقوة هو العجز عن إنتاج فكر أكثر قدرة على مسك أدوات التحليل، لقد ظن الناس أن فكر ما بعد الحداثة سيُقدم الأدوات المناسبة للتحليل الاجتماعي عقب ثورة التكنولوجيا، لكن تبين أن ما بعد الحداثة هي تعــبيرات عن الأزمة وليست حلاً لها، وهي أعادتــنا إلى الوراء أي إلى هيغل والمنظمات الدينية، لذلك هــي الآن في مــأزق، المطلوب تجاوز ماركس وليس الارتـداد إليه، خصــوصاً بعد الأزمة العالمية الأخيرة، وهذا التجاوز لا يعني الإلغــاء فماركس باقٍ في بنيتنا العقلية والفكرية وفي أسلوبنا وممارستنا النقدية.