صفحات مختارة

أزمة يسار

أريك رولو
موضوع اليسار شديد الحضور والالحاح ليس في العالم العربي وحده (•)  فاليسار، بجميع مكوناته، يجتاز أزمة عميقة  في أوروبا كذلك.
فرنسا، مثلاً، تقودها حكومة هي الأكثر يمينية منذ تأسيس الجمهورية الخامسة، أي منذ نصف قرن. ونجاحها في الانتخابات انما كان يشير الى التحول الحاصل في الرأي العام.فالحزب الشيوعي الذي كان يمثل ربع الهيئة الناخبة في سنوات ما بعد الحرب هو اليوم في موقع هامشي مع نسبة تصل بالكاد الى خمسة في المئة. والحزب الاشتراكي الذي خسر السلطة منذ ثماني سنوات، مهدد بخسارة الجولة الرئاسية المقبلة، رغم النجاح الذي حققه في الانتخابات البلدية الأخيرة. فانقساماته، وعجزه عن اقتراح برنامج بديل عن برنامج اليمين حتى الآن، قد يؤديان في الواقع الى خسارة جديدة .
وتبدو خسارة اليسار شديدة الوضوح على مستوى الاتحاد الأوروبي بمجموعه. سنة  2002  كانت الاحزاب الاشتراكية الديموقراطية تحكم أكثر من نصف دول الاتحاد، أي خمس عشرة دولة،في حين لم يبقَ منها اليوم سوى خمسة غير مضمونة الاستمرار. الليبرالية الجديدة التي غذاها تشكل الاتحاد تتوسع، وتزداد رسوخاً.
عديدة هي أسباب أزمة اليسار الأوروبي، ولاتزال تحتاج الى أن تتحدد بدقة. علماً أن الكثير من المحللين يعتمد مقولة أن انهيار الاتحاد السوفياتي بخّس فكرة الاشتراكية نفسها. لكن عجز الاشتراكية الديموقراطية، من جهة ثانية، عن تقديم حلول للمشكلات التي تولدها العولمة، يفسر بلا شك ما يصيبها من خيبات.
أما عن أسباب وأسس أزمة اليسار العربي، فان كتابات كريم مروة الكثيرة توفر مادة توثيق جديرة باهتمام كل الذين يعز عليهم بناء الديموقراطية في البلدان العربية وتطورها. في هذا الخصوص، يبدو لي أن هناك كتابين لا غنى عنهما لفهم مقولات المؤلف: كتاب “في البحث عن المستقبل”، الذي صدر في العام الماضي يلقي الضؤ على تطور فكر كريم مروة، الذي غادر موقعه القيادي في الحزب الشيوعي اللبناني ليتحول كاتباً متحرراً من قيود التنظيم، فيحلل ماضياً تغيّر، ويستكشف، في غنى تجربته الخاصة، آفاق المستقبل. وذلك هو جوهر مؤلفه الجديد الصادر هذه السنة بعنوان “نحو نهضة جديدة لليسار في العالم العربي”. ويبرهن هذا النص على أن التغيرات العميقة التي جرت في العالم على كل المستويات تستوجب بإلحاح مراجعة شاملة لبرامج اليسار واستراتيجياته وتكتيكاته. وتؤكد قراءة الكتاب أن مشروع التحديث الطموح هذا لا يمكن أن يتحقق الا في اطار من الديموقراطية المتقدمة.
بديهي أن يكون استشراف المستقبل أكثر مشقة من تحليل الماضي، بخاصة وأننا نعيش مرحلة انتقال لا نعرف مساراتها وغاياتها. لا بد اذاً من أن نأمل بأن يتحلى مفكرون آخرون بالجرأة اللازمة لصوغ مقترحات قادرة على المساهمة في تجديد اليسار. وهنا تكمن أهمية مداولاتكم التي يؤسفني مجدداً ألاَّ أكون مشاركاً فيها.
(•) هذا النص لإريك رولو هو مساهمته في مناقشة كتاب كريم مروة “نحو نهضة جديدة لليسار في العالم العربي”، والتي نظمها “المجلس الثقافي للبنان الجنوبي بالتعاون مع وزارة الثقافة في الاونيسكو (18/4/2010).
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى