صفحات مختارة

اليســاري المسكــون بهـاجــس التغييــر

حبيب صادق
… الى خمسة عقود مضت تعود علاقتي المركَّبة بأبي أحمد. أقول مركبة لكونها علاقة تشكَّلت، مع تعاقب الأعوام، من جملة مكوِّنات انصهرت في بوتقة الصداقة العميقة الخالصة… وحسبي، هنا، أن أشير، إشارة خاطفة، إلى أربعة مكوِّنات منها لا أكثر:
فالمكوِّن الأول ينحدر من صلب الانتماء، وراثةً، إلى أرض الجنوب الأم الطيِّبة الشامخة القامة وإلى تاريخه الحافل بالمواقف والمآثر. ويتولَّد المكوِّن الثاني من الانتساب الواحد إلى شجرة الأُسَر الدينية في الجنوب، جبل عامل تاريخياً، فأُسرتانا تنتسبان معاً إلى هذه الشجرة التقليدية. أما المكوِّن الثالث فقد تشكّل تدريجياً، من الهموم والاهتمامات المشتركة المتصلة بوجوه الحياة العامة الراهنة من جهة، وتتصل، من جهة ثانية، بكنوز التراث العربي وبالكتابات المعاصرة في الأدب العربي والفكر السياسي والتاريخ وفي الثقافة العامة. وأما المكوِّن الرابع والأخير فقد نهض بنيانه، مدماكاً مدماكاً، على ما راكمته من خلاصات القراءة النقدية للأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية في لبنان وفي غيره من البلاد العربية، وعلى ما أفضت إليه تلك القراءة من استنتاجات وعِبَر، ثم على ما خلَّفه، من آثار مجدية، العملُ المشترك في ميادين السياسة والاجتماع والثقافة، وذلك في منأى عن الانتظام الحزبي أو التأثُّر به.
وفي هذا الصدد لا يسعني اليوم إلاَّ البوح بما كنت أجده في سلوك الصديق كريم تجاهي، من حرصٍ على بقاء العلاقة الثنائية بيننا في حدود الصداقة الخالصة، من دون أن يخالطها طيف من التأثُّر الحزبي. وهذا سلوك يتعارض، كما هو معروف، مع نمط السلوك السائد في الأوساط الحزبية، إذ من شأن الحزبيين، على تفاوتٍ في مواقعهم، أن يبذلوا قصارى جهدهم، لاكتساب المزيد من المنتسبين إلى أحزابــــهم.. ولا أُخفي أنَّ ذلك الــــسلوك من كريم تجاهي لاقى عندي صدىً حسناً للغـاية فأكبرتُ صاحبه في سرِّي، ولم أحاول الوقوف منه على الدواعي التي حملته على انتهاجه بلا أي تردُّد.
وعاماً بعد آخر راحت العلاقة بيننا تتوثَّق حتى استوت على مقامٍ وطيد الأركان، من المودَّة والثقة والإخلاص.
وعلى الرغم من ذلك، فكثيراً ما كنَّا نتفق في الرأي، وكثيراً ما كنَّا نختلف. بيد أنَّ هذا الاختلاف، على تعاقبه، لم يخلخل نسيج تلك العلاقة أو يوهنها بل كان يزيدها تماسكاً وصلابةً.
وعلى هذا المستوى الرفيع من التماسك والصلابة استمرت علاقتنا عقب استقالة كريم من مسؤوليته الحزبية وانقطاعه إلى البحث والتقصِّي فالكتابة، آخذاً بمذهب الاجتهاد في قراءة الأحداث والتحولات، في حقبة شديدة الاضطراب والانهيارات، شهدت تصدُّعات، متفاوتة في العمق والسِّعة، في مواقف لفيف من القيادات اليسارية في العالم العربي، ما استثار حفيظة قليل أو كثير من رفاقهم القُدامى، فاعتكر جو الثقة وتوتَّرت الصلات واشتدَّت نبرة التساؤل، وقد ذهب نَفَر منهم إلى حدودٍ قصوى في متاهة الاتهام والتجريح فالإدانة.
… تلك مرحلة عصيبة وعصبية تُذكر، اليوم، للدرس والعبرة.
وبعد فاسمحوا لي، ثانية، أن أعود إلى مجرى الحديث الذي انقطع سياقه العام بإجازة منكم قصيرة.
أزعم أني قرأت النص الممهور بتوقيع كريم مروة، بروية وإمعان، فأفدت كثيراً من خطابه المشحون بالجدية والحماسة. فهو، أي النص، خلاصة تجارب متنوعة عميقة كثيرة الأبعاد وبعيدة المرامي، تضافرت على إنتاجها وصقلها عقود ستة من الهموم والشواغل السياسية والاجتماعية والفكرية، ومن مغالبة الصعاب والتحديات المتلاحقة.
بيد أنَّ أول ما استوقفني، إعجاباً، في النص روحان توأمان: روحُ الإخلاص الصميمي في الدعوة وروح الجدِّية الصارمة في المطالبة.
برغم ذلك ففي هذا النصّ، كما في كل نص كتابي آخر، ما يستدعي وجهَي التباين معاً: وجه الترحيب والإشادة ثم وجه النقد المتراوح بين الموضوعية والعصبية.. ولما كانت معالم هذه وتلك من الكثرة بحيث يضيق بها وعاء الوقت، أراني محكوماً بالاختيار القسري، فأسارع إلى اختيار أربعة معالم، لا أكثر، من كل مجموعة من وجهَي التباين:
في المجموعة الأولى
أولاً: أن ينطلق كريم مروة، في مشروعه النهضوي، من موقع اليسار، تحديداً، وأن يخاطب به قوى اليسار، على تعدد أطرافها، في العالم العربي، فأمرٌ يستدعي الترحيب والإشادة بلا أدنى ريب، فكيف إذا أضفت إلى ذلك تقديره البالغ للدور التاريخي الذي قام به اليسار القديم ذهاباً إلى القول: إنَّ «اليسار الجديد، الذي يسعى إلى إظهاره وإبراز عناصره ومكوِّناته، إنَّما ولد من رحم القديم ثم يحاول أن يتجاوزه من دون أن يتنكَّر له، ومن دون أن ينفي انتسابه التاريخي له».
ثانياً: مصارحته القوى اليسارية، في سياق حديثه عن المهمة التاريخية التي تواجهها، راهناً، بأنَّها ليست مهمة سهلة على الإطلاق، بل هي شديدة التعقيد والصعوبة، على الرغم من ذلك تجده يبادر إلى القول بثقة: «فلا خيار أمام هذا اليسار، سوى الدخول في التجربة من جديد، بواقعية قصوى وبنفسٍ طويل، والسير قدماً في اتجاه المستقبل تحت شعار التغيير الديموقراطي».
ثالثاً: دعوته الملحَّة إلى قيام الدولة الوطنية الديموقراطية، برغم أنَّ الرأسمالية المعولمة قد تجاوزت، في تطورها العاصف، حدود الدولة الوطنية وحدود الدول كلِّها، مع ذلك لم يتردَّد في الكلام: «ان الدولة الوطنية تستطيع أن تمارس نوعاً من الرقابة على حركة الرأسمال، ومن شأن هذه الوظيفة الأساسية للدولة أن تجعلها ضامنةً لانتظام الحياة الاجتماعية، وهذا ما يحول دون وقوع موبقات شنعاء كالجريمة المنَّظمة والفساد وسرقة خيرات المجتمع»…
رابعاً: انتقاله، من الحيِّز المحدود، في الزمان والمكان، إلى الحيِّز اللاَّمحدود، في تصوير هاجسه بفكرة التغيير. ومن فرط استغراقه بهذا الهاجس تجده ينتقل بك من أرض الواقع القائم إلى سديم الحلم الهائم. فإذ به يرى في ما يرى النائم، السديد الرؤيا، أنَّ نظاماً عالمياً جديداً يبزغ نجمه الوردي في الأفق الشفيف، فيسارع إلى رسم فاتحة الطريق إليه من إدراكٍ عميق لمعاني «المهمة التاريخية التي بدأها ماركس، قبل ما يزيد على قرن ونصف قرن، ألا وهي مهمة تغيير العالم التي ستظل مهمة الأجيال الجديدة للبشرية جيلاً بعد جيل».
هذا بعض ما وسعني قوله في شأن بعض المعالم في النص التي تستدعي الترحيب بها، أما في شأن المعالم التي تستدعي النقد الموضوعي، فأكتفي بطرح ما يصلح، ربما، لمزيد من النقاش.
في المجموعة الثانية
أولاً: إنَّ ما يطالع القارئ اليساري، مبثوثاً بكثرة في ثنايا النص، كلامٌ يفصح عن أنَّ التغيير مهمة أساسية من المهمات التي يتعيَّن على اليسار الجديد الاضطلاع بها، تجسيداً عملياً ليساريته. ولكن حين يمعن القارئ النظر في طبيعة المهمات التي أوردها صاحب النص، يجدها أقرب إلى طبيعة الإصلاح ليس أبعد. ذلك لأنَّ التغيير، الجذري بخاصة، له دلالة بنيوية، لا يخطئ إدراكها الوعي النقدي، لكون التغيير، بحكم طبيعته يُحدث تغييراً في صلب بنية السائد، بكامل مكوناته، فيزلزل تحصينات الواقع القائم، واحداً بعد الآخر، ويهمِّش كوابحه، جملةً وتفصيلاً.
بالمقابل، فإنَّ الإصلاح، بحكم طبيعته هو الآخر، لا يتحرك إلاَّ في أحشاء بنية السائد مقيَّداً بشرط احترام «الشروط الواقعية»، على نحو ما جاء في النص تكراراً. إذاً فأقصى ما يرمي إليه الإصلاح أن يُحدث ترميماً أو تجميلاً في هيكل السائد، أو يُجري تعديلاً في تشريعاته الخاضعة، بدورها، لقانون النظام المهيمن، كأن يُصار، مثالاً، إلى إجراء تعديل شكلي في قانون الانتخاب النيابي أو البلدي…
ثانياً: يأخذ القــارئ اليساري، على صاحب النص، إغفاله القيام بمراجعة نقدية موضوعية لتجربة اليسار، اللبنـــاني في الأقل، لا سيما أنه أمضى ردحاً طويلاً من عمره في موقع متقدم في قيادة أحد فصــــائله البارزة. ثم يأخذ عليه، أيضاً، إغفاله الوقوف عند ما أحـــرزته قوى اليسار العربي، بنضالاتها المرهِقة على مدى عقــــود، من نجاحات سياســـية واجتماعية وأدبية وثقافية وفكــــرية وما حصدته، في الوقت عيــنه، من خيبات وانتكاسات مريرة، تبقى مادةً تاريخية تــصلح للدراسة والاعتــبار…
ثالثاً: يسجِّل القارئ اليساري على صاحب النص أنه تقصَّد، عامداً، عدم إيراد كلمة اشتراكية في أي مهمة من المهمات التي اقترحها على أهل اليسار، مبرِّراً ذلك باسترشاده بموقف لينين في برنامجه المعروف «بالسياسة الاقتصادية الجديدة».
وهب أنَّ لينين، يقول القارئ اليساري، لم يتحدث في ذلك البرنامج عن الاشتراكية، فهل سقطت الاشتراكية من برنامج حزبه التاريخي؟ الحزب الذي كان يضع الاشتراكية في رأس المهمات الاستراتيجية التي يسعى إلى تحقيقها، ثم إنَّ صاحب النص هو بالذات، كما سبقت الإشارة، من «رأى في فكر ماركس ما يخدم أفكاره واقتراحاته للإسهام في صوغ مشروع جديد لليسار وذلك باسم اشتراكية ماركس أو باستلهام الأساسي من أفكاره فيها».
والجدير بالذكر، هنا، أنَّ الاشتراكية، هي أكثر من مهمة، إنَّها الأُفق الذي تندرج في سياقه شتى المهمات التي يضعها نصب عينيه حزب يساري (ماركسي)، والاشتراكية هي وحدها التي تضع في مقدم مهماتها الأساسية، مهمة القضاء النهائي على التفاوتات الاجتماعية وعلى استغلال الإنسان للإنسان في هذا العالم.
رابعاً: كــما يسجِّل القارئ اليساري على صاحب النص أنه ذهب بعيداً في موقفه من الطبقة العاملة، في كونها ضـــمرت حجماً وضعـــفت قدرةً وفقدت دورها في ظل الرأسمالية المعولمة، كما ذهب بعيداً في تقدير التحـــولات التكنــولوجية، التي يشهدها العصر الحـــديث، أو في توســيع نطاق خيراتها على «جميع البلدان غنيّها والفقير…» كما يقول حرفياً.
ليس لي من المعرفة ما يخوِّلني الخوض في غمار هذا البحث الصعب المراس، من هنا ألجأ إلى أحد سادة المعرفة الأفذاذ في مجتمعنا العربي هو سمير أمين، فأستعين برأيه على تحقيق مرادي إذ يقول.. «إنَّ كل ثورة تكنولوجية تحوِّل، فقط، البنى التنظيمية للعمل، وإذا كان المجتمع طبقياً فلن تُلغى هذه الطبقات بفعل التحوُّل المذكور، بل ستغيِّر من شكلها، ولعلَّها، إلى درجة ما، توهم باختفائها كما هي الحال الآن».
ثم يسأل سمير أمين نفسه في شأن التحولات في تنظيم العمل فيقول: «فما هي، يا ترى، النتائج الاجتماعية الحقيقية المترتِّبة على التحولات السائدة؟!
ويسارع إلى الإجابة بالقول: «الصعود السريع والاستثنائي في نصيب عوائد رأس المال المعولم والملكية على حساب عوائد العمل، التهميش والفقر، والإقصاء لأقسام ملحوظة من الشعوب».(1)
هذا في شأن الأثر الطبقي لتحولات الثورة التكنولوجية.
أما في شأن اتساع نطاق خيراتها على مختلف أقطار العالم وفق ما جاء في متن النص «أنَّ ثورة التقنيات والمعرفة والاتصالات قدمت للشعوب، في جميع البلدان، الغنية منها والفقيرة، المتقدمة منها والمتخلفة، على حد سواء، الأدوات التي توفِّر للإنسان امتلاك المعارف في ميادينها المختلفة من دون عناء».
أما في هذا الشأن فحسبي أن أورد ما جاء على لسان عالم الاجتماع جاك قبانجي وخلاصته: «أنَّ ما تنتجه ثورة المعرفة والاتصالات من مفاعيل تقع في دائرة التداول والاستهلاك، فيما دائرة الإنتاج تقع خلف هذا النتاج، كما تحدد محتواه ونوعه وكميته وهدفه.. ترى هل تتوحَّد كل شعوب الأرض على مسافة متساوية من دائرة الإنتاج هذه؟ وهل من يستهلك النتاج (المعرفة أو المعلومة) كمن ينتجها؟ ثم أين يقع هذا كله من عملية تقسيم العمل على الصعيد الدولي؟  وكيف تبرز مفاعيل الاستغلال الرأسمالي المكثف لقوة العمل الرخيصة في بلدان الأطراف؟ (2)
وبعد فأجدني، أميل، في نهاية المطاف، إلى الأخذ بمذهب القائلين بأن اليسار، الماركسي بخاصة، مطالب اليوم، برغم هزاله وتشتّته، بأن ينتفض من ركوده المزمن وبطالته الفكرية، ويتقدم من جديد للقيام بدوره الطليعي في جمع أطراف اليسار الديموقراطي العلماني والعمل معاً على صوغ برنامج نهضوي جديد، وتحديد آليات التنفيذ المرحلي باتجاه تحقيق الديموقراطية والمساواة والعـــدالة الاجتماعية، بأفق اشتراكي، وإقرار علمنة الدولة ومبدأ المواطنة وتحديث المجتمع وتعزيز الحراك العربي الديموقراطي التقدمي، والسعي، المنهجي الدؤوب، إلى تحرير الأرض العربية المحتلة، بشتى السبل المتاحة، في فلسطين والجولان وفي جنوب لبنان.
ولا شك في أن الهيئة المختارة ديموقراطياً للاضطلاع بمهمة صوغ البرنامج المنشود لسوف تستضيء بما جاء في مشروع كريم مروة، المدرج في كتابه «نحو نهضة جديدة لليسار في العالم العربي» وبما جاء في مشاريع أخرى صاغها أو يسعى إلى صوغها يساريون ديموقراطيون علمانيون هنا في لبنان وهناك في سائر الأقطار العربية.

(1) سميـــر أمين «في نـــقد الخطــاب العربي الراهن» دار العين ـ القاهرة 2010.
(2) د.جاك قبانجي في نـــــدوة أقامـــها المجلس الثقافي للبــنان الجــنوبي في، العام المنـــصرم، وقد تمحورت حول «التحولات في البنية الاجتماعية للرأسمالية المعاصرة».

(*) من كلمة ألقيت في حفل المجلس الثقافي احتفاءً بكتاب كريم مروة
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى