صفحات مختارة

مرضى يزهون على المَوْتى

خيري منصور
اهتدى الإعلام المُسيّر والذي يرتدي طاقية الإخفاء أحياناً في بعض دول العالم الثالث إلى حيلة تبدو في ظاهرها ماهرة، لكنها سريعة الانكشاف وذات صلاحية محدودة جداً، هي استبدال المفاضلة بين الجيد والأجود والمراذلة بين السيئ والأسوأ، وقد تكون الأوضاع الاقتصادية النموذج الأصلح لرصد هذه الظاهرة، فثمة دول تحرص على أن تقدم للناس احصاءات تتعلق بالدخل أو الصحة ومتوسط العمر، مكرسة دائماً للدول الأشد فقراً، بحيث يرضى المريض بالحمى كما يقول المثل، ويقبل الناس ظاهر الكفّ وباطنها وهم يحمدون الله على ما هم عليه لأن هناك من هو أشد فقراً، وأقصر عمراً وأكثر جهلاً، ويبدو أن هذه الحيلة الاعلامية استنفدت منذ زمن بعيد، فالآن لا سبيل إلى ارتداء طواقي الاخفاء، أو التضليل المبرمج، لأن وسائل الاتصال حطمت الحواجز، ولم يعد مهماً أن يتنقل المرء بين عواصم العالم ليعرف ما يحدث عن كثب، ما دامت الأرقام والتقارير بمتناوله سواء عبر الانترنت أو الصحف أو أية وسائل عصرية أخرى .
ما يراه أهم المؤرخين من الذين تجاوزوا السرد والتوصيف إلى التعليل هو أن المراذلة كنقيض للمفاضلة تزدهر في أزمنة الانحطاط، عندما تشحّ لدى الناس هواجس المغامرة، ويغلب التقليد على الحياة بحيث تصبح الطرق كلها مغمورة بآثار الحوافر، حتى في الشأن أو الشجن الديمقراطي بمعنى أدق . ثمة مثل هذه المقارنات السلبية، وهناك من يعزفون على مدار الساعة على هذا الوتر الرث مرددين مقولة، نحن أفضل من جيراننا أو من شعوب أخرى تعاني من الحكم الدكتاتوري أو الأوتوقراطي، إنها نظرية البحث عن الاسوأ كي يصبح السيئ مبرراً، ومن ثم يرضى العباد بالمقصوص إلى أن يأتي الطيار .
وكان للنظم التوتالية أو ما يسمى الشمولية دور الريادة في هذا المجال، لكنها أضافت إلى التضليل أسواراً عازلة، بحيث لا يسمع داخلها إلا صدى الصوت الرسمي، وكان حظر السفر إلا لأسباب بالغة الاستثنائية عاملاً اضافياً ضاعف من العزلات .
واعتقد الناس الذين حوصروا زمناً داخل تلك الأسوار أن العالم ينتهي عند الحدود الاقليمية لبلدانهم، وأن مصطلح الآخرين يشمل كل ما في هذا الكوكب باستثنائهم، وما إن تداعت الأسوار وذاب الجليد إذا استعرنا مصطلح أهرنبورغ، حتى بدأت الحقائق تتكشف تباعاً، وأدرك الناس أنهم كانوا مستغرقين في الغيبوبة، وعندئذ انفجر كل شيء فسقطت امبراطوريات، وأصبح الطاووس عارياً وهزيلاً وبحجمه الحقيقي .
ما ينتج عن إعلام طواقي الاخفاء والتضليل المبرمج هو تراكم مديونيات نفسية ومعرفية وهي أثقل وأشق من المديونيات الاقتصادية، لهذا يكون الانفجار أعمى ولا يسلم منه شيء، لأن جملة المكبوتات سواء كانت اثنية أو عرقية أو من أية سلالة تاريخية تنفجر دفعة واحدة، هكذا تبعثرت أحشاء المتاحف في عواصم عريقة، وبيعت أوسمة الجنرالات في عواصم أخرى، كما حدث في شارع أرباط بموسكو .
الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى