صفحات مختارة

سردار يسأل إن كان توفيق وهبي قد راسل مير جلادت فعلاً!

رستم محمود
(إلى عمر أميرلاي متفردا)
في فترة التواصل الأولى بيني وبين سردار عبر الاتصالات الهاتفية والإميل، قبل قدومه، لم أتوقع أن يكون ذلك الشاب العشريني. فقد كأن يسأل بالتفاصيل عن شخصيات كردية سورية عاشت في ثلاثينات وأربعينات القرن المنصرم، كان يسأل، عن تفاصيل حياتهم الشخصية وسيرهم ومقاصدهم وما بقي لهم من آثار، وفوق ذلك، كان يلحّ على أن ارتب له عدداً من اللقاءات، مع أناس عاشروهم في تلك الفترة. بسبب تلك التفاصيل التي كان يسأل عنها، حول ذلك الجيل الذي لم يبق منه أحد تقريبا، خمّنته رجلا أشيب الشعر، مترهل القوام، قدم ليتذكر أياماً عاشتها في سنواته الماضيات تلك. لكن، حين استقبلته في محطة الحافلات في مدينتي، رأيته شابا عشرينيا، يرتدي بنطالا كلاسيكيا، ويحمل فقط حقيبة صغيرة بيده. وحينما مددت يدي له للمرة الأولى، قرّب رأسه للمناطحة، وهو التعبير الجسدي التركي التقليدي، للدلالة على الأصالة والتودّد.
في طريق عودتنا للمنزل، لم أصبر على فضولي وسألته : ما دهاك يا رجل، منذ شهر وأنت تسأل عن بشر عاشوا منذ قرن من الزمن، وتأتي من اسطنبول، إلى هنا، في الشمال السوري، لتلتقي بعدد من معاشريهم، الذين باتوا اليوم أشبه بتماثيل “أبو الهول”؟ يبتسم بلطف ويرد: في الحقيقة أنا طالب دكتوراه في التاريخ بجامعة أركنساس بالولايات المحتدة، ورسالتي هي عن الصحافة الكردية في ثلاثينات وأربعينيات القرن المنصرم. وكما تعلم فإن المير جلادت بدرخان، الذي أسأل عنه، كان قد أسس صحيفة كردية في دمشق وقتها، كانت تسمى “هوار” (الأربعون)، والمير جلادت هذا كان قد أسس لتحويل حروف اللغة الكردية من الشكل الهندي إلى الشكل اللاتيني، كما أن مجلته هذه كانت المبتدأ لظهور الصحافة الكردية، ومن طرف آخر كانت التعبير الثقافي عن الوعي الكردي الوحيد وقتئذ….. الخ. في المنزل أسأله : لكن يا عزيزي لقد صدرت أعداد “مجلة هوار” هذه، باللغة الكردية، فهل ثمة ترجمة تركية أو انكليزية لها، حيث تتعرف على مضمونها ؟. يجيب : للأسف لا، لا توجد أية ترجمة إلى لغة أخرى لهذه المجلة، لذا قرأتها باللغة الكردية، بعد أن درستها لمدة ثلاثة سنوات. ثم يبدأ بالكلام معي بكردية فصيحة جدا، وأنا بين جملة وأخرى له، أقلب شفتي السفلى الصغرى أكثر فأكثر تعجبا من هذا الشاب التركي.
رافقته لثلاثة أيام كان يسأل خلالها عن تفاصيل حياة هؤلاء الناس الذين كانوا قد عاشروا المير جلادت، فيسألهم مثلا: كيف كان الناس في ثلاثينات القرن المنصرم يحصلون على تلك المجلة، وكيف كان الشيخ الفلاني يمنع الناس من قراءتها، وكيف كانت علاقة المير بفلان، وما معنى الكلمة الفلانية التي وردت في العدد الفلاني في الصفحة كذا، ومن هو فلان الذي ورد اسمه في العدد الذي تلاه، وكيف مات فلان، ولماذا فلان الذي كان يكتب في المجلة باسم زوجته، وما مقصد أن تنشر المجلة مقالا لذلك الكاتب، وتلك الشخصية لماذا كانت تكتب باسم مستعار.. من هو ملا عبد الرحمن كارسي ولماذا توفيق وهبي لم يراسل المير من بغداد بتاريخ كذا، وكيف كان تصور أوصمان صبري وما معنى قول جميل حاجو كذا… الخ من التفاصيل الدقيقة جدا جدا. وبعد الأيام الثلاثة التي قضيتها برفقته ورفقة أسئلته المفصلة، مازحته قائلا : أيعقل أن تكتب رسالة دكتوراة في التاريخ، وفي جامعة عالمية مرموقة، ساردا سيرة هذه الشخصيات العادية بالمعنى التاريخي النسبي، ولهذا تمضي ثلاث سنوات وأنت تجوب آلاف الأميال متقصيا سير حياتهم؟ يأخذ سردار نفسا طويلا ويضع يده على كتفي قائلا: يا صديقي كما تعلم أن تركيا شهدت موجات من حالات التمرد الكردية التي اندلعت في ثلاثينات وأربعينيات القرن المنصرم، وكانت الصحافة والنخب الثقافية الكردية وقتئذ تمثل الحقل النظري للتعبير عن المفاهيم القومية الكردية، وبقيت تلك المفاهيم والرؤى تأسيسية في الوعي الكردي إلى الوقت الراهن. وكما تعلم أيضا أننا في تركيا نعيش اليوم مخاض تكوين نظري جديد لدولتنا على مرتكزات أكثر حداثة، وحل قضية الأكراد في البلاد، هو جزء مهم من ذلك. لذلك، وربطا للموضوعين، سيكون من مهمة شبان جيلي أن يعمقوا وعيهم ومعرفتهم بهذه القضايا التي تهم بلادنا، ومواطنونا الأكراد وحقوقهم جزء مهم من مستقبلنا. وقتها، بالإضافة إلى شد الشفة، هززت رأسي متعجبا ومعجبا به.
لا يشكل سردار نموذجا متفردا بذاته، بقدر ما هو انعكاس لحالة من اهتمام النخبة التركية بأطياف المجتمع التركي. ذلك المجتمع الذي بدأ، حسب المفكر التركي طالب كوجوكان، يؤسس مع وصول حزب العدالة والتنمية، لفيض المحيط نحو المركز النخبوي الحاكم. وهذا يحتاج إلى إعادة تحليل وفهم وتفكيك لكل عناصره وأطيافه، مهما صغرت، من قبل تلك النخبة الثقافية، لتكون بذلك، على وعي تام بمحيطها الإنساني.
مقابل ذلك يشرد الذهن إلى وعي مقارن، لتلك المهمة التي تقوم بها النخبة التركية، بحالة اللاوعي التاريخي لحالة النخبة العربية، التي تحيا عصابا من “اللامفكر به” من قضاياها المجتمعية. فصحيح أن فلسطين ومقارعة الاستبداد يجب أن تبقيا قضيتين مركزيتين في حقل الوعي العربي، لكنهما فوق ذلك تبدوان وكأنهما قد احتلتا وعي النخبة العربية للذات وللعالم. أقول تقريبا كي أتجنب التعميم على بعض الذين مارسوا دورا في هذا الشأن، فتقريبا لا شيء في المكتوب العربي عن قضية الأكراد مثلا، تلك القضية التي أنهكت بلدا عربيا مركزيا بحجم العراق، وجرته إلى بحر من الدماء والدموع. وهنا أقول “لا شيء” لا بمعنى مع أو ضد الأكراد كإشكالية سياسية، بل لا شيء عنهم كحالة معرفية وفنية وأدبية وثقافية وكنموذج لاتساق المثقف مع الذات. والشيء الذي ينطبق على الأكراد، يكاد أن ينطبق تماما على المسيحيين في المشرق العربي ومصر، هؤلاء الذين يتناقص عددهم وحضورهم بين عام وآخر. وكما وينسحب الأمر ذاته على الأمازيغ في الجزائر والأفارقة في السودان…. إلى باقي الطيف الأثني والطائفي واللغوي في مناطق العالم العربي، وفوق ذلك ينسحب على كل لوحة المهمشين الاقتصاديين والاجتماعيين والمناطقيين والسياسيين والعقائديين.
كنموذج تلخيصي لذلك: منذ أيام الصبا وأنا أشاهد في التلفاز وأتابع في الصحافة أخبارا لا تنقطع عن الصومال. منذ عشرات سنوات، ثمة خبر كل يوم عن قصف وقصف مضاد، عن انقلاب يعقبه آخر، عن تدخل دولي وآخر إقليمي، صور للدم والتشرد والرحيل، كتائب عسكرية وتيارات دينية وقوى قبلية. حقا، منذ عشرات السنوات، يجري ما يجري في ذلك البلد العربي الأصيل بهويته، وحقا، فوق سؤال : ماذا يجري في ذلك البلد؟ ثمة سؤال: لماذا وكيف يجري ما يجري في ذلك البلد؟ حقا، لا جواب لدى النخب العربية.
ذلك “اللاجواب” يجب أن يصبح أهم الأسئلة.
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى