في حبس عوامل التغيير علي جازو
تظل الأوضاع المتردية في البلاد العربية والإسلامية ذات سمات ساكنة، وميل انتكاسي، بل تزداد تردياً وتصحراً نتيجة توالي الحروب والصراعات الأهلية، وبقاء العمل، غير المبرر، بقوانين عسكرية مستبدة، حيث تتراجع درجة احترام القوانين وحقوق الإنسان الأساسية، وتخفت قوة أصوات الاعتراض الجماعية، وسط انبعاث سموم أفكار، وطرق تفكير بدائية. مع ذلك فإن المشكلة الأساسية تراوح مكانها: لا يمكن إبقاء الوضعية الحالية من قضايا هذه البلاد من دون حل. ويساهم إهدار موارد اقتصادية أساسية على تسليح العسكر وتقوية أجهزة القمع وشراء الذمم، وتوزيع الدخل غير المتساوي، وكثرة الأجيال الشابة نسبة إلى بقية السكان، واتساع دائرة البطالة، في جعل التغيير صعباً ومتباطئاً، وبقاء الأحوال المعيشية رهن شراسة السوق النهمة مع إرهاصات الأزمات المالية وشح الموارد الطبيعية، ناهيك عن إحياء عوامل ضعف الوقاية الذاتية المتوارثة جيلاً بعد جيل. وثمة الأزمة النفسية الناشئة عن مشاعر الدونية تجاه المجتمعات المتقدمة، بسبب الفرق الكبير في مستوى المعيشة وتوافر الحريات المدنية، ما يجعل التفاعل المرغوب مع مقترحات خارجية سديدة سبباً لتشوش عام، وتردد عقيم. ويظل العمق الاجتماعي المهمل سبب السكون غير المنفعل، وعامل نجاح التغيير في الوقت نفسه. ولأن مفهوم التغيير المرجو ذو مصدر اجتماعي نفسي ثقافي تراكمي، فإنه لا يحوز قاعدة كبيرة فاعلة، من دون عمل مستمر وخطط إنعاش فاعلة. فقدان القاعدة الاجتماعية الواسعة والنشطة لا يدحض ضرورة وشرعية الحقوق التي ينبغي إرساؤها وتكريسها بطريقة لا تقبل القفز عليها أو استغلالها سياسياً، وبهدف نفعي ضيق وموقت. ولأننا نربط التغيير بمصدر خارجي قادر ومعافى وحيوي مقابل بيئة داخلية مقيدة، فإن عامل الخوف المريض أكثر قوة من مساعي التفهم والتفاعل والمبادرة الحيوية نحو صياغة عقد تشاركي وتعاون دولي للتغيير. وينبغي عدم الخلط بين التراث الثقافي والديني للشعوب الضعيفة وبين معايير وقيم إنسانية لم تعد محل معارك فكرية، أو جدل لاهوتي ارتدادي.
ويعتقد الكثير من الباحثين والمهتمين أن التغيير، ينحصر في محتوى سياسي (أفكار ليبرالية، انتخابات حقيقية، إرساء نظم قانونية جديدة، والعمل وفقها واحترام مبادئها..) غافلين عن أمور أكثر إلحاحاً وأهمية كتطوير التعليم، ورعاية صحية لائقة، وتحكم فاعل في مستوى الزيادة السكانية، ودعم الزراعة في الأرياف بخاصة. يساهم قصور الفكرة وحبسها ضمن أفق سياسي مباشر وضيق في إثارة الشكوك بدل إشاعة أجواء الثقة والتفاؤل. ذلك أن أفكاراً كهذه تتلبس بنية غامضة، يُخشى من وراء ترويجها في مجتمعات لم تعد تثق بالتغيير أصلاً، بل ربما تتخوف من حدوثه. وثمة من يعتقد أن الدول القوية تحاول فرض قيمها عبر هكذا تحول سياسي، مطلوب ومتعثر في آن واحد، واستثمار نتائج التغيير عبر تكريس تبعية اقتصادية دائمة، تحت ضغط تفوقها العسكري والبشري. إن عدم توافر قاعدة اجتماعية عريضة تثق بجدوى التغيير وتساهم فعلياً في حدوثه، يحول فكرة التغيير نفسها إلى عقم جديد، ويجفف من منابع الطموح إلى حياة كريمة لائقة. إن أحد أسباب الفشل والانكفاء تتعلق بهكذا تصور قاصر ومحير. لكن الغرض الرئيسي من التغيير ليس إحلال قيم أجنبية مستوردة محل قيم أخرى أصيلة، على فرض ذلك، بل الغرض يتمحور أساساً حول ضرورة التخلص من نتائج الفشل الكارثية، ومشاعر الدونية السقيمة عبر إحلال قيم صحية عادلة ونافعة.
لا يهم المصدر الذي يدفع نحو هكذا تفكير، بل المهم صلاحية القيم وحكمة الغايات المرهونة إلى نفعها العام. إن جعل التغيير محاصراً بين عالمين مختلفين ومتناقضين دينياً واجتماعياً، ومن ثم رفع ضرورة التغيير من حاجة إنسانية إلى ضبابية صراع قيمي مجرد ومتعال، كأنها حرب تدور في سماء مجهولة عبر كائنات لا مرئية مقدسة، يحول فكرة التغيير عن مسارها الاجتماعي الطبيعي وواقعيتها الراهنة، ويلحقها بصراع تاريخي استقطابي ميكانيكي. وهو ليس سوى وهم شعبي نفسي يزيد من ضحالة مستوى الفكر ويغلق الأفق عن النظر برحابة إلى فكرة انبعاث أمم حرة ومجتمعات عادلة وقيم إنسانية راسخة. فالعدالة مطلب إنساني دائم الأحقية، والحرية جوهر بلا نقيض. الوقاية من أمراض الغير وقيمهم الاجتماعية المرفوضة، على ما يدعي حماة الثقافة المحلية، لا تعني عدم تقبل أفكارهم العادلة أو عدم تطبيق رؤاهم السليمة. ينبغي عدم الخلط بين العقيدة المتحجرة والاقتصاد المرن من جهة، وبين تطور العلوم الحديثة وطرق التربية المتقدمة. مثل هكذا توهم وخلط، تحت درع الوقاية من أفكار الغرب المادية (الضارة)، يقصر النماذج الساكنة على توليد فشلها، ويدفعها بالتالي إلى هدم وإفشال محاولات التغيير مرة تلو أخرى. فالنماذج الثقافية المختلفة والمتعددة ليست سبباً للعداء الدائم، وحتى العداء نفسه ليس قدراً لا يمكن رده. وإذا كنا لا نملك رؤى ذاتية جديرة ولا فاعلية اجتماعية نشطة كافية، فأي تغيير ذاتي يمكن توقعه حينها؟
إن احتمال الاعتماد على قوى خارجية حكيمة وذات مصداقية قانونية وحسية إنسانية متعاطفة، من دون عنف أو قسر، يغدو الطريق الناجع، ولا بد من إقناع الدول المتقدمة أن سبل الدعم الاجتماعي الثقافي الواسع أفضل من أساليب التغيير القسرية، لا سيما بنماذجها العسكرية المنفلتة وقواها الاقتصادية الطاغية. صحيح أننا لا نملك عوامل كافية للتغيير في الوقت الراهن، لكننا ينبغي أن نبرهن بوضوح وثقة عن أهليتنا للتعلم والتغيير، واستحقاقنا وجدارتنا، واستخدام وسائل فعالية اجتماعية منسجمة مع مستوى طموحنا الإنساني. إنه مطلب منفعة عامة ضد هدر عام وتخريب متوحش، وسلبية لا مسؤولة.
إحدى المشاكل الرئيسية تنحصر من جديد بين الدول المتقدمة والإسلام العربي بصيغته العدائية الصرفة، ذلك أننا نتصور أن الغرب يريد نمطاً من الفكر الإسلامي داخل إطار فهمه ومصالحه فقط، فيما نحن لا نتغير لأننا نظل تحت ظلال فكرة حرب شبحية، وهي أن العداء ذي الصبغة الدينية وحده يحكم مسارات الشعوب المتنافسة، وأن الإكراه القوي والحاسم وحده سبيل للتغيير، وأن قوتنا لا تتمثل في غير الرفض والمقاومة، والبقاء على ثوابت من فكر جامد وأخلاقيات اجتماعية زالت حجيتها. وهذه الجوامد الفكرية المنغلقة والمعيقة، لا تحيا إلا في أجواء مقاومة نفسية انفعالية وأوضاع صدود اجتماعي مزرية. وما لم تكن لنا تقديرات خاصة ومبتكرة وفاعلة، وحساسية اجتماعية عالية، وجهد فكري واسع الطموح، فكيف يمكن لتقديرات أخرى أن تظل مرفوضة وغير صالحة. لا يمكن تفسير التردي العام بالثقافة والاقتصاد كعاملين مجردين، والأجدى تفسير السلوك الثقافي العام بتلمس بعديه الاجتماعي والقانوني الراكدين، فحينما تفقد القوانين مصداقيتها ونفاذها، ويتخاذل المحيط الاجتماعي – الصبور عن سخف وضعف – في تحمل مسؤولية الوضع الراهن، يكون للأفراد، كفاعلين اجتماعيين مستقلين مفترضين، نصيب من فقدان دور مماثل. إننا نلوم أنفسنا، فهي العائق المريض الشاكي، وهي وحدها محتوى التغيير المرغوب. مرة أخرى نعود إلى أنفسنا، وهي بدورها تلقي نظرة إلى الوراء، عن حكمة مخنوقة، عن صفاء ذهن ضروري، ربما تجد ما يدفعها حقاً إلى سلوك آخر ومعالجة أخرى.
المستقبل