اوكلاهوما: ذكرى جحيم امريكي ذاتي الصنع
صبحي حديدي
لكي يبرهن، مجدداً، على أنه بين أكثر رؤساء الولايات المتحدة ولعاً بالقراءة الديماغوجية للتاريخ، نشر الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون مقالة في صحيفة ‘نيويورك تايمز’، استعاد فيها الذكرى الـ 15 لعملية المبنى الفيدرالي في مدينة أوكلاهوما. وكما هو معروف، نجح الأمريكي تيموثي ماكفي في تفجير شاحنة مفخخة أمام المبنى، يوم 19 نيسان (أبريل) 1995، فسقط جرّاء العملية 168 من الأطفال والنساء والرجال، فضلاً عن جرح قرابة 680 شخصاً، وألحقت الأضرار بـ 324 مبنى مجاوراً، و652 مليون دولار من الخسائر في الأملاك العامة والخاصة.
تلك، كما يذكّرنا كلينتون، كانت ‘أسوأ هجمة إرهابية تتعرّض لها الولايات المتحدة’، قبل هزّة 11/9 بالطبع، ولكن ما أبدته أمريكا من تعاطف وتكاتف مع أسر الضحايا كان ‘شهادة جبّارة على أفضل ما تتصف به أمريكا’، وهذا في طليعة الدروس التي ‘تظلّ هامّة اليوم كما كانت في حينه’.
الدرس الثاني الكبير، حسب الرئيس الأمريكي الـ 42 الذي كان على رأس عمله حين وقعت الواقعة، هو أنه ـ بالرغم من تمتّع أبناء أمريكا ‘بحرّية أكبر وبحقوق أوسع من مواطني جميع أمم العالم، بما في ذلك القدرة على نقد حكومتهم ومسؤوليهم المنتخبين’ ـ ليس لأحد ‘الحقّ في اللجوء إلى العنف، أو التهديد بالعنف’. أجدادنا المؤسسون، يتابع كلينتون، ‘أقاموا نظاماً للحكم يتيح رجحان العقل على الخوف. ومدينة أوكلاهوما برهنت من جديد على أنه لا حرّية بدون قانون’.
والحال أنّ العقل كان آخر الراجحين حين دارت طواحين أمريكا الرسمية، قبل تلك الإعلامية، لتوجّه أصابع الاتهام إلى ‘الإرهاب الإسلامي’، ومعها طفت على السطح حكايات صدام الحضارات، والارتطام الثقافي المحتوم بين التراث اليهودي ـ المسيحي (الغرب) والتراثات الإسلامية ـ الكونفوشية (الشرق)، استناداً إلى تبشير أناس مثل صمويل ب. هنتنغتون وبول جونسون وبرنارد لويس وفؤاد عجمي. وليام بيري، وزير الدفاع الأمريكي آنذاك، حسم أمره بعد ساعات معدودات من وقوع الإنفجار، وقرر أنّ ‘الإرهاب الإسلامي’ يقف وراء العملية؛ بل ذهب إلى حدّ تسمية ‘حزب الله’ وإيران والعراق… ولم يجزم مراسل الـ CNN حول ما إذا كان الوزير العتيد قد عرّج أيضاً على ‘جبهة الإنقاذ’ الجزائرية، وجماعة ‘التكفير والهجرة’، و’الجهاد الإسلامي’ و’حماس’، قبل أن يختم اللائحة النموذجية بالشيخ حسن الترابي!
خلال الفترة ذاتها كان هنتنغتون، في مقالة بعنوان ‘الدين والموجة الثالثة’، سبقت مقالته الشهيرة حول صدام الحضارات، قد اعتبر أنّ موجة الديمقراطية تجتاح العالم من أقصاه إلى أقصاه، باستثناء… العالم الاسلامي الممتد من المغرب إلى أندونيسيا، والعالم الكونفوشي الممتد في شرق آسيا. ولم يكن مستغرباً أن يلجأ هنتنغتون إلى أطروحات إرنست غلنر حول ‘الإسلام كشكل ثقافي أعلى، محكوم بالوحدانية والتفرد الإثني والفردية والطهورية وبعض السحر والعداء الفطري للحداثة’، لكي يستنتج تعذر قيام أية علاقة بين هذه الثقافة والديمقراطية. ولأنّ توزيع المحاصصة العادلة بين القيصر والله ليست مطروحة في الإسلام، كما ساجل، فإن ‘المفاهيم الإسلامية عن السياسة تختلف في العمق عن، وتتناقض مع، الديمقراطية والسياسة الديمقراطية’.
والبروفيسور الرصين، وكان حينذاك مدير مركز الدراسات الستراتيجية في جامعة هارفارد، وكان يدرك ثمن الهبوط عن ضرورات الحدّ الأدنى من الرصانة، ممّا دفعه إلى الحديث عن النسبة العالية التي حققتها ‘جبهة الإنقاذ’ الجزائرية ‘في أوّل انتخابات ديمقراطية عرفتها الجزائر’؛ والنتائج الجيدة للإسلاميين في الأردن وفي مصر. لكنه استخلص التالي: ‘الإتجاه الليبرالي في البلدان الإسلامية وطّد مواقع حركات اجتماعية وسياسية هامة، كان ولاؤها للديمقراطية موضع شك. ولذلك فإنّ موقع الأحزاب الأصولية في المجتمعات الإسلامية أواخر الثمانينيات كان يشبه مواقع الأحزاب الشيوعية في أوروبا الغربية خلال الأربعينيات ثمّ السبعينيات. ولقد أثيرت أسئلة مماثلة آنذاك: هل تواصل الحكومات القائمة فتح سياساتها وإجراء الانتخابات التي يمكن للأحزاب الإسلامية أن تنافس فيها بحرّية ومساواة؟ هل بوسع الأحزاب الإسلامية أن تفوز بأغلبية حاكمة؟ وإذا حدث ذلك، فكيف ستقبل الفئات العسكرية العلمانية المهيمنة (في الجزائر وباكستان واندونيسيا) أن تشكل الأحزاب الإسلامية حكوماتها؟ وإذا شكّلت هذه حكوماتها، فهل ستتبع سياسة إسلامية راديكالية، كفيلة بنسف الديمقراطية وتغريب عناصر المجتمع الحداثية والمرتبطة بثقافة الغرب’؟
تلك كانت سقوف رصانة البروفيسور، باختصار بليغ. وإذا كان هنتنغتون قد اتكأ على علم الاجتماع الديني، فإنه لم يفعل ذلك إلا لكي يتفادى أسئلة ماكس فيبر القديمة حول التعارض بين الكاثوليكية والديمقراطية، وحول قابلية العقيدة البروتستانتية لاستيعاب بنية اقتصادية ونهضوية وحداثية، أكثر من قابلية الكاثوليكية على ذلك. والحقّ أنّ التجربة التاريخية برهنت على العكس في الحالتين: البلدان الكاثوليكية أصبحت ديمقراطيات، أو هي اليوم الديمقراطيات الوحيدة التي يهلل لها ليبراليو الغرب، في حين أنّ البلدان البروتستانتية أنجزت برامج اقتصادية رفيعة، أو هي اليوم قلاع السوق الحرّ والاقتصاد الكينزي والليبرالية.
وفي المقابل، كان فيبر قد تنبأ بأن الثقافات الكونفوشية لن تتمكن من بلوغ أنظمة رأسمالية ناجحة، ولكنّ الثمانينيات شهدت تدشين اقتصادات رفيعة مدهشة في مجتمعات شرقي آسيا، والاشتراكية هي آخر الصفات التي قد تخطر على الذهن عند توصيفها. ومخرج هنتنغتون من هذه الورطة هو التالي: إذا حققت المجتمعات الإسلامية بعض التقدّم الاقتصادي والسياسي والمدني، فلأنها كفّت عن كونها إسلامية؛ أمّا إذا حققت الأحزاب الإسلامية بعض النجاحات في صناديق الاقتراع (اللعبة الديمقراطية الوحيدة، حتى إشعار آخر) فلأن برامجها تدغدغ الوجدان الإسلامي الجريح أكثر مما تدغدغ الاقتصاد الجريح، دعْ جانباً خطورة دخولها بالضرورة في توتر مع الفئات العسكرية العلمانية! هنا تنفرط العلاقة السوسيولوجية بين الاقتصاد والسياسة، بصرف النظر عن المدرسة السوسيو ـ اقتصادية المعتمَدة في التحليل، ويكون البديل هو انقلاب الوجدان الإسلامي الجريح إلى ‘إرهاب إسلامي’!
وفي تلك الأوقات المشحونة كان التثقيف الأنثروبولوجي المبتذل يتولى إنتاج أردأ أنماط العصاب السياسي، حيث تخيّم الدلالات الجاهزة على ملكات العقل في الأطراف الأكثر حساسية من مراكز اتخاذ القرارات الكبرى في القوّة الكونية الكبرى. وكان ثمة إحساس بالقلق العميق من شبح إسلامي يحوم في سماءات العواصم الغربية، أسوأ وأشدّ مضاضة من ذلك الشبح الذي تحدّث عنه كارل ماركس في ‘البيان الشيوعي’ قبل نحو 150 عاماً. وفي خلفيات الرهاب الإسلامي المتعددة هيمنت عقلية الحصار والحصار الذاتي، كما قال كيشور محبوباني، الأكاديمي ومندوب سنغافورة الأسبق في الأمم المتحدة، حيث يسقط الغرب ضحية الإحساس الطاغي بأنّ ما يتبقى من العالم يتآمر لإفناء الغرب. فكيف إذا كان الغرب، في ذاته أيضاً، مثخناً بجراح الحرب الباردة، بعد حربين كونيتين سقط فيها عشرات الملايين، وفي ضوء استيقاظ هذا الإرث أو ذاك من تراث الإمبراطوريات المندثرة، والطوائف والفرق الأصولية التي تستخدم التكنولوجيا لتسريع مواعيد القيامة!
ولقد تكفل اعتقال الإرهابي ماكفي (عن طريق الصدفة المحضة، للتذكير، ولأنه كان يقود بلا شهادة ويحمل سلاحاً غير مرخص) بكشف النقاب عن دوافع التفجير، من جهة؛ وبكشف سوأة الذين سارعوا إلى اتهام الإسلام والمسلمين، على نحو يقيني شبه مطلق، من جهة ثانية. وسرعان ما اتضح أنّ ماكفي، وشريكه تيري نيكولز، ينتميان إلى ميليشيا شبه عسكرية، معادية لنظام الحكومة الفيديرالية، واختارا للعملية توقيتاً يتناسب مع الذكرى الثانية لحصار واقتحام مجمّع واكو، حيث قضى حرقاً 76 شخصاً، بينهم نساء حوامل وأطفال، من جماعة ‘الفرع الداودي’. فيما بعد، تبيّن أنّ فرنون واين هاول، زعيم الفرقة الذي اختار لنفسه اسم داود قورش تيمناً بالملكَيْن العبراني والفارسي، كان ينتظر اسوداد الشمس واحمرار القمر قبل أن يستسلم ويسلّم الحصن، وبالتالي كان في وسع سلطات ‘مكتب التحقيقات الفيديرالي’ أن تنتظر قليلاً حتى تبلغ هلوسات الرجل نهاية سلمية.
بيد أنّ رجال الـ FBI، بأمر مباشر من جانيت رينو، وزيرة العدل الأمريكية آنذاك، اقتحموا المجمّع عن طريق الدبابات والقنابل المسيلة للدموع، ولجأوا بالتالي إلى طراز من العنف أبشع بكثير من ذاك الذي يأنف منه كلينتون اليوم، ويعتبره مرفوضاً وممنوعاً لأنه يلغي الحرّية. فهل يعقل أنّ سيّد البيت الأبيض كان بعيداً عن قرار اقتحام المجمّع، على ذلك النحو العنيف، ودون احتساب ردود الفعل القصوى التي يمكن أن يلجأ إليها زعيم الفرقة، وبينها ‘إشعال الأتون الإلهي المقدس’، حسب تعبيره؟ التحقيقات اللاحقة لم تحسم تماماً ما إذا كان قورش هو الذي أعطى أتباعه الأمر بارتكاب انتحار شعائري جماعي، أم كانت قنابل الـ FBI هي التي أشعلت الذخائر العسكرية المخبأة داخل المجمع، فإنّ الثابت الأكيد كان تذكير العالم بـ’ذهنية الشرطي الأمريكي المستعدّ دائماً لضغط الزناد وإشعال الجحيم’، كما قالت صحيفة الـ’تايمز’ البريطانية.
وفي العودة إلى الذكرى الـ 15 لتفجير المبنى الفيديرالي في أوكلاهوما، كان الناطق الصحفي باسم الـ FBI حذراً في توصيف أسباب ومسبّبي العملية، لأنه كان محكوماً باعتبارات مهنية تقنية صرفة لا تغيّر السياسات شروطها وأوصافها؛ أمّا وزير الدفاع الأمريكي فقد تلهف على اتهام ‘الإرهاب الإسلامي’ لأنه يظل محكوماً بثوابت سياسية تتغير تقنياتها هنا وهناك، ولكن يبقى جوهرها سرمدياً صلداً. وما كان للأمر أن يبدو غريباً عجيباً لو سارع بيري إلى ربط التهديد الإرهابي المعاصر بأصول تبدأ من الإسلام، وقد لا تنتهي عند الهنود الحمر!
وتبقى بكائيات كلينتون على العنف، هو الذي كانت سياساته ـ عبر المحيط، خارج أسوار الولايات المتحدة ـ قائمة على ضروب شتى من العنف ضدّ الشعوب، هنا وهناك في أربع رياح الأرض، مباشرة عن طريق الضربات الصاروخية ومئات الغارات الجوية، أو بصفة غير مباشرة عن طريق فرض الحصار وتجويع الشعوب ومساندة المحتلين والطغاة. وحين كان آلاف المدنيين يسقطون ضحايا هذه السياسة، في فلسطين والعراق والسودان وصربيا، كان الرئيس الأمريكي غارقاً حتى أذنيه في فضيحة مونيكا لوينسكي، وكأنّ لا صلة أخلاقية البتة بين محاكمته في الكونغرس والدماء التي تريقها القاذفات الأمريكية، أو تساعد في إراقتها.
كذلك باع كلينتون آلاف اللاجئين الهايتيين (الذين يذرف عليهم دموع التماسيح، هذه الأيام)، وطاردهم في عرض المحيط؛ وسلّم رموز اللوبي الصهيوني جميع مفاتيح ملفات الشرق الأوسط (من الليكودي مارتن انديك، إلى دنيس روس المؤمن بإسحق رابين أكثر من إيمانه بتوماس جيفرسون)؛ وأخذ بيد القيصر الروسي السكير بوريس يلتسن، في استهتاره بالدستور الروسي؛ واعتمد مبدأ تكسير الرؤوس في الصومال وأنغولا، قبل أن يمدّ في عمر الحرب الباردة فيقرّ ميزانية للتصنيع العسكري لم يسبق لها مثيل منذ عام 1950، ويضاعف نفقات الإستخبارات والعمليات الخارجية…
ولا عجب أن يتوفر مَنْ يعتبر عنف تيموثي ماكفي بمثابة نعيم، أمام جحيم ذلك ‘اللاعنف’ الذي يتغنى به كلينتون اليوم.
‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
خاص – صفحات سورية –