سوريا: إما ديموقراطية مدنية أو ديموقراطية مدنية
علي الشهابي
في 28 شباط 2010 تناقش الصديقان حازم صاغية وياسين الحاج صالح في صحيفة المستقبل حول سوريا ولبنان، انطلاقاً مما يعتمل في واقعهما الراهن من عناصر ومكونات يمكن أن تنبئ بما يمكن أن يصير عليه مستقبلهما. ولأن نقاشهما كان مثالاُ للجدية والرزانة، أتمنى دفعه والحفاظ على سويته، ولو أنني سأقتصر على سوريا.
كان صادح منطق السيد صاغية أن المستوى الثقافي هو الحاكم لتطور المجتمع. ولأن الوضع الثقافي عندنا يبدو بائساً، من الطبيعي أن يتشائم من إمكانية صيرورة سوريا دولة مدنية. أما الصديق ياسين، فأعاد الأمور إلى نصابها عندما اعتبر المستوى السياسي هو الحاكم. ما يعني أنه وافقه على أهمية “دور الثقافة والنظم القانونية” في بناء الدولة المدنية، ليؤكد بأنه “دور مكمِّل وتثبيتي”. على كل حال، لتعذر عرض وجهتي نظرهما ومناقشتهما في مادة، ولهذا ابتسرتهما، لا غنىً عن العودة إليهما لمعاينة غناهما.
لا شك في أن سوريا ستتفكك إلى مكوناتها دون المدنية، كما تفكك العراق إلى مكوناته القومية والطائفية والعشائرية، إن تعرضت لما تعرض له في المدى المنظور. ولا يمكن نفي هذا الاحتمال بالمطلق، إذ ربما يحدث على يد إسرائيل.. ربما، ولو أنه في منتهى الضآلة. لكنّ هذا التفكك الممكن، طالما أنه لم يحدث، لا يجوز الاستنتاج منه ما استنتجه السيد صاغية من حال العراق “خرج إلى العلن المجتمع والثقافة «الأصيلان» المشبعان بالعصبيّة” لأن الواقع الراهن لحظة في مسار ليس بالضرورة أن يظل يتكرر. وإنما يسنتج منه أن سوريا لم تصر ديموقراطية مدنية لأن ممارسات النظام لا تدفعها بهذا الاتجاه، بينما الأحزاب الديموقراطية المدنية بالكاد تتعامل معها بالشكل الذي تتطلبه صيرورتها كذلك. ولأننا لا نستطيع إرغام النظام على تغيير ممارساته، علينا إيجاد الوسائل الكفيلة بالعمل على صيرورتها تلك في ظله، لأن البديل عن ذلك هو الاستقالة، التي تتضمن أن نظل نتحزّر هل يمكن أن تصير ديموقراطية مدنية أم لا. ومالم نكتشف هذه الوسائل فهذا خلل فينا لكونها موجودة بالقوة، طالما أن هناك فارقاً مهماً بينه وبين نظام صدام: فهو أولاً، برغم ديكتاتوريته، يسير ببطء شديد مع الاتجاه العام للحياة. لذا، بحكم منطق سيرورته، وهذا ثانياً، من الطبيعي أن يتحمل وجود معارضة ديموقراطية مدنية. وماهية هذه السيروره تكمن في الجواب على سؤال السيد صاغية.
يطرح السيد صاغية واحدة من أهم مشكلات النخبة السياسية للمعارضة الديموقراطية السورية، على هيئة سؤال تقريري يوجهه لياسين “أليست التعابير الدارجة عندكم والتي صارت جزءاً من طبع راسخ كـ«القطر» و«الوطن العربيّ» دليلاً على ميل عميق إلى استبعاد الوطن القائم (سوريا) لمصلحة الوطن المتخيّل؟ أهذا التقلّب بين «العروبة» و«الإسلام» و«العروبة والإسلام» و«الأمّة» التي لا يعرف حجمها إلاّ الله مجرّد بلاغة إنشائيّة بريئة؟ ويتراءى، في هذا المعرض، أنّ فشل الدولة الأمّة قد يفتح بابنا، في أحسن الحالات ووسط تجارب يُخشى أن يصبغها دم كثير، للدولة المدنية التي ربّما شابهتنا وشابهناها أكثر من الدولة الأمّة”.
وهذه ليست مشكلة ثقافية، بل معضلة سياسية حقيقية تعاني منها تلك النخبة، ومؤداها أن عندها فقراً في النظرية السياسية الخاصة بالواقع السوري. فهي مازالت بلا بديل عن الثوب القومي (أو الإسلامي، الذي أتركه للإسلاميين) فيما بات جلياً أنه ما عاد يدفئ نفسه. وغياب البديل من شأنه تكريس الأيديولوجيا القومية والإسلامية، سياسياً وثقافياً. أستثني ياسين، ليس لأن السيد صاغية فهم مقولته عن “الدولة-الأمة” بشكل خاطئ، طالما أنه يقصد قيامهما بحدود سوريا الحالية ، بل أيضاً لأنه اجتهد وحاول إخراج سوريا من الانسداد الذي وصلت إليه مقولة الدولة القومية في سوريا، سواء كانت العربية الشاملة للوطن العربي أو الكردية الشاملة لكردستان، عبر دعوته إلى سوْرنة سوريا (“سوريا غير المتطابقة مع ذاتها”- الحوار المتمدن).
إذا كنت أخص النخبة المعارضة بهذا الفقر، فلأنها الأوْلى بالغنى النظري-السياسي طالما أن مبرر وجودها دفع سوريا بالاتجاه الديموقراطي المدني. فكيف ستدفعها إن لم تمتلك نظرية دفعها؟ ولأن نخب النظام، حتى لو صدف أن توصلت إلى هذه النظرية، لا يمكنها الإفصاح عنها طالما أنها بهذا الإفصاح ستتناقض مع الأيديولوجيا التي سيظل النظام يتمسك بها حتى يحين الوقت الذي يتخلى عنها، أو ينقلب عليها. وحتى لا يظل الكلام كالطلاسم أقول:
إن النظام السوري ضد تطبيق الشريعة الإسلامية، ومع ذلك يقول الرئيس الأسد في مؤتمره الصحفي الأخير مع الرئيس الإيراني نجاد “إن دعم المقاومة واجب شرعي”، ويكررها وهو يمازح محاوره في تلفزيون المنار. كما أن النظام يتعامل مع العروبة بنفس البراغماتية، يرفعها كشعار وهو يعلم أن العرب، أنظمة وشعوباً، ليسوا مع الوحدة العربية. وعلاوة على ذلك، فهو الوحيد الذي تعادى مع كل الأنظمة العربية الفاعلة في منطقتنا. وإذا ما عادت العلاقة بينهم إلى سلاستها، وهاهي تعود، فلا لأنه تراجع ولا لأنها لمست “بعد نظره القومي”، بل لأنها سايرت لأمر الواقع الذي فرض نفسه على الولايات المتحدة والأوروبيين قبلهم. ما يعني أن علاقته الاستراتيجية ليست مع إيران الإسلامية ولا مع العرب، بل مع تركيا جسر سوريا باتجاه الأوروبيين. هذا ما توصلت إليه منذ 2004 (كتاب “سوريا إلى أين؟”) وأكدته عام 2005 في “تركيا تمهد الطريق أمام سوريا” و “تركيا جسر سوريا نحو الاتحاد الأوروبي”، (الحوار المتمدن).
فالمشكلة، عندما تطرح نفسها كمشكلة فعلاً، أي عندما ينضج وقت حلها، تشير ببنانها إليه. ولم يبرز تخلف سوريا كمشكلة تتطلب حلاً، إلا مع انتهاء الحرب الباردة. وجرّاء انسداد الأفق القومي، قل لطوباويته، ولكون الإسلامي إمعاناً في تخليفها، وهذان مكونان أصّلهما التاريخ في سوريا، قامت الحغرافيا بشق طريق جديد لها يكمّل تاريخها القديم بنفيها له. والمفارقة أنها شاءت أن تسخر من التاريخ القومي العربي بدفعها النظام الأشد تمسكاً به (النظام السوري) إلى المبادرة لحفر قبره، بينما ظلت الأنظمة العربية التي لا تأبه به تتستر على وفاته.
إذا كان هذا هو المسار الذي فرضته الحياة في ظل العولمة المباشرة، وهو هذا؛ وبما أن النظام السوري يسير فيه، على النخبة السياسية الديموقراطية المدنية (المعارضة بالضرورة لديكتاتورية النظام) ألاّ تقف على الرصيف، كما تفعل الآن، وألاّ تحذو حذو السيد جنبلاط كما يطالبها السيد محمد رصاص. وإنما أن تضع برنامج تعبئة سياسية لتمدين سوريا، يتضمن موقفاً ضد كل جوانب ديكتاتورية النظام وضد الطائفية السياسية المرعبة للمجتمع ككل. لماذا؟
1ـ محق ياسين بإيلائه أهمية كبيرة لـ”دور نخبة الحكم والنخب السياسية عموماً في تطوير سياسات معززة للتماسك الوطني أو مضعفة له”، ما يعني بداهة قيام النخبة الديموقراطية بتعزيز هذا التماسك. وحتى تصير هذه البداهة واقعاً ملموساً، على المعارضة الديموقراطية المدنية، وهي تعمل على حت ديكتاتورية النظام، أن تعمل ضد الطائفية السياسية. فهذه الطائفية هي البوتقة التي تصهر الاختلافات الثقافية الدينية في وحدات سياسية صلبة، تمنع امتزاج أفراد الطوائف مع غيرهم كمواطنين. بديهي أن تكاملهما يسرّع تلك الصيرورة، ولكن ما ينبغي تأكيده أن تراكب الأول مع الثاني يفعل فعله في صيرورتها ديموقراطية مدنية، وتعشيق الثاني بالأول يسهم في جعلها مدنية ديموقراطية. أما انفصالهما فلا يجعلها لا ديموقراطية ولا مدنية، بل تظل كما هي. وإن صدف وسقط النظام بقوة خارجية، تتفتت سوريا إلى مكوناتها وتصير ديموقراطية طائفية.
2ـ ليأسه من إمكانية تجاوب النظام مع ضرورات الديموقراطية المدنية، يخشى السيد صاغية من أن يتعمد طريق الدولة المدنية عندنا بالدم. أما ياسين، الأقل قتامة، فقوله السابق يتضمن إمكانية قيام نخبة الحكم، أو قطّاعٍ منها، بانتهاج سياسة معززة للتماسك الوطني. وكل المعارضة الديموقراطية، طالما أنها لا تدعو إلى الثورة، وتمارس قناعتها برفضها لها عبر إصرارها على علنية التنظيم، فموقنة أن الدم لا يصنع ديموقراطية. ولهذا باتت ترفض الثورة، بعدما كانت هاجسها طوال مرحلة الحرب الباردة. وبالتالي على الرغم من حقي باستنطاق موقفها، فإني أتنازل عنه لئلا أبدو كمن يقوّلها، أو يتحدث بالنيابة عنها كلها. لذا أؤكد: إن سوريا ستصير ديموقراطية مدينة، عبر تكامل نهج المعارضة الذي يفرضه عليها منطقها كمعارضة ديموقراطية مدنية، و”تواطؤ” النظام الذي من مصلحته التجاوب مع مدنيتها ليطيل أمد استمراره. فهو يعلم، أكثر من رعاعه، أنه ليس للأبد.
لا يتسع المقام للتفصيل، ومع ذلك لنعاين حال تركيا برغم اختلافها عن سوريا. فالديموقراطية التي فصّلها الجيش على مقاسه في دستور 1982، واصلت فرض ديكتاتوريته بنص دستوري “الجيش حامي الدولة العلمانية”. وشيئاً فشيئاً نمت ديموقراطية مدنية بالعمل الدؤوب للديموقراطيين المدنيين، وتواطؤ التيار الغالب في الجيش معهم. بتكامل هذين العاملين، شرع المجتمع التركي يقوض أسس سيطرة الجيش على نظامه السياسي الديموقراطي المدني (وليس الإسلامي، كما يحلو للكثيرين تسميته) مما فسح المجال أمام الإصلاحات الدستورية الأخيرة التي ستكرس تركيا ديموقراطية مدنية بموافقة الجنرالات.
خاص – صفحات سورية –