العائدون من وإلى دمشق
سليمان تقي الدين
أحيط الوفد الإداري (التقني) الذي ذهب إلى دمشق بهالة من الاعتبارات السياسية . تأجلت الزيارة بسبب مستوى التمثيل، ثم قيل إنه يحضّر ملفات تبحث في عمق الاتفاقات المعقودة بين البلدين . يريد بعض اللبنانيين أن يحرّروا العلاقات من شوائب “الوصاية” . يريدون أن يتعاطوا، رؤساء لرؤساء ووزراء لوزراء، بينما الخط “العسكري” قد انفتح مجدداً للزعماء الذين يفاوضون ضباطاً من “المخابرات” كما كانوا من قبل، لسيادة “العميد” أو “سيادة اللواء” مخاطبين “ما رأيكم دام عزّكم” في كذا وكذا .
سمعنا الكثير عن غياب التوازن في الاتفاقات بين الشقيقين التوأمين، لكننا لم نسمع فكرة واحدة حتى اللحظة عن مصدر الخلل في تلك العلاقة، سوى أن “المجلس الأعلى” و”اتفاقية الأخوة والتعاون والتنسيق” قد جرى إقرارهما في ظل “الوجود العسكري السوري”، رغم أن كل هذه الاتفاقات قد جرى تتويجها بعبارة انطلاقاً من “احترام استقلال وسيادة كل من البلدين” .
لا نخشى فعلاً من فتح ملف العلاقات اللبنانية السورية ومراجعة جميع الاتفاقات . ليست هناك محاذير أبداً من تعديل بعض الاتفاقات إذا كانت تنطوي على شيء من عدم التوازن في المصالح . أقيمت ندوات علمية حول الموضوع وكتبت دراسات كثيرة ولم نجد فيها إلا بعض التفاصيل هنا أو هناك حول “العمالة السورية” في لبنان، أو حول مياه العاصي، أو ترسيم الحدود . وهذه مواضيع فيها قولان لا قول واحد .
ما نحتاجه في البلدين على الصعيد الاقتصادي أن نفتح الحدود، وعلى الأقل أن نزيل خناق “المصنع”، حيث تبيت الشاحنات العابرة من وإلى البلدين أياماً وليالي، والقضية كلها تحتاج إلى بضعة موظفين من الفائض الموجود لدى الطرفين . لكن المسألة كانت وما تزال مسألة سياسية . يقحم البعض العلاقات في “الأدلجة” وهي ليست كذلك . يحدثنا بعضهم عن “الوجدان السوري” الذي يحن إلى ضم لبنان، لكنه لم يضمه رغم وجوده العسكري لثلاثة عقود .
ويحدثنا البعض في سوريا عن شكوكهم في السياسات والزعامات . لكن المسؤولين السوريين الذين أداروا البلد لم يساعدوا على بناء مناخات جاذبة للعلاقات اللبنانية، ولم يساعدوا أصلاً على الإصلاح الذي جاء به “اتفاق الطائف”، وكان يمكنه أن يحررنا من استدارة القيادات نحو الغرب ومعها جمهورها . خلافاً لشكوى البعض لا تقلقنا “أدلجة” العلاقات بدلاً من شخصنتها، إذا كانت فعلاً قائمة على فكرة “العروبة”، أي التعاون في إطار تجديد المشروع العربي . العروبة ليست لاغية للدول والكيانات، ولا تتضمن فعل الإلحاق والهيمنة . العروبة هوية جامعة تتبلور أكثر في وجه خطر مشترك وهو قائم مع التحدي الصهيوني، وعلى مصالح مشتركة، وهي قائمة ومميزة فعلاً بحكم التاريخ والجغرافيا، التي حاول البعض تجاوزهما، فسقط في المشاريع الوهمية . ما يهمنا اليوم هو بناء الثقة التي تزعزعت، ليس انطلاقاً من قائمة الممارسات الخاطئة، بل انطلاقاً من تغيّر المناخات الدولية . كل الشعارات التي استخدمت لضخ التوتر في العلاقات قامت على مطالب وهمية تهاوت اليوم كوتد جحا في مزارع شبعا (الذي اخترعه السوريون لإبقاء الجنوب ساحة)، وترسيم الحدود وفتح السفارات والاعتراف بكيان لبنان، وما إلى ذلك .
لم يعبر العائدون إلى دمشق من باب السفارة، ولم يلتقوا أندادهم في سوريا، ولا كانوا يمثلون مؤسسات البلدين . عبروا الخط العسكري القديم إيّاه والتقوا “الضباط” ذاتهم، وقدموا أنفسهم بهوياتهم السياسية والطائفية، وكممثلين لشرائح وفئات لبنانية . لسنا ضد سيولة العلاقات وسهولتها، بل نؤكد أن الأمور بين الشعبين والدولتين لا يمكن أن تسير على نفس النمط والوتيرة مع الدول الأخرى . ما يفترضه “الطائف” الذي يذكّرنا به بعضهم هو توسيع المعابر وتعبيد الطرقات البرية لجميع الناس، واستبدال “التقارير” الكاذبة والوشايات السياسية والأمنية بآلات مراقبة حديثة موضوعية محايدة . لكن ذلك يحتاج أولاً إلى قراءة نقدية سياسية علنية يشارك فيها جمهور البلدين ولا تبقى في الغرف المغلقة وفي العتمة، كما حصل حتى الآن .
ليس هناك من لبناني فعلاً يريد رجحان المصالح السورية على المصالح اللبنانية . أصدقاء سوريا في لبنان هم أكثر شعوراً بالارتياح لخروج القوات العسكرية والأمن اللذين كانا يشكلان الحياة السياسية ويتدخلان في التفاصيل . لكن المصلحة الوطنية اللبنانية تقتضي ألا نحاصر أنفسنا بأنفسنا، فليس لنا من حدود مفتوحة إلا مع سوريا، وهي بغض النظر حتى عن السياسات، الملاذ الذي نلجأ إليه كلما جاءت موجة غربية تريد اقتطاعنا من الجغرافيا العربية وتحويلنا كجزيرة مثل قبرص . المهم اليوم أن العائدين إلى دمشق ألا يحصلوا على تلك الوكالات الحصرية السابقة لإدارة قبائلهم وطوائفهم، وألا يتحولوا إلى ناطقين رسميين باسم دمشق .
لنكن صريحين، دمشق اليوم أقوى من قبل في لبنان . لها الغُنم السياسي وليس عليها الغُرم . استطاعت دمشق أن تقنع العالم كله بعدم تدخلها في السياسة الداخلية اللبنانية، وهي تعلن على لسان أعلى مرجع (الرئيس) أنها لا تريد أن تستدرج إلى التدخل في التفاصيل . لم تستفد دمشق من التدخل في اليوميات اللبنانية . من استفاد هو الفريق الذي أدار ملف العلاقات من الطرفين . سقط الفريق السوري الذي أدار الملف اللبناني، أما الفريق اللبناني فهو يحاول أن يكرر التجربة اليوم، لأنه فريق لكل الفصول والموجات السياسية . يشكو السوريون من الواقع الطائفي اللبناني، هم على حق في وجود هذا المكون السياسي المسيطر . لكن يجب القول إن سوريا لم تفعل أي شيء لتجاوزه، بل هي ساهمت في تكريسه، وفي تحجيم ومحاصرة القوى العابرة للطوائف . لا نريد من دمشق أن يكون لها مشروعها “اللبناني” بهذا المعنى لتغيير الواقع، لكنها تستطيع، ونراهن على التزامها العروبي المدني، وعلى محاولاتها التمسك بالعروبة في مواجهة قوى التطرف الديني والمذهبي، والتفكيك العرقي والإثني، لكي تأخذ في الاعتبار هذا اللبنان الآخر غير الطائفي .
الخليج