صفحات العالم

في مهب النسيان

null
خيري منصور
لم نعد نسمع شيئاً عن انفلونزا الطيور والخنازير بعد أن ملأت الدنيا وشغلت الميديا، رغم أنها تواصل عملها بلا انقطاع، لأن الكوارث الموسمية التي يعاني منها هذا الكوكب بدأ بعضها ينسخ البعض الآخر . والناس في زماننا كما قال ناظم حكمت لا يذكرون موتاهم أكثر من أسبوع، لهذا فالاستغراق في هذه الحمى أصاب العالم بالعمى، ولم يعد يدري إن كان متجهاً شرقاً أم غرباً، جالساً أو مقرفصاً أو واقفاً .
أيام يسلِّم أحدها للآخر الحمولة ذاتها، والغد شبيه البارحة والمراوغة الثعلبية أصبحت آدمية بامتياز .
يحل الاعصار بأسمائه المضللة الجميلة من طراز “كاترين” مكان إعصار تاريخي أو سياسي كاسقاط دولة في ظهيرة واحدة أو احتلال مساحة مأهولة من الجغرافيا يحتاج القطار السريع إلى قطع المسافة بين شمالها وجنوبها إلى أكثر من يوم، وما إن نستيقظ على كارثة حتى تصبح سابقتها في مهب النسيان .
زلزال يحل مكان احتلال، وبركان يملأ الفضاء بالدخان الثقيل والحُبيَبْات السوداء فيحجب حصاراً هنا أو مجزرة هناك .
فما كان مؤتمر كوبنهاغن للمناخ أن يعاد إلى الأدراج بفشله وسجالاته العقيمة حتى جاء الرد من آيسلندا، بحيث خلت السماء فوراً من الأزيز، وبدأت الحواسيب تحصي الخسائر التي قد تصل مليارات الدولارات .
وما إن يأخذ العالم عطلة لساعة أو أقل من إنفلونزا الإرهاب التي لا لقاح لها حتى يبتكر محاربو الارهاب ارهاباً آخر لكنه رسمي ومدجج بالشرعية الدولية الملفقة . قبل خمسين عاماً كتب شاعر روسي أنه ضجر من الإقامة في هذا الكوكب، وقال لو أنه يعرف السائق الذي يقوده لقال له . . قف، أريد أن أترجل، والآن أصبح كوكبنا أشد إضجاراً، فهو ملغوم بكل ما هو نووي ودموي، وأطفاله عراة في الشوارع، وثمة أكثر من نصف عدد ساكنيه مشردون وجائعون ومحتلون .
علينا إذن أن نتعامل مع كل ما يجري وما يهددنا أن لا ننتظر أي علاج شامل لأن متوالية الكوارث السياسية والاقتصادية والطبيعية أصبحت أشبه بدودة شريطية، لا صلة لأي جزء بالآخر، فالعالم مقبل على نمط من الحياة لا يتقنه غير المتسولين وهو الحياة من يوم إلى يوم وبعد ذلك من وجبة إلى وجبة . ورغم كل هذه الثرثرة عن العالم القرية وعن التواصل الإنساني ووسائل الاتصال إلا أن العزلات تتفاقم حتى داخل المجتمع الواحد، فمن يسقط يداس بالأقدام ومن يستغيث يرتطم صدى صوته بحائط اللامبالاة .
إنه عصر الانفلونزات بالألوان ومختلف أشكال الموت، وهو عصر لم يتنبأ به إلا هؤلاء الذين أبصروا كزرقاء اليمامة عن بعد كل هذا الدخان وهذا الهشيم وهذا الدمع المضمخ بالدم .
لهذا ليس من حق سادة التكنولوجيا أن يفاخروا بما أنجزوا، لأن ما دمروه وما سوف يدمرونه أضعاف ما شيدوه .
فالناس الآن وفي ذروة هذا التطور المادي عادوا يبحثون عن بيضة دجاجة غير مسرطنة وعن فاكهة أو ثمرة بلا هرمونات وعن خُبز يشبه الخبز الذي كانت تعجنه الجدات قبل قرنين .
الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى