قراءة في كذبة رئاسية
عبد الوهاب بدرخان
في النهاية قد يتبين أن قصة صواريخ “سكود” لم تكن سوى كذبة تبناها بيريز فجعل منها كذبة رئاسية. هي قصة مستمدة من واقع، فهناك أشياء كثيرة تنقل من سوريا إلى “حزب الله” في لبنان، أما أن تكون صواريخ “سكود” من بينها فهذه مسألة أخرى.
تقول قواعد الكيل بمكيالين إن تزوّد إسرائيل بترسانة نووية لترهيب الشرق الأوسط وشعوبه هو عين الصواب. أما نقل صواريخ من سوريا إلى “حزب الله” فلابد أن يكون “خطأ في الحسابات السورية”. وتقول خلفيات عملية التضليل إن بيريز عجوز مسكين سئل عن خبر منشور في جريدة كويتية فأجاب وأفاض ثم استخلص أن لدى سوريا ازدواجية في اللغة، صواريخ من جهة وكلام في السلام من جهة أخرى. كل هذا وقد فوجئ بيريز بالسؤال، وكان فوجئ أكثر بأنها المرة الأولى التي تأتيه فيها الأخبار من جريدة عربية.
كانت تسريبة على طريقة البلياردو، مدروسة بمنهج “غوبلز” العلمي، تضرب طابة لتصيب ثانية لكن الاثنتين تنشران مناخ فوضى على الطاولة ثم تستغرب للنتيجة كأنك لست أنت من سدد الضربة، ولا بأس في أن تبدي الاستياء لأنك أصبحت ضحية هذه الفوضى، وتتطلع في كل اتجاه متوقعاً أن تُمنح الحق في إعادة ترتيب الطاولة حتى لو تطلب الأمر إجراءات استثنائية، أو في هذه الحال حرباً.
قبل أن يقع -بالأحرى أن يوقِع- بيريز نفسه في الفخ الذي توقعه، راح عدد من المعلقين الإسرائيليين يكتب، بكل براءة واندهاش، عن ذلك الخبر الخطير الذي أكسبه مصدره الواشنطني مصداقية وأعطته أسبقية النشر بالعربية شرعية الحقيقة. لكن تعليق بيريز عليه هو ما أخفى لباس أزمة صواريخ، إقليمية تنذر بحرب.
كان مجرد خبر ينشره صاحبه منسوباً إلى “مصادر” وهو مطمئن. أن يكون صحيحاً ودقيقاً فهذا ليس شغله. المهم أن مصدره من عتاة العارفين ولا يشق له غبار. ما أن تكلم بيريز حتى تحركت أقلام “العارفين”، كأنهم كانوا في انتظار الإشارة المشفّرة. لم يكن الخبر فخاً لبيريز، لكن الأخير ارتضى أن يكون أداة في نصب فخ لشخص آخر، باراك أوباما.
ما أن انتهت قمة “الإرهاب النووي” حتى وجد الرئيس الأميركي نفسه أمام “الضحية” الإسرائيلية، فإما أن يكون معها على رغم الخلافات العاصفة الآن بينهما وإما أن يكون مع “حزب الله”. أي أن عليه أن يعطي ضوءاً أخضر لإسرائيل كي تتصرف، فالخيار واضح. تطلّب الأمر بضعة أيام تأرجح خلالها الموقف الأميركي صعوداً وهبوطاً بين التساؤل والشك وبين الحذر والتحذير، إلى أن اكتشفت الكذبة. إذ “لا يوجد ما يشير إلى نقل صواريخ سكود” من سوريا إلى لبنان. ولو حصل “لكانت رصدت”، لكن “الخبراء” الموظفين في خدمة الكذبة أكدوا أن الرصد “ليس سهلاً”.
ثمة استهدافات عدة للصواريخ البيريزية، بينها تعبئة الكونجرس لعرقلة وصول السفير الأميركي إلى دمشق، أما أهمها فهو امتحان الغيرة الأوبامية إزاء خطر داهم يضع إسرائيل أمام استحالة السكوت وضبط النفس. لكنها أصبحت تعرف الآن أن بوش غادر البيت الأبيض فعلاً، وأن خلَفه غير مستعد لمنحها توقيعاً على بياض لتكرار سيناريو حرب 2006. ولا يعني ذلك أنه يساير السوريين أو الإيرانيين، بل إنه لا يحبذ أن يُمتحن بالأكاذيب.
لا شك أنها كانت محاولة متذاكية إلى حد الغباء، ففي الإدارة الأميركية يعرفون أن إسرائيل تعاني حاجة ماسة إلى حرب ما تنقذها من حشرة اتخاذ قرار بشأن شروط استئناف التفاوض مع الفلسطينيين. يعرفون أيضاً أن الإسرائيليين يعتقدون ويقولون إن أميركا ابتعدت عنهم، لكن واشنطن تعتقد وتقول أيضاً إن إسرائيل هي التي ابتعدت، بل إنها تحاول فرض استراتيجية حرب شاملة ودائمة لا يوافقها عليها أحد في العالم.
وهكذا استعادت إسرائيل أساليب “البروبراغندا” التضليلية، ولعلها ستعود إليها مراراً، إذ أن نتنياهو متخصص فيها. ومن هذه الأساليب تكرار افتعال مناخات الحرب وقرع طبولها، إذ لابد أن يبقى منها شيء يمكن انتهازه، خصوصاً إذا ارتكب الطرف الآخر الخطأ الذهبي المنتظر.
الاتحاد