الدولة السرية
امين قمورية
من الواضح ان قضية الشرق الاوسط باتت المهمة الاصعب والاكثر الحاحا امام الرئيس الاميركي باراك اوباما. فاذا تمكن من ايجاد حل لها استطاع حشر ايران وحلفائها “المتشددين” مثل سوريا و”حزب الله” و”حماس” في زاوية ضيقة وسحب ذرائع “الممانعة” و”المقاومة” من ايديها، وتاليا يصير في استطاعته التمهيد لـ “حلف المعتدلين” الذي يضم عرب التفاوض واسرائيل في جبهة موحدة ضد الخطر الايراني بعدما ربط بوضوح بين عملية السلام وملف طهران النووي. وهو لم يتردد في الاعلان ان الحل في الشرق الاوسط بات مصلحة استراتيجية اميركية، وتاليا لا يحق لاسرائيل وغيرها التشويش عليها او تعطيلها.
مهمة اوباما اصطدمت بتعنت حكومة نتنياهو التي تخشى ان تقدم “تنازلا” في الملف الفلسطيني لا تريده اصلا، من دون ان تحصل في المقابل على الامان من الجانب الايراني، فصمت اذنيها عن المطالبة الاميركية بتجميد الاستيطان لفتح طريق المفاوضات، بل رفعت وتيرته في القدس الحساسة تحديا حتى كادت تنفجر بينها وبين واشنطن متذرعة مرة بخوف نتنياهو من سقوط ائتلافه ومرات بـ”الفتاوى” اليهودية التي تحرم اي مس بوحدة المدينة المقدسة كعاصمة لاسرائيل.
لكن اميركا الحريصة على امن اسرائيل حرصها على مصالحها الاستراتيجية، وجدت مع نتنياهو حلا سحريا لهذه المعضلة “لا يموّت الذئب ولا يفُني الغنم”. ويقضي هذا الحل العجيب بوضع الرأس في التراب على طريقة النعامة، اي ان نتنياهو يوافق على تجميد البناء في القدس من دون الاعلان عن ذلك، ومراعاة المتشددين ليبرمان ويشائي وبيغن بالسماح ببعض البناء الرمزي وتذويب قرار البناء المثير للجدل في مستوطنة رامات شلومو في قلب القدس. وللحفاظ على غرور رئيس الوزراء وكبريائه وعدم احراجه بالجلوس مع الفلسطينيين وجها لوجه، كان الاقتراح العجيب الآخر: التفاوض بطريقة غير مباشرة عبر ما يسمى مفاوضات التقارب للتوصل الى تسويات ممكنة لقضايا الوضع النهائي برعاية اميركية وابقاء الاتفاقات طي الكتمان وعدم اعلانها تفاديا لاحراج احد!
اذا، تجميد سري للاستيطان (مع ولكن)، تتبعه مفاوضات بالواسطة غير معلومة النتائج (مرفقة ايضا بـ لكن). وكل ذلك يقود الى ماذا ؟ الى دولة فلسطينية سرية غير معروفة الحدود ولا المعالم ولا العاصمة وبلا اعلانات مسبقة خشية ان ينقلب المتشددون عليها !
حتى هذا الاقتراح الملغوم لم يحظ من نتنياهو بسوى كلمة “لعم”. لكن السلطة الفلسطينية في المقابل كانت اشد طراوة اذ مهدت لقول “نعم” برمي كرة القبول بالاقتراح في الملعبين الاميركي والعربي “المعتدل”، فبالنسبة اليها مفاوضات من دون نتيجة افضل الف مرة من مراوحة في المكان وتمكن “حماس” واخواتها من سحب البساط من تحت ارجلها، وكسب ود اميركا افضل الف مرة ايضا من نيل صفة حركة تحرير ثورية، ومتر واحد يرفرف عليه العلم الفلسطيني ويطلق عليه اسم دولة افضل من شرف النضال من اجل تحرير فلسطين. اما العرب الذين سيدعمون كالعادة خيار السلام تبعا للاسلوب الاميركي الجديد، فبالنسبة اليهم مفاوضات بلا افق وتجارة خاسرة بالسلام افضل الف مرة من ايران نووية، واسرائيل يعرفونها افضل الف مرة من ايران لا يريدون التعرف عليها او ان تقترب منهم!
واشنطن تراهن ان الوقت اللازم لانجاز مفاوضات التقارب من شأنه ان يمنح نتنياهو الفرصة لاقناع ائتلافه بالنتائج او تغيير الائتلاف بآخر اكثر طواعية وقبولا بالحل وتاليا السير به حتى الدولة الفلسطينية. لكن اسرائيل التي اضاعت في السابق كل نتائج المفاوضات الماضية باللعب على الوقت والتهرب من التقيد بروزنامة، ملزمة ان تعرف كيف تجعل الوقت لمصلحتها. اما العرب الذين تفاوضهم فهم اصلا لا يعترفون بوجود شيء مهم اسمه وقت او زمن. وهكذا من شأن الدولة العتيدة ان تبقى سرا الى الابد.
النهار