أزمة «السكود» اللبنانية: ترنح بين ضعف القرائن الاسرائيلية وضعف القرار بدفعها -2-
حسام شامي
حصلنا في الأيام الأخيرة، كما يظهر من التصريحات المتضاربة، على جرعة إضافية من الغموض المتعلّق تخصيصاً بنقل صواريخ «سكود» إلى «حزب الله» اللبناني من طريق سورية. ومع أنّ القلق أخذ يلفّ دوائر كثيرة، لبنانية وعربية وإقليمية، فإنّ الأمور لم تصل بعد إلى الحدّ الذي يجعلها أزمة من طراز تلك التي شهدها العالم في ستينات القرن الفائت، أي في عزّ الحرب الباردة، في ما عرف بقضية الصواريخ الكوبية. لم تبلغ الأمور حدّ الأزمة التي لا مخرج منها إلاّ بالحرب، ليس لأنّ الأطراف المتواجهة فيها لا تريد المواجهة، أو لأنّ الحرب الباردة انتهت وصارت المصالح الدولية أكثر تشابكاً في ظل العولمة الجارية، بل لأنّ التصعيد اللفظي حتى الآن يأتي في ظرفٍ وفي وضعٍ دولي وإقليمي يلفّهما أصلاً قدر لا يستهان به من الغموض. يمكن لأي متابعٍ للأوضاع المضطربة، وإن بمقادير متفاوتة، في النقاط الساخنة والمتزايدة تعقيداً وارتجاجاً، كما هي حال بلدان ومجتمعات مثل العراق وأفغانستان والسودان وفلسطين ولبنان، أن يردّ هذا الغموض إلى الإرث الثقيل الذي خلّفته الإدارة الأميركية السابقة وتورطها على نحو غير مسبــــوق في غير موضع. على أنّ الالتفات إلى وجـــود نقاط أخـــرى لا تخلو من السخونة، في البلدان والمناطـــق التي كانــــت خاضعة للنفـــوذ السوفياتــــي على سبيل المثال، يجيز إدراج التوترات المنـــذرة بانســـداد الآفاق الوطنيـــة، لاعتبارات داخلية وإقليمية في آنٍ مــعاً، فــــي إطــــار مسألة أعرض وهي أنّ العولمة أنتجــــت داخــــل القريــــة الكونية المفترضة طلباً على الهويات المتحققة وعلى تجديد لعبة الأمم.
في لعبة الأمم تتجدد الحاجة إلى تثبيت مواقع النفوذ والتأثير، ليس في المجال الإقليمي الوطني وحده، بل كذلك في المجال الحيوي للدول القومية الطامحة إلى ترسيخ المكانة، وهذا ما يولّد الانطباع بأنّ ما نشهده ينطوي على عودة إلى لعبة التنافس التي سبقت الحرب العالمية الأولى والثورة البلشفية وتشكل الأمبراطورية السوفياتية ومنظومتها الاشتراكية العتيدة. ويتعزز هذا الانطباع من واقعة تزايد الحاجة في الديمقراطيات الغربية إلى «اليقينيات» بعد أن كانت قوتها وجاذبيتها تقومان بالضبط على «اللا تحديد الديموقراطي»، بحسب توصيف لا يخلو من الوجاهة المفهومية، أي على التخفف من اليقينيات وهو ما يعزز في المخيلة الثقافية العريضة صورة المجتمع المنفتح والمتحرك على الدوام. لا حاجة لاستعراض المؤشرات إلى تعاظم سوق اليقينيات، إذ تكفي الإشارة إلى التنميط المتزايد لصورة الآخرين والمبالغة في تشخيص تهديدات يلحقها المهاجرون، أكانوا مسلمين مثلاً أو غير مسلمين، بالهوية الوطنية المفترضة، ناهيك عن النفخ في الهواجس الأمنية ليس لاعتبارات انتخابية فحسب، بل لتوليد الشعور بوجود خطر داهم لا يقتصر تهديده على جوانب معينة أو سياسات بعينها، إذ أنه يطاول أسس الحياة الديموقراطية نفسها و «جوهر» مبادئها وبعدها العالمي. ولا نعلم إذا كان هناك بالفعل خطر من النوع الموصوف هذا. ولا يمنع هذا من أن يكون سوق اليقينيات مزدهراً في كل مناطق العالم، بما في ذلك منطقتنا التي تشهد إقبالاً على عروض الهويات الجاهزة والمجهزة على نحو تقابلي في معظم الأحيان من دون أن يرفع اللبس واختلاط الولاءات التقليدية المتوارثة والمحسوبة طبيعية بحقل الدولة الوطنية التي هي بالضرورة مدار بناء وصناعة لا يتوقفان ولا ينقطعان عن الحراك الاجتماعي. ومن يحضر السوق يبيع ويشري ويفاوض ويقدّر… إلخ.
من المستحسن أن نقرأ التصريحات المتضاربة الصادرة عن مسؤولين كبار في الإدارة الأميركية وفي إسرائيل حول الصواريخ المزعوم وصولها إلى «حزب الله» في إطار السعي إلى تثبيت مسلمات استراتيجية وأمنية ينبغي التسليم والإقرار يقيناً بعبثية الاحتجاج عليها كما باستحالة العيش خارج نطاقها وسقفها.
ويستفاد من هذا أنّ هناك عقائد يتعرض التسليم بها للاهتزاز. يجدر بأي مراقب أن يتوقف عند التصريح الذي أدلى به وزير الدفاع الإسرائيلي إيهود باراك في أعقاب تصريحات تجزم بتزويد سورية «حزب الله» بصواريخ سكود مما أثار خلافاً وجدلاً، على ما يبدو، داخل الحكومة الإسرائيلية. فقد قال الوزير المذكور إن «إسرائيل تفترض أنّ «حزب الله» سعى للحصول على صواريخ سكود». وعندما سئل قبل أسبوع في مقابلة تلفزيونية إذا كان بمقدوره التأكيد أنّ سورية سلّمت الصواريخ إلى «حزب الله»، أجاب باراك بما يلي: «نحن نفترض أن هناك نشاطاً متصلاً بتسليم أسلحة متطورة… سكود وأشياء أخرى». وأضاف بلغة تزاوج بين التهدئة والتوعد بأنه «ليست لدينا نيات لشن حرب في الشمال. لكن لا بدّ من أن يفهم أن دخول أسلحة إلى لبنان تعطل التوازن أمر يهدد الاستقرار». ورأى وزير الخارجية المصري أحمد أبو الغيط أن الكلام عن صواريخ سكود أكاذيب مضحكة. بل حتى استخدم كلمة «عدو» في معرض نفيه نقل أية رسائل إسرائيلية إلى «شقيق عربي من طرف عدو» مما أثار جدلاً مع الحكومة الإسرائيلية. من جهته، لم يسمّ وزير الدفاع الأميركي روبرت غيتس، إثر لقائه قبل أربعة أيام مع نظيره الإسرائيلي، نوع الصواريخ الموجودة في حوزة «حزب الله» «مكتفياً» بالقول إنّ الحزب المذكور يملك من الصواريخ والقذائف «أكثر مما تملكه غالبية حكومات العالم، وهذا بالتأكيد أمر يزعزع استقرار المنطقة. ونحن نراقب الوضع بعناية فائقة».
هناك كلمتان وردتا في عديد التصريحات المتضاربة حول الصواريخ المنقولة من سورية إلى «حزب الله»، وتشكلان المحور الدلالي لهذه التصريحات، وهما «التوازن» و «الاستقرار». ويظهر أنّ التوازن، في عرف ممثلي الدولة العبرية على اختلاف ألوانهم، هو تثبيت التفوق الاستراتيجي على جيرانها كلهم، وهذا التفوق هو ضمانة الاستقرار بحسب ما يفهم من مواقف مسؤولي الإدارة الأميركية، وإن كان هؤلاء يعلمون أن الحديث عن استقرار في منطقة غير مستقرة، بحسب ما يفهم من توتر علاقتهم بالذات مع الحكومة الإسرائيلية مؤخراً، هو فقاعة تحتاج إلى جهد استثنائي كي تكون عقيدة مسلّم بها ويقينية. ويستدعي هذا تبدلاً في الرهان على الموقف السوري وفك ارتباطه مع إيران و «حزب الله». ولم يعد مثل هذا التبديل خياراً سهلاً، على ما يبدو. يمكن القول أن النفخ الجاري في موضوع تسلح «حزب الله» الذي لم يحصل أصلاً على أسلحته عبر طرود بريدية، ليس سوى تجهيز ذريعة حرب. ولا يعني هذا بالضرورة أن الحرب ستقع.
الحياة