صفحات العالم

أي أفق للاستقرار في الشرق الأوسط؟

سليمان تقي الدين
يحتاج المرء إلى الكثير من الخيال العلمي، والكثير من التفاؤل أيضاً، لكي يرى الشرق الأوسط منطقة مستقرة في المدى المنظور . قلب العالم القديم، وقوس الأزمات، أو منطقة النزاعات الدولية هذه، يرتبط استقرارها بنشوء نظام دولي جديد يقوم على التعددية والمشاركة، ويستوعب بصورة أساسية هذه المرة دولاً قد لا تكون ذات قوة عسكرية، ولكنها تمثل سلعاً اقتصادية ذات تأثير عالمي كالنفظ والغاز . هذا على افتراض أن الصراعات العسكرية والأمنية قد انتهت بتسويات أو حلول سياسية، وفي المقدمة المسألة الفلسطينية، ومسألة سباق التسلح، وبالتحديد أسلحة الدمار الشامل . قد لا نغالي إذا قلنا، ومن دون الذهاب بعيداً في التاريخ، إنه منذ مطلع القرن الماضي وخلال الحربين العالميتين، كان الشرق الأوسط هو إحدى أهم مناطق التنافس الدولي، وهو الذي دفع جزءاً مهماً من ثمن التسويات، في التقاسم الاستعماري أولاً، وفي الحرب الباردة ثانياً . ومنذ مطلع هذا القرن الواحد والعشرين هو المسرح الأساسي لتجريب نظام القطب الواحد والسيطرة الأمريكية، كما الإخفاق والفشل . فإلى جانب الصراع الدولي الغربي تحديداً الأمريكي الأوروبي، هناك مكونات جديدة في المنطقة، وفي آسيا عموماً تتشكل كتلاً ضخمة من المصالح كما في القرن الماضي .
صحيح أن الصين والهند مثلاً لا تلعبان أدواراً سياسية مباشرة، لكنهما تؤثران في مسار الأحداث لحفظ التوازن وتأمين مصالحهما . طبعاً تتصدر إيران الواجهة السياسية والأمنية، لكن تركيا وباكستان والمملكة العربية السعودية وسوريا و”إسرائيل” دول ناشطة في الحراك السياسي والأمني .
الحديث عن استقرار الشرق الأوسط، إذاً، هو الحديث عن تبلور نظام إقليمي يجمع هذه المتناقضات، وقد حاولت الولايات المتحدة عمل ذلك وفشلت، بينما محاولات بناء شرق أوسط “إسلامي”، أو إعادة تكوين نظام عربي، من الأمور غير الناضجة من حيث المقومات، ومن حيث الإرادة السياسية . وما تزال الدولة الصهيونية أبرز العوائق المعطّلة لتشكيل هذا أو ذاك من النظم الإقليمية، ليس فقط بداعي المسألة الفلسطينية، بل لأنها تطمح الى لعب دور إقليمي مميز أيضاً . هذا يفسر إلى حد بعيد كل التطورات الحاصلة الآن من تعقيد النزاعات الاقليمية، ولا سيّما الدورين الإيراني والتركي، رغم تراجع الدور العربي .
رغم كل الأوضاع العربية المزرية، لا يستطيع المشروع الغربي، والمشروع الصهيوني المتناغم معه، أن يفرضا على المنطقة حلاً للمسألة الفلسطينية وفق تصورهما .
وتتفرع عن هذه المشكلات الأساسية نزاعات حدودية وأهلية وأزمات سياسية تتعلق بشرعية الدول والأنظمة، فضلاً عن التحديات الاجتماعية المتنامية . هذه العناصر كلها تتفاعل في ما يشبه اختراقات بين الدول وتجاذبات في خياراتها . فلا نستطيع الإحاطة مثلاً بتفاعلات من نوع تصاعد حركات الإسلام السياسي، ولا التواصل المذهبي بين دولة وأخرى، ولا طبعاً تبلور الهويات الإثنية وحضورها في أكثر من دولة جرّاء عملية التخلخل في النظام الإقليمي وشعور هذه الجماعات بالغبن والتهميش، وأحياناً كثيرة بالقمع . ففي الشرق الأوسط موزاييك تكاد لا تخلو منه دولة أو لا يخلو منه مجتمع سياسي .
لكن المكونات التاريخية هذه تواجه أنظمة مغلقة على المشاركة، وتنزع إلى مركزة السلطة والثروة، وعلى فقدان لسياسات التنمية الشاملة . انبعاث الهويات الفئوية وانسداد آفاق التعبير السلمي عنها، وتصاعد الايديولوجيات الخلاصية، والتحديات الأمنية التي تفرض الأولويات الوجودية، تجعل المنطقة كلها واقفة على صفيح ساخن . لكن هذه الصورة السوداوية ليست قدراً محتوماً إذا ما ظهرت صحوة سياسية في بعض مراكز القرار . المقصود هنا تعديل جدي في استراتيجيات الدول الكبرى باتت تفرضه الأزمة المالية العالمية، وإعادة التوازنات الاقتصادية على شكل مختلف، وكذلك فشل سياسة الحروب الكبرى . كما المقصود أن ينهض في العالم العربي وضع جديد يستعيد بلورة الأمن القومي العسكري والاقتصادي ويشق طريقه بين الدول الإقليمية المتقدمة غير العربية .
أيّاً كان رأينا السياسي في الوقائع الحالية وفي سياسات الدول والمحاور، فلا بد أن نلحظ ونسجل وجود نواة تفكير إقليمي يستقطبه تحدٍ واحد هو التحدي الصهيوني، وهذه النواة تمتد من لبنان إلى إيران مروراً بسوريا وتركيا، رغم تباين المصالح والاتجاهات الايديولوجية . ربما صار واضحاً سبب النزاع الصهيوني  الإيراني، لكن دخول تركيا على المعادلة يحتاج إلى فهم دقيق .
أما وجود لبنان في دائرة هذا المشروع الذي يتكون في مشرق العالم العربي فهو أحد عوامل الاستقرار بمعنيين، الحماية الأمنية والسياسية الإقليمية، والاستقرار الداخلي، فضلاً عن الإفادة من البعد الاقتصادي . وخلافاً لتلك الشائعة عن “الهلال المذهبي” فإن هذه الدائرة فيها الكثير من التوازن والتنوع والتناغم .
يحتاج لبنان لكي يفيد من استقرار محيطه أن يخفض النزاعات السياسية حول موقعه ودوره الإقليمي . فهو محكوم أصلاً ببعد جغرافي سياسي اقتصادي أمني واحد، هو الحدود الوحيدة التواصلية مع سوريا . كذلك لا بد من أن يستطيع اللبنانيون أن يحلّوا نزاعاتهم السياسية على السلطة ببناء الدولة الحاضنة لجميع بنيها، إذا نجح اللبنانيون في هذا الأمر عبر استكمال تطبيق الدستور والمؤسسات التي يقترحها في أفق بناء دولة لا طائفية .
لبنان الذي يشكل مرآة المنطقة ويعكس تناقضاتها ويتأثر بأزماتها إذا صار واعياً لدوره، لمعطياته، لغنى مكوناته، وإذا وجد صيغة لاجتماعه السياسي تنظّم هذا التنوع، كما يفترض الدستور، يستطيع أن يؤدي دوراً نموذجياً في المجتمعات العربية . في واقع الأمر أن النخبة السياسية اللبنانية هي المسؤولة عن إحباط المشروع اللبناني الذي تبلورت ملامحه في “اتفاق الطائف”، ولا يزال ممكناً إذا ما قررت هذه الطبقة السياسية التضحية ببعض امتيازاتها لإنقاذ فكرة الدولة .
الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى