هل من الممتنع تصور إيران نووية متفاهمة مع الغرب؟
ياسين الحاج صالح
هل يحتمل أن العقوبات التي تسعى الولايات المتحدة إلى فرضها على إيران تمهيدٌ لمواجهة عسكرية معها، أم هي بديل عن المواجهة؟ وهل من شأنها لو طبقـــت فعلاً، حتى بمشاركة من الصين وروسيا، أن تحول دون تمكن طهران من الاستمرار في برنامجها النووي، وربما إنتاج أسلحة نوويـــة خــــلال عامين أو ثلاثة؟ وهل لدى واشنطن العزم والقدرة على بناء حلف دولي ضد طهران المحاصــــرة ومواجهتهـــا عسكرياً إذا تبين لها أن هــــذه ماضيــة قدماً في برنامج نووي عسكري؟
يستحسن لمن حاله مثل حالنا، بعيداً من مراكز المعلومات والقرار، ولا تتاح له غير تقديرات متضاربة، يغلب أن لا تتضمن شيئاً غير انحيازات أصحابها وأهوائهم، أن يتجنب الإجابة على أسئلة قد لا يكون متأكداً حتى من أنها هي الأسئلة الصحيحة. لكن، بمعونة الجهل، يسعنا تصور احتمالات ربما يغفلها العلم الوفير.
هل من المثير للسخرية جداً تخيل أن يتعايش الأميركيون والغربيون عموماً مع إيران نووية، يرجح أن تسوقها حيازة السلاح النووي بالذات، وما تمنحه من شعور بالثقة بالنفس، إلى الاعتدال في سياساتها وتعاملها مع الغرب؟ وهل من الخيال المجنح تصور أن الغرب الذي خسر إيران قبل ثلاثين عاماً وعمل على إضعافها طوال الوقت، قد «يكسبها» على غير توقع، وهي قوية وبسلاح نووي؟ يكسبها كشريك قوي لا كتابع. ليس فقط من غير المرجح لإيران النووية أن تطلق تصريحات هوجاء كتلك التي اشتهر بها الرئيس نجاد، بالعكس، ربما يقود ميزان القوى الجديد إيران إلى تحييد متزايد للعامل الإيديولوجي وعقلنة أكبر للسياسة الخارجية، وربما ظهور زعامات إيرانية أكثر براغماتية. إيران القوية التي تغلب العقلانية والبراغماتية شيئاً فشيئاً في تحديد سياساتها، يرجح لها أن تجنح شيئاً فشيئاً في الاتجاه الذي تفضله القطاعات الأكثر ثقافة ويسراً في شعبها، أي نحو الغرب القوي الثري الذي سيظهر احتراماً لقوتها، وقد يسارع إيديولوجيوه الشاطرون إلى إبراز تميزها القديم والمتجدد عن محيطها.
في المحصلة، قد يكون السلاح النووي نهاية الثورة الإيرانية وقفزة في بناء إيران كدولة قومية قوية تتحول من منازعة الغرب إلى التفاهم معه، وربما صداقته. خلاصة هذا التقدير أنه إذا صارت إيران نووية، فسوف تصير أقل عداء للغرب لا أكثر عداء. والغرب من جهته سيحرص على صداقتها أو التفاهم معها، الأمر الذي لا بد من أن يعزز الميول الثقافية القوية في المجتمع الإيراني نحو الغرب. لا يترتب على ذلك حتماً أن تتخلى إيران عن إيديولوجيتها الإسلامية. هذه منذ الآن أساس الوطنية الإيرانية، ويحتمل جداً أن يجري إبراز هذا الواقع أكثر لنكون حيال ضرب من القومية الإيرانية الشيعية، العلمانية بصورة ما. تبدو هذه المدركات متناقضة؟ بلى، لكن التاريخ مكتظ بمتناقضات كهذه. ليس أقلها العلمانية التركية الإسلامية السنية الحنفية.
وكدولة قومية قوية تفرض نفسها في نادي الدول القوية المتمتعة بالحصانة، يرجح لإيران أن تطالب وتنال مناطق نفوذ خاصة، أو يقر بنفوذها الحالي الذي يمتد إلى سورية ولبنان كمجال شرعي، فضلاً عن العراق. والأرجح أيضاً أن ترسخ دورها ومصالحها في الخليج. وطبعاً أفغانستان وبعض دول الاتحاد السوفياتي السابق.
ولا ريب في أن إسرائيل لن تكون راضية عن ذلك. هي الآن الطرف الأكثر تهويلاً من برنامج طهران النووي وتحريضاً على إيران. لكن بمظلة نووية حامية تعهدت لها بها قبل حين السيدة كلينتون، ربما تتقبل إسرائيل إيران نووية على مضض. لقد فُهم تعهد كلينتون، بالمناسبة، كمؤشر على تسليم أميركي محتمل بتعذر منع إيران من استكمال مشروعها النووي حتى ثماره العسكرية المرجوة.
كذلك من شأن التسلح النووي الإيراني أن يحفز عسكر تركيا وقومييها على تسلح مماثل.
فإذا كتب لهذا التقدير أن يتحقق، كانت محصلته القريبة تحولاً كبيراً في بيئة العلاقات الغربية – الإيرانية والأميركية – الإيرانية، يقطع مع نموذج الخصومة الذي سارت عليه هذه العلاقات منذ عام 1979. لكن على المدى الأبعد، ربما يمعن الغرب في التقلص مع انتشار السلاح المطلق وإفلات مزية الاستئثار بالردع من بين يديه. ولعل هذا ما تخشاه الكتلة الغربية، أكثر من استخدام عسكري مباشر للسلاح النووي تعرف إيران ويعرف الغرب أنه غير وارد. وتعرف إسرائيل أيضاً أن السلاح النووي للردع وليس للاستخدام. وهي لذلك بالذات تهجس به. تريد أن تحتكر مزية الردع غير التقليدي في المنطقة لنفسها، مع علمها بتراجع طاقتها الردعية التقليدية.
الخاسر الأكبر من هذا الاحتمال هو الدول العربية عموماً، والمشرقية بخاصة. ربما ستجد نفسها مسوقة إلى مزيد من التبعية للقوى الغربية و/ أو لإيران. والأرجح أن يجد الطرفان ما يرضيان به أهل الحكم في مجالنا، وتحديداً ضمان بقائهم في الحكم ضد أي خصوم داخليين محتملين من جهة، والوعد بضبط منافسيهم من الدول العربية الأخرى من ناحية ثانية. المحصلة المحتملة لذلك نظم استبدادية متعفنة لكنها تدوم، وتتخاصم ثم تتصالح في ما بينها بطرق ولأسباب يتعذر فهمها. هل يبدو أننا نسقط على المستقبل تقديراً مبنياً على وقائع الحاضر المحبطة؟ في الواقع نعم. لا نجد في أفق الراهن ما يشجع على تقدير مختلف، أقل تشاؤماً.
يبقى أن ظواهر الأمور كلها تشير إلى أن تقدير مآل التجاذب الغربي الإيراني على الصورة التي خمّنها هذا المقال هو الأضعف بين التقديرات المتداولة. ينضبط العارفون بتصور هذا التجاذب كمباراة لا بد من أن تنتهي بخاسر ورابح. أما تصور أن يربح الطرفان (تكسب إيران رهان إكمال برنامجها حتى نهاياته المرتجاة، ويكسبها الغرب شريكاً صعب المراس)، أو يخسران معاً (على ما نفضل)، فأمور لا يُسيغها أي «عصف ذهني».
فلماذا نقول شيئاً هو رجم بالغيب من طرف، ولا يعول على مفاعيل له في مجال تنبه العرب واستفاقتهم من طرف آخر؟ ليس إلا من باب تفضيل الخطأ في التقدير على الترديد الآمن لما يقال.
خاص – صفحات سورية –