نـار ورمضـاء
حسام عيتاني
لقارئ مقالات غلاة الممانعين التساؤل عن سبب ذلك الاصرار على اسقاط الانظمة «الرجعية» العربية وغير العربية في العالم الثالث، طالما انهم يعرفون مسبقا ان البديل المؤكد هو تسليم البلدان التي تحكمها تلك الانظمة الى سلطات وقوى اشد رجعية بما لا يقاس.
وفيما لا تنقص البراهين والشواهد على الأزمات العميقة التي وصلت اليها الدولة العربية، كبنية ومفهوم، بحيث باتت ولاّدة مشكلات لا أول لها ولا آخر، من الاستيلاء على المال العام الى قمع الحريات السياسية والاجتماعية، فإن عاقلا لا تراوده الشكوك في حقيقة بسيطة مفادها ان هذه الانظمة قد اجهزت، من خلال تكلسها وموتها البطيء والطويل، على امكان استبدالها من دون عنف وحروب.
وإذا كان من العسر الشديد الدفاع عن أي من الانظمة العربية الحالية وعن سياساتها الداخلية والخارجية، الا ان السؤال يبقى مشروعا عن هذا الذي يتوهم ان ما ينتظر السعوديين اذا انهار حكم الأسرة الحاكمة سيكون افضل لهم. الاقرب الى الصواب ان سلفية متشددة ستكون هي المهيأة لتولي السلطة هناك. مع بعض التنويع، يصح الامر ذاته على مصر وسوريا والاردن وأفغانستان، حيث يمكن لكاتب يرى في نفسه ممثلا لمصالح الجماهير ان يصوب على كافة الانحاء الحساسة وغير الحساسة من أجساد هذه الحكومات، لكن من سيجني ثمار سقوطها، سيسارع الى زج كاتبنا المفترض وسواه في السجن.
كانت الاحزاب الشيوعية العربية قد لاحظت قبل فترة طويلة عدم قدرتها على تولي الحكم، وعدم استعداد الشعوب العربية لتقبل حكومات علمانية تأتي من خلفيات لا تقيم اعتبارا للتشكيلات الثقافية والدينية والاجتماعية ـ التقليدية للبلدان التي تطرح نفسها لتولي السلطة فيها، ناهيك عن ضآلة حضور التيارات اليسارية على مستوى الشارع مقارنة بحضور احزاب وحركات تخاطب الوعي الديني او الطائفي او الجهوي. في محاولتها لتأطير استنتاجها هذا تأطيرا نظريا، اطلقت تلك الاحزاب على الظاهرة المذكورة اسم «أزمة البديل الثوري» في العالم العربي. واستمر النقاش يدور حول «البديل» المفقود الى ان اختفت الاحزاب ذاتها، فصرنا امام مفقودين اثنين: البديل ومن يبحث عن البديل.
بعض كَتَبة الزمن الراهن، يخوضون حربا ضروسا على الانظمة العربية القائمة، سيان عندهم وُجد البديل ام حكمت القاعدة وطالبان وأخواتهما. وقد استمرأ أكثرهم وضع العداء للولايات المتحدة وإسرائيل في مقام القضية الوحيدة التي ينبغي الانصراف الى استنباط كل انواع الترهات اللفظية بهدف جعلها فوق حقيقة الخواء العربي الداخلي. فلا بأس عند اصحاب هذه المقولة، من غض النظر عن الطبيعة الاستبدادية والتسلطية، في سوريا وإيران وغيرهما، طالما انهما تعلنان وقوفهما ضد «المشروع الاميركي ـ الصهيوني»، فيما يصبح أي تطلع الى افق يتجاوز الطائفية في لبنان تصرفا مشبوها موجها ضد المقاومة.
عليه، نصبح امام مشهد هذه مكوناته: تركيز على ضرب ما تبقى من موانع امام الفوضى والحروب الاهلية ابطاله «الممانعون» الحاملون ذرائع بعضها يعود الى رطانة يساروية طفولية وبعضها الآخر يرتكز الى خطاب قومي لم يجد غضاضة في الاندغام في الظلامية الدينية بداعي التصدي للخطر الاسرائيلي الذي تكاد تبدو المخاوف التي يثيرها اقل رعبا من اهوال ستنجم لا محالة عن سلوك الممانعين وسياسات السائرين على هداهم.
المكون الثاني من مكونات المشهد هو بروز عقلية استسلامية بمعنى نبذها للعمل النقدي كعنصر رئيس في أي تفكير ونظر سياسيين. فما يُقدم على انه دروس في كشف الجوانب الشيطانية في السياستين الاميركية والاسرائيلية، ليس في واقع الامر سوى تهرب من مسؤولية البحث عن اسباب الهزائم والانتكاسات والانهيارات العربية المتوالية.
قد يقول قائل ان من اسباب المطالبة بإسقاط الانظمة العربية التي لا يُشك لحظة في مدى سوئها وتخلفها، هو فتح الطريق امام تقدم التاريخ، وان مجيء قوى دينية تتمتع بشعبية واسعة، حتى لو كانت تجعل من مهمة الانقضاض على كل مظاهر الحداثة التي راكمتها اجيال من المتنورين العرب، هو في صميمه خطوة على طريق التطور التاريخي الذي لا بد من دفع ثمنه ولو كان هذا باهظا ومدمرا. فحركة التاريخ لا تعرف التراجع، على ما يقال، وهي تفرض الطرق الملتوية التي تسير فيها لكن الوجهة دائما هي الى الامام.
المقولة هذه او ما يعادلها ويصب في مصبها، يضع من يعنيه المستقبل العربي امام خيارين احلاهما علقم: اما المـــوافقة على سياسات الانظمة الحالية بصفتها السدود الحالية التي تدرأ السلفية والظلامية، واما الانخـــراط في مسيرة العدميين الذين لا يرون من جـــملة المشهد العربي الحالي سوى اطــرافه وحواشيه. اما المتن فليس التدخل الخارجي وحده الذي يهـــدده، بل تلـــك الرؤيـــة السطحية المبتذلة الى الــذات وإلى العــالم والتي يأتينــا بها من لم نـزود او نكلف.