نزار قباني : اللغة الثالثة والقارورة الضيقة
صبحي حديدي
حضرتْ في تأمّل نزار قباني (1932ـ 1998) لمعنى الشعر جملةُ اعتبارات نظرية معمّقة حول المحتوى والوظيفة عموماً، وغابت جملة اعتبارات فنية حول الشكل والتشكيل عموماً إيضاً. وقباني أستاذ في كتابة الشعر بوصفه ممارسة نظمية ذات سويّة فنية رفيعة أساساً، وبوصفه رسماً بالكلمات، ورقصاً بها، وعزفاً موسيقياً على آلاتها التي لا حدود لطاقاتها. وهو، في ذلك، معلّم بارع، ماهر، حاذق الصنعة، شديد الذكاء في عرض صناعته، بالغ الحساسية إزاء تقلباتها وسكونها وحركتها، عالي المراس في التنبّؤ بما يمكن أن يجعلها رائجة رابحة أو راكدة خاسرة.
كان صانعاً ماهراً، ولا يعيبه أنه واصل اتقان الصنعة، وتوفير بضاعة لا يغشّ في صناعتها، ولا يتوقف عن تحسين مواصفاتها بقدر ما أسعفته الأدوات، حتى لقد تبيّن أنّ بضاعته تلك لم تكن شديدة الرواج فحسب، بل كان الطلب عليها شديداً أيضاً. ومن جانب آخر، كانت قِيَمها تلبّي احتياجات قطاعات عريضة متعددة من العباد، اختلفوا في العمر والانتماء الاجتماعي والذوق والذائقة والحساسية والأفكار، واجتمعوا على الحاجة الجمالية، وعلى نوعية البضاعة التي تشبع هذه الحاجة.
وبعيداً عن هذه الاستعارة الصناعية، ظلّ قباني وفيّاً لمبدأ الشعر بوصفه هندسة صوتية أو صوتاً في الأساس كما يقول. هنالك ألوف الجمل الموسيقية التي لم تدوّن بعد على نوتة، وهنالك ألوف الجمل الشعرية التي لم تدوّن بعد على ورقة. قياس لا يبدو خالياً من المحتوى الديناميكي إذا تذكّر المرء أنه اعتبر موسيقى الشعر بمثابة البحر بشكله المطلق، أو الماء بشكله المطلق ، وأنّ الأوزان الشعرية ليست أكثر من عناصر في تركيب الماء وليست كلّ الماء. وثمة قَدَرية من نوعٍ ما بين الشعر والصوت، لأنّ الشعر في الأساس صوت، وهو في شعرنا العربي خاصة مخزون في حنجرة الشاعر وأذن المتلقي. فالصوت إذن قَدَر القصيدة وحتميتها، وليس بإمكاني بعدُ أن أتصوّر شكل القصيدة الخرساء. إنّ الفنون كلها تخضع لقانون القدرية، إذا كان للقدرية قانون. فالحركة قدر الرقص، واللون قدر الرسام، والحجر قدر الناحت. وأنا لا يمكنني تصوّر قصيدة تُقرأ بالأنف، أو موسيقى تتذوّق باللسان”.
والصانع الماهر هذا كان ديمقراطياً في موقفه من أشكال الكتابة الشعرية، على اختلافها. القصيدة الحرّة اجتهاد، يقول باطمئنان، وكذلك قصيدة التفعيلة و القصيدة الدائرية وقصيدة النثر، هذه التي لا يجوز لنا أن نطلق الرصاص عليها بتهمة الخيانة العظمى، أو بحجة أنها تقول كلاماً ليس له سند أو شبيه في كتب الأولين. إنّ من مصلحة القصيدة العربية أن تترك باب الاجتهاد مفتوحاً، وإلا تحوّلت إلى قصيدة فاشستية. أو إلى قصيدة من الخشب . وسوى هذا الموقف الديمقراطي، ثمة طرافة في تشبيهه القافية بإشارة المرور الحمراء، التي تفاجىء السائق، وتضطره إلى تخفيف السرعة، أو التوقّف النهائي، بحيث يعود محرّك السيارة إلى نقطة الصفر، بعد أن كان في ذروة اشتعاله واندفاعه”.
والصانع الماهر يستشعر الأنواء وسوء الأحوال الجوية، ولعله أحسن دائماً تحصين بيته كلما لاحت بوادر عاصفة ما، أو بعبارته: إنني لم أتوقف لحظة من اللحظات عن تغيير جلدي. إنني أعيش دائماً في حالة حذر وخوف من الآتي. إنني أشعر دائماً أنني أقف على أرض لا ثبات لها، وأنّ خيول الشعر تركض من حولي بالمئات. آخر تجربة لي كان مائة رسالة حب، وفيه تركت مواقعي القديمة لأخرج إلى برهة قصيدة النثر، حيث السماء أرحب، والحرية تقطف بالأصابع. بعد مئة رسالة حب (1970) سوف يفرج قباني عن مجموعة أخرى من قصائد النثر، في مجموعته كلّ عام وأنت حبيبتي (1978)، ثم على نحو متفرّق في مجموعات أخرى.
مدهش، مع ذلك، أن تلك السماء التي يشير إليها لم تكن رحبة معه كما كانت حالها مع سواه من شعراء قصيدة النثر المتمرسين، حتى أنّ بعض قصائدة النثرية لم تكن ببرودة الصقيع فحسب، بل إنّ الجملة الاستعارية فيها بلغت مستوى مفاجئاً من الفقر التعبيري والمجازي معاً. ولم يكن مألوفاً أن يقول ذلك المعلّم الماهر:
كل عام وأنت حبيبتي
أقولها لكِ بكلّ بساطة
كما يقرأ طفل صلاته قبل النوم
وكما يقف عصفور على سنبلة قمح
فتزداد الأزاهير المشغولة على ثوبك الأبيض زهرة..
ـ رسالة (2)، كل عام وأنت حبيبتي
ولقد كتب عشرات النماذج في هذا الخيار، ظلّت في معظمها تحوم على حافّة غائمة بين الشعر والنثر الشعري ولم ترْقَ دائماً إلى مستوى قصيدة النثر في نماذجها العربية المتقدمة، الأمر الذي دفعه للعودة إلى ترسانته الشخصية ذات العنوان المُشْهَر والعلامات الفارقة الصريحة، أكثر لهفة على امتلاك أرض جديدة، ولكن ليس أقلّ حذراً في الوقوف على أرض قديمة لا ثبات لها البتّة.
بيد أن المشكلة لم تكن منحصرة في اختيار سماء بدَتْ رحبة للوهلة الأولى، قبل أن يتضح أنها ضيّقة على هذا النسر الطليق. لقد أخذ يشيخ رويداً رويداً، فانحسرت وتائر المغامرة اللغوية البكر، الشابّة والطليعية والعابثة والحاذقة. وشاخ أكثر ذلك المعجم الشعري الثرّ الذي ظلّ فاتناً في ألعابه الدلالية، مفاجئاً في استنباطه لعلاقات شعورية غير مألوفة بين الأحاسيس والمفاهيم والأشياء، ونزقاً في إسباغ دفء حسّي تصويري جسور على تقاليد الغزل العربي وقصيدة الحب. باختصار، كان لا بدّ أن تشيخ هذه اللغة الثالثة التي حلم بها طويلاً، وابتكر نَحْوها وتراكيبها وقواعد صرفها واشتقاقها وإعرابها، وأرادها جسراً لردم الهوّة بين لغتين: “العربي يقرأ ويكتب ويؤلّف ويحاضر بلغة، ويغنّي ويروي النكات، ويتشاجر، ويداعب أطفاله، ويتغزّل بعيني حبيبته بلغة ثانية. هذه الإزدواجية اللغوية، التي لم تكن تعانيها بقية اللغات، كانت تشطر أفكارنا وأحاسيسنا وحياتنا نصفين. لذلك كان لا بدّ من فعل شيء لإنهاء حالة الغربة التي كنّا نعانيها. وكان الحلّ هو اعتماد لغة ثالثة تأخذ من اللغة الأكاديمية منطقها وحكمتها ورصانتها، ومن اللغة العامية حرارتها، وشجاعتها، وفتوحاتها الجريئة. إن لغتي الشعرية تنتمي إلى هذه اللغة الثالثة”.
ونزار قباني اشتغل، منذ عام 1944 كما أوضح بنفسه، على “معادلة لتحويل الشعر العربي إلى قماش شعبي يلبسه الجميع، وإلى شاطىء شعبي يرتاده الجميع”. ومنذ العام ذاته كان قد أقسم “أن لا يبقى مواطن واحد في الوطن العربي يكره الشعر، أو يستثقل دمه”. ومنذئذ لم يكفّ عن الحلم “باحتلال العالم العربي شعرياً”، وأعلن بوضوح ودونما تواضع: “منذ عام 1944، وأنا أشتغل كالنملة، وأجرّ الحروف والكلمات على ظهري، لأصنع للشعر لغة ديمقراطية تجلس مع الناس في المقهى، وتشرب معهم الشاي، وتدخّن السجائر الشعبية معهم”.
وليس دونما خيلاء نبيلة أنه أطلق صرخة انتصار ثلاثية: لقد نجحتُ، وانتصرتُ، واحتللت! وتابع يقول: “أنا مؤسس أول جمهورية شعرية، أكثرية مواطنيها من النساء. جمهوريتي هذه، تختلف عن بقية الجمهوريات في أنّ الشعر فيها هو من الممتلكات العامة، كالماء، والهواء، والحدائق العمومية، وفي أنّ اللغة الشعرية في هذه الجمهورية لا تعرف التفرقة الطبقية، أو العنصرية، أو الثقافية. أنا ضدّ كلّ غيتوات الشعر، وضدّ تحويل القصيدة إلى طروادة تعيش في حصار تاريخي مع نفسها، وضدّ أن يتحوّل الشعر إلى نادٍ مغلقٍ كنوادي البريدج، أو نوادي العراة”.
والحقّ أن قباني أحسن الإنصات إلى مجموعة الاستجابات المعقدة التي كانت تشكّل خطوط الاستقبال المحورية في الذائقة العربية العامّة أولاً، ثم في ذائقة رعيّته هو وحده خصوصاً، فاستبقها تارة حين لاح أنها تنقلب إلى مكوّنات وجدانية وجمالية وفلسفية لمشروعه الشعري؛ وطوراً سار إلى جانبها أو خلفها حين أخذت كموناتها السوسيولوجية المعقدة تجعل قصيدة مثل “خبز وحشيش وقمر” ـ في مطالع الخمسينات، للتذكير! ـ بمثابة منشور سياسي سرّي في الدعوة إلى الإنعتاق من أغلال الإرث والدولة والقبيلة، أو تحوّل قصيدة “لوليتا” إلى بيان أنثوي صاخب في حقوق بلوغ سنّ الرشد.
في المقابل، حدث مراراً (وفي الأطوار اللاحقة من شعره تحديداً) أنه انقلب موضوعياً إلى ضحية عالية الأداء، تتصالح مع انقلابات تلك المكوِّنات، أو تقصّر بعض الشيء في التقاط نبض تلك الكمونات، خصوصاً حين تسارع إيقاع الحياة المعاصرة، وتبدّلت الأمزجة والسلوكيات والعواطف، فتغيّرت معها تقاليد العشق والهوى والاحتجاج، وتحوّلت في غمرة ذلك كله أجناس التعبير وأشكاله ومعاجمه. ولم يكن غريباً أن يهتف قباني بحرقة وضراعة: “هل من الممكن، إكراماً لكلّ الأنبياء، أن تخرجوني من هذه القاروة الضيقة التي وضعتني فيها الصحافة العربية: أي قارورة الحبّ والمرأة”؟
لم يكن ذلك ممكناً بالطبع، أو لم يكن يستقيم أساساً! نزار قباني هو “شاعر المرأة”، شاء أم ابى؛ أو هو إما الشاعر التقدمي الذي حرّر المرأة، أو ذاك الرجعي الذي سجنها في قارورة عطر وجورب حرير، ولا توسّط بين الأقصيَيَن، والمعلّم نفسه كان يوفّر المادة لمزيد من غياب هذا التوسّط. إنه حليف تقدمي للمرأة حين يقول، منذ العام 1944:
يا لصوص اللحم.. يا تجّاره
هكذا لحم السبايا يُؤكلُ
منذ أن كان على الأرض الهوى
أنتم الذئب ونحن الحملُ
نحن آلات هوى مجهدة
تفعل الحبّ ولا تنفعل
ـ البغيّ، “قالت لي السمراء”
وهو حليف رجعي للرجل الشهواني، المتعجرف، البهيميّ في علاقته بجسد المرأة:
عبثاً جهودك.. بي الغريزة مطفأة
إني شبعتكِ جيفة متقيئة
إني قرفتكِ ناهداً متدلياً
وقرفتُ تلك الحلمة المهترئة
ـ إلى عجوز، “قالت لي السمراء”
وهو إيروسيّ مَرِح، جذِل، عاشق، طَرِب:
منضمّة، مزقزقة
مبلولة كالورقة
سبحانه من شقّها
كما تُشقّ الفستقة
نافورة صادحة
وفكرة محلّقة
ـ الشفة، “طفولة نهد”
وهو موسيقيّ راقص، يدندن بالكلمة، ويعزف على القاموس:
وصاحبتي إذا ضحكت
يسيل الليل موسيقى
تطوّقني بساقية
من النهوند تطويقا
فأشرب من قرار الرصد
إبريقاً.. فإبريقا
ـ ضحكة، “أنت لي”
وهو ناقد اجتماعي راديكالي، يقوّض في العمق، ويهدم ابتداء من الركائز:
ما الذي عند السماء
لكسالى ضعفاء
يستحيلون إلى موتى إذا عاش القمر
ويهزّون قبور الأولياء
علّها ترزقهم رزّاً وأطفالاً، قبور الأولياء
ويمدّون السجاجيد الأنيقات الطُرَر
يتسلون بأفيون نسميه قدر
وقضاء،
في بلادي.. في بلاد البسطاء.
ـ خبز وحشيش وقمر، “قصائد”
وربما كانت القصائد السياسية أبرز أواليات هذا الترحال أو “الترحيل” الدائب لحساسيات موقع الشاعر ـ الضحية، المُطالَب بالنطق البليغ باسم هموم الذات العاطفية وهمومها الوطنية السياسية على حدّ سواء، وبالصوت العالي الناقد حَدّ التجريح، الصارخ في البرية أبداً. وكانت المناسبة الوطنية (سواء في حال الإنتصار أو الهزيمة، الأمل أو اليأس) هي القرين الدائم لولادة قصيدة سياسية من نزار قباني: “قصة راشيل شوارزنبرغ”، بعد النكبة؛ “الحب والبترول”، “جميلة بوحيرد”، “رسالة جندي في جبهة السويس”، أواسط الخمسينات؛ “هوامش على دفتر النكسة” بعد هزيمة 1967، وصولاً إلى “متى يعلنون وفاة العرب” و”المهرولون”. وفي كلّ مرّة كان المعلّم يشدّ القوس حتى أقصاه، وكان يدمي راحتيه أكثر!
معلّم كبير باغَتَ المشهد الراكد، منذ مطلع الأربعينيات، فرمى الجمر في أحضان الكبار كما عبّر عبد الرحمن منيف، وفي مناقل الملايين من المتضوّرين جوعاً إلى دفء القَوْل كما ينبغي أن نكمل. ولقد غيّر مراراً جلده وحنجرته وحواسّه، وحلّق عالياً كما يليق بنسرٍ رائد لا يكذب أهله، وشاخ بوقار نبيل، ثم ارتحل… مشفقاً علينا، وعلى الشعر، في أغلب الظنّ!
الدستور الثقافي 30/4/2010