ثقافة الكم والحجوم
نقولا الزهر
كنت أتسكع ليلة الأمس في مواقع الأنترنت، وإذ وقع على أعيني في موقع(كلنا شركاء) مخطط لثانوية جودة الهاشمي في دمشق، وتحته مقال طويل لأحدهم يقترح هدم بناء هذه الثانوية الذي كان قد تحول في عام 1957 إلى ثانويتين (ثانوية جودة الهاشمي وثانوية ابن خلدون). ووجهة نظر صاحبنا هذا الذي يريد هدم أهم صرح تعليمي في دمشق، والذي حل محل (مكتب عنبر) الذائع الصيت، هي أن الحدائق الواسعة المحيطة بالثانويتين لا يعتنى بها وقد تحولت إلى أمكنة قذرة ومكباً للقمامة، وأن الأشجار الموجودة فيها قد صارت كالحة، وأن باحات المدرسة الداخلية ضيقة لا تستوعب عدد الطلاب الكبير، ولذلك فهو يقترح هدم البناء والاستفادة من هذه الحدائق الواسعة وإقامة بناء حديث من عدة طبقات والطابق الأرضي يكون مرآباً للسيارات والطبقات الأخرى من أجل استيعاب عدد الطلاب الكبير.
لا أدري كيف تفتق ذهن صاحبنا عن هذا الاقتراح، ولماذا لم يطالب وزارة التربية بصيانة هذا الصرح التاريخي العظيم وترميمه وتجديده مع المحافظة على شكله الخارجي وهندسته المعمارية، والاعتناء بحدائقه وإعادتها إلى ما كانت عليه في الخمسينات من القرن الماضي وإرجاع البحيرات والنوافير والطواويس الجميلة التي كانت تتبختر فيها. وإذا كان لم يعد بالإمكان أن تستخدم هذه الثانوية كمدرسة، فلماذا لا يقترح تحويلها إلى مجمع ثقافي ومتحف للتربية والتعليم ومكتبة عامة وقاعات للمحاضرات الثقافية والحفلات الموسيقية ومعارض للفنون.
إن اقتراح هدمها لم يستفزني فقط أنا كفرد كنت قد أتممت كل دراستي الإعدادية والثانوية فيها (1952-1959) حتى انتسابي لجامعة دمشق، وإنما يستفز كل الدمشقيين وبشكل خاص الألوف من الذين درسوا ودرَّسوا وكذلك يقض مضاجع الآلاف من الناس في قبورهم. إن ثانوية جودة الهاشمي في ذاكرة كل الدمشقيين، من لا يتذكر فرسان هذا الصرح الكبير: المؤسس أستاذ الرياضيات جودة الهاشمي، أستاذ الفيزياء هاشم الفصيح، والدكتور في الأدب العربي جميل سلطان، والأستاذ الكبير حمدي الروماني، اللغوي صلاح الدين الزعبلاوي والمربي الكبير شفيق السادات وأستاذ التاريخ هاني المبارك والشاعر الفلسطيني عبد الكريم الكرمي(أبو سلمى)،وأستاذ الرياضيات المشهور توفيق أبو شنب والدكتور فيكتور خياط وعاصم البخاري وابراهيم برصا وبشير صنجي وأستاذ الفيزياء أنطون مارين والشاعر شوقي بغدادي وفاروق سلكا…………………………………..
في اعتقادي إن صاحبنا الذي يقترح هدم هذا الصرح، يحيل تفكيره فقط إلى الكم والحجوم ولا يحيل إلى النوع والثقافة والتاريخ والجمال، فهو يريد أن يدفن جزءاً هاماً من تاريخ دمشق الحديث، وذهنه التجاري والحسابي يضرب عرض الحائط بقيم الناس الثقافية وبذكرياتهم ومشاعرهم…. دمشق لا تعيش بدون جودة الهاشمي وفي مكانها…
الحوار المتمدن