سيرة الأمم
محمد غيث الحاج حسين
في كتابه “الدولة القطرية” الذي صدر منذ أكثر من ربع قرن، استشرف المفكّر جورج طرابيشي باكراً مصير الدولة القطرية العربية ومآل أحلام الوحدة العربية من خلال سيرورة التقطير الجارية على قدم وساق رغم كلّ شعارات وبلاغات الخطاب القوميّ العربيّ بشقّيه الرسميّ والمعارض. وما بدا منطقياً وعقلانياً لجهة توافر جميع الأسباب الداعمة لتحقق الوحدة العربية المأمولة، كان الواقع يؤكّد المرّة تلو المرّة أنّه أضغاث أحلام غير قابلة للتحقّق إن لم تكن مستحيلة بالشكل الذي تمنّاه مفكّرو الفكر القومي العربي ومنظّروه.
كتاب “الجماعات المتخيّلة – تأمّلات في أصل القومية وانتشارها” الصادر حديثاً من تأليف بندكت أندرسن وترجمة لافتة من المترجم السوري المعروف ثائر ديب، يعدّ من أمّهات الكتب في ميدان الدراسات النظرية التي تعنى بنشوء فكرة الأمّة وولادة القومية. تنبع أهمّية الكتاب من كونه مثَّل حجّة قويّة ومتماسكة في النقاش النظريّ، انحازت لتواريخ البلدان المهمّشة خارج المركز الأوربي مخالفةً التيّار العامّ للدراسات الفكرية الأوربية التي بقيت وفيّة لقيم المركز الأوربي الذي تنتمي له، الأمر الذي يفسّر انتشاره الساحق خارج أوربا لاحقاً. بدايةً يعرف أندرسن الأمة بأنها “جماعة سياسية متخيّلة، حيث يشمل التخيّل أنّها محدّدة وسيّدة أصلاً”. ومن هذا التعريف يعود إلى القرن الثامن عشر في أوربة الغربية الذي شهد ولادة فكرة القومية كجزء من انقلاب ثوريّ طال البنى والأسس المعرفية والوجودية التي قامت عليها المجتمعات الأوربية. فمع انتشار الأفكار التحرّرية والعقلانية على صعيد الفلسفة والاجتماع، ومع الثورة الصناعية والاكتشافات الجديدة لأصقاع العالم، انحسرت الطرائق الدينية في التفكير وحلّ الأرضيّ، الدنيويّ، محلّ المتعالي في تحوّل حاسم سيغيّر وجه العالم. ولذلك يبحث أندرسن في القومية من خلال جذورها الثقافية، فـ”القومية لا ينبغي أن تفهم عبر ربطها بالإيديولوجيات السياسية المتبنّاة بوعي، بل عبر ربطها بالمنظومات الثقافية الكبرى التي سبقتها والتي ظهرت إلى الوجود انطلاقاً منها وضدّها في آن معاً”. وتتمثّل الجذور الثقافية لفكرة القومية من خلال أمرين: الأوّل وهو الجماعات الدينية التي جعلت من اللغة نسقاً مقدّساً لا يمكن المساس به ينظم مقولاتها الفكرية الدينية ويحدّد نظرتها إلى العالم من خلال مرجعية متعالية ماورائية، وتضمّ أتباعاً متعدّدي الأعراق والنَّسَب، بصرف النظر عن انتماءاتهم الجغرافية واللغوية. والأمر الآخر هو الممالك السلالية التي حكم ملوكها وأباطرتها في أوربا بقاعاً عديدة ومتباعدة أحياناً، فيها بشرٌ متعدّدو النسب والعرق واللغة يجمعهم حكم ملك بعينه.
ومع التحوّل الأوربيّ الكبير في وعي الذات والعالم أمكن لفكرة الأمّة أن تولد على أنقاض أوهام الجماعات الدينية والممالك السلالية على نحو تستفيد فيه من تركتهما الاجتماعية والسياسية. يضاف إليهما قضيّة على غاية من الأهمية وهي الإدراك الجديد للزمن بوصفه الجزء المفصلي من تاريخ البشر الدنيوي على الأرض، إدراك حملته وعمّقته الرواية والصحيفة، التي قال عنها هيغل إنّها الصلاة اليومية لرجل العصر الحديث، بوصفهما الأكثر قدرة على عكس صورة الانخراط الفعليّ والواقعيّ للبشر في الزمن التاريخيّ المعاش والبعيد عن أيّ استيهامات ميتافيزيقية غير أرضية “فالرواية.. تَنِزل إلى الواقع وتنسرب فيه بهدوء وبصورة مستمرّة، خالقة تلك الثقة اللافتة بجماعة غُفْل تشكل غفليتها العلامة المميزة للأمم الحديثة”.
واللافت أنّ الممالك السلالية الأوربية لم تيأس ولم تأفل بسهولة، لأنها اهتدت إلى حلّ مؤقّت يدعم وجودها ويثبته في وجه موجات القومية الشعبية المستعرة بحماس، وتمثّل هذا الحلّ في اختراع قومية رسمية قادرة على استيعاب المدّ القوميّ واحتوائه، لإبقائه تحت سيطرتها : “المفتاح في تحديد موقع القومية الرسمية – ذلك الاندماج المراد بين الأمّة والامبراطورية السلالية – هو أن نتذكّر أنّها ظهرت بعد تكاثر الحركات القومية الشعبية في أوربا منذ عشرينات القرن التاسع عشر، وكردّة فعل عليها”. ومن هذه العلاقة المعقّدة بين الممالك السلالية والقومية الصاعدة نشأ الارتباط الغامض بين القومية والعنصرية الذي ينفيه أندرسن تماماً، لأنّ العنصرية عبّرت عن إيديولوجية طبقة مسيطرة وليس عن إيديولوجية أمّة كحال القومية، فكانت العنصرية الكولونيالية “واحداً من العناصر الكبرى في ذلك التصوّر لامبراطورية حاولت أن تجمع بين الشرعية السلالية والجماعات القومية”.
رغم المنشأ الأوربيّ الغربي لفكرة الأمّة في القرن الثامن عشر، إلا أنّ نموذجها الإرشاديّ ساح وجال لاحقاً عبر تجلّياته العديدة في بقاع العالم المختلفة بلغاتها وتاريخها وبكلّ شيء تقريباً عن المركز، وتلقّفت هذه المناطق الفكرة بحماس بالغ ونجاح باهر ربما لم يخطرا على بال الكثير من الأوربيين، وساعد على انتشارها التطوّر الهائل والسريع في وسائل الطباعة التي وفّرت للرأسمالية مصدراً كبيراً من مصادر الربح فتحوّلت إلى صناعة جماهيرية حقيقية، خاصة مع حركة الإصلاح الديني وانسحاب اللاتينية كلغة رسمية مقدّسة أمام لهجات محلية متنوّعة يتحدّث بها عشرات الملايين من الأوربيين كانوا عطاشاً للتغيير والقراءة والكتب. وتحوّلت الثورة الفرنسية مثلاً إلى حدث ثوريّ ليس في فرنسا فقط بل في جميع أنحاء العالم من خلال الكتب والمطبوعات التي حملت أفكارها وروّجت لها، وصارت هذه الثورة الأوربية الخالصة، عنصراً محرّضاً لثورات مشابهة في أمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية وغيرها من مناطق العالم، ودعوة حارّة لإنشاء أمم ودول مستقلّة لها قوانينها ودساتيرها الخاصة.
في فصل أخير وختاميّ بعنوان “ترحال وتهريب” يرصد بندكت أندرسون ارتحال كتابه “الجماعات المتخيّلة” في طبعاته المختلفة عبر لغات العالم، صدر بتسع وعشرين لغة في ثلاثة وثلاثين بلداً. فتحوّل الكتاب دون إرادة من صاحبه إلى كتاب مدرسيّ يعتبر مرجعاً هامّاً وأساسيّاً في مجاله بالنسبة للطلاب والأساتذة عدا عن المهتمّين بالموضوع، مع أنّ عدداً محدوداً من الجامعات تولّى طبعه. وفي منتصف التسعينات شهد الكتاب ذروة انتشاره في أوربا الشرقية التي اكتمل انقسامها واتخذت شكل الدول القومية الحديثة التي طالما حلمت بها. الطبعة العربية الأولى من الكتاب صدرت من مصر وكانت مقرصنة، أما الطبعة الحالية فتكاد تكون خالية من الأخطاء وقدّم لها عزمي بشارة الذي قدّم قبلها للطبعة العبرية من الكتاب الذي رعت طباعته جامعة إسرائيل المفتوحة. يلاحظ المؤلف أنّ غالبية الطبعات أرادت أن تسم الكتاب بسمة محلية خاصة من خلال الترجمة أو من خلال الغلاف الذي حرص الكثير من ناشريه اليساريين، وهي سمتهم العامّة، على جعله يرتبط بتاريخ البلد المترجم إليه ويعبّر عنه، وهو تكريم لائق يستحقّه كتاب رائد، من الصعب تجاوز أطروحاته الفكرية الغنيّة في السنين القادمة، ويحتاج إلى مزيد من الدرس والتحليل فلا يقرأ كأيّ كتاب عاديّ.
الجماعات المتخيلة: تأمّلات في أصل القومية وانتشارها
تأليف : بندكت أندرسن
ترجمة: ثائر ديب
اصدار: شركة قدمس للنشر والتوزيع – بيروت – 2009
موقع الآوان