ماذا بقي لمسيحيي المشرق؟
سليمان يوسف يوسف
“رد على د. محمد حبش”
في السابع عشر من نيسان الماضي، احتفل السوريون بعيد استقلال دولتهم عن الانتداب الفرنسي عام 1946.احتفل المثقفون والكتاب والسياسيون بطريقتهم الخاصة بهذه المناسبة الوطنية. فمنهم من كتب مقالاً يشيد بأبطال الاستقلال. ومنهم من أدلى بتصريح طالب باستكمال مسيرة الاستقلال والحرية بمنح الشعب السوري حرياته السياسية والديمقراطية والفكرية وحل مشكلة الأقليات على أسس ديمقراطية وطنية عادلة.ومنهم من أقام ندوة حوارية حول تجربة “الحكم الوطني” وإخفاقاته المستمرة في إحقاق التنمية الوطنية الشاملة. وأنا أتابع مما كتب استوقفتني مقالات كتبها المفكر الاسلامي والنائب في البرلمان السوري الدكتور (محمد حبش)، رئيس مركز الدراسات الاسلامية في دمشق، لما جاء فيها من مغالطات سياسية وتاريخية كبيرة، فضلاً عن أنها تروج لـ”فكر أسلامي”،في ظاهره يبدو وسطيا اعتداليا منفتحاً، لكن من حيث الجوهر والهدف لا يختلف عن خطاب أكثر التيارات والأحزاب الاسلامية أصولية وتعصباً وانغلاقاَ.في مقال “يوم الجلاء في ضمير رجال”،المنشور في صحيفة (تشرين) السورية الحكومية، يقول د.حبش”علينا أن نبدأ الحديث عن أبطال سورية من اللحظة التي استفاق فيها الأمل العربي القومي على يد رسول الله محمد بعد أن كانت الأمة العربية متاعاً موروثاً للأمم تناوب على ابتزازه المستعمر البيزنطي والروماني واليوناني والفارسي، حين أعلن رسول الله بنفسه عن بدء إرادة التحرير والخلاص في بلاد الشام… وبهذا المعنى فإن من الصواب أن نتذكر أن أول بطل استقلال في تاريخ سورية كان هو النبي العربي محمد صلى الله عليه وسلم”.
اذا كان ولا بد من الحديث عن الابطال الأوائل للاستقلال السوري والتذكير بهم،فمن الأولى أن نتحدث عن مقاومة (السريان)، سكان سوريا الأوائل،للاحتلال الروماني الظالم.وقد تميزت البطلة”فبرونيا”باستبسالها في الدفاع عن الوطن السوري،حيث استشهدت عام 303م وهي تقاوم دخول الجيش الروماني مدينة “نصيبين” السريانية السورية.وقد أصبح قبرها في مدينة القامشلي المحاذية لمدينة “نصيبين” مزاراً مقدساً يحج اليه سريان سوريا.أما بالنسبة لحروب الرسول(محمد- ص) وغزواته،بدءاً من غزوة (ودان) وانتهاء بغزوة (تبوك)،لم تكن حروباً وطنية أو قومية،وانما كانت حروباً اسلامية،ضد المشركين والكفار ولأجل نشر “رسالة الاسلام” وإخضاع شعوب المنطقة للحكم الاسلامي.فبعد وفاة الرسول، واصل من تولى”الخلافة الاسلامية” حروبهم وغزواتهم،خارج الحجاز وشبه الجزيرة العربية.وتلك الحروب لم تقتصر على سوريا وبلاد الشام وبلاد الرافدين وانما امتدت شرقاً وغرباً وصولاً الى بلاد فارس ومصر و اسبانيا،التي حكموها نحو ثمانية قرون.
صحيح،ثمة علاقة عضوية وتاريخية بين العروبة والاسلام، الذي خرج من رحمها.وصحيح أيضاً أن الإسلام، بالمحصلة، أفاد كثيراً العرب وخدم العروبة.لا بل أكاد أجزم بأن لولا “الإسلام” لما كنا وجدنا اليوم “دولاً عربية” في سوريا وبلاد الشام وبلاد ما بين النهرين وفي مصر وفي القارة الافريقية عموماً.لكن ما هو غير صحيح، أن نصف الرسول بالبطل القومي أو السوري لمجرد كونه عربياً،وهو لم يدخل سوريا إلا بحكم عمله في التجارة قبل بدء الدعوة الاسلامية.والأهم من كل هذا، أن الرسول الكريم في كل مواقفه وأحاديثه لم يظهر انحيازاً للعرب ولم يدعي أنه جاء ليقيم لهم دولة أو كيان سياسي عربي.ولا يخفى على الدكتور،وهو الباحث الاسلامي المهتم، بأن العديد من الشخصيات الغير عربية قادت الحروب والغزوات الاسلامية خارج جزيرة العرب وحققت انتصارات سياسية وعسكرية كبيرة للمسلمين،منهم(طارق بن زياد- بربري)- طبعاً قول حبش بأن البربر عرب هذا كلام مردود عليه-، وسلمان الفارسي، و صلاح الدين الأيوبي (كردي).
وقد فات الدكتور حبش، بأن الفكر القومي العربي لم يتبلور على شكل مشروع سياسي إلا في أواخر القرن التاسع عشر، ومعظم رواده كانوا من المسيحيين المشرقيين الذين حثوا العرب المسلمين على التحرك لطرد المستعمر العثماني.ومازالت “العروبة”،كمشروع سياسي،محاربة ومرفوضة من قبل “تيار اسلامي” عريض في المجتمعات العربية.فمن وجهة نظر أنصار هذا التيار، بينهم علماء مسلمين(د.يوسف القرضاوي)،أن حضارة العرب لم تكن يوماً عربية، وإنما كانت إسلامية،وأن”القومية العربية” بدعة غربية استعمارية أطلقت لتفتيت “الأمة الاسلامية”، وقد روج لها الاستعمار الصليبي، وأن “نصارى الشام” هم الذين تبنوها وعمموها.فيما يخص عدم اعتراف(د.حبش) بـ”الخريطة السياسية” التي حددتها اتفاقية “سايس بيكو”1918 (الانكليزية الفرنسية) للمنطقة، بحجة أن هذه الاتفاقية جزأت “الأمة العربية” الى كيانات سياسية صغيرة.أقول،بعد نصف قرن من “الحكم الوطني” ومن الشعارات القومية والخطابات السياسية الجوفاء للقوميين العرب، باتت معظم هذه الكيانات الصغيرة مهددة بالانقسام والتفكك، ليس فقط على أساس عرقي أو اثني، وإنما على أساس طائفي ومذهبي وديني ومناطقي.لهذا، من المفترض أن يسارع الدكتور حبش وكل الوطنيين الشرفاء الى إدانة الحكومات الوطنية التي أنعشت، في مجتمعاتنا المشرقية، مختلف الانتماءات البدائية المقابل الدولة(الطائفية والمذهبية والاثنية والقبلية والدينية.)،وعليه الاعتراف بفضل المستعمرين (الانكليز والفرنسيين) على تحرير الشعوب العربية من الاستعمار العثماني الذي استمر نحو أربعة قرون باسم “الخلافة الاسلامية”.
يقول (د.حبش) في سياق رده على المحامي (ميشيل شماس)،(المنشور في نشرة كلنا شركاء الالكترونية):” مع إيماني بأن السوريين أمة تامة، ولكنني في الوقت إياه مؤمن بأن السوريين جزء من الأمة العربية، وباختصار فأنا مؤمن بأن السريان والكلدان والإيبلائيين والبابليين والفينيقيين والعبرانيين والفراعنة والأمازيغ هي قبائل عربية عمرت هذه الأرض التي تمتد من المحيط إلى الخليج منذ فجر التاريخ،…”. من الواضح أن الدكتور حبش ينطلق في رؤيته لتاريخ وأصول شعوب المنطقة من النظرية القومية العربية التقليدية، أو بالأحرى من( أكذوبة التاريخ الرسمي العربي)، التي سقطت منذ زمن طويل، وتزعم بأن”كل الأقوام والشعوب التي تسكن حالياً في ما يسمى بالمنطقة العربية أو (الوطن العربي) هي قبائل عربية خرجت من بطن شبه جزيرة العرب”.حقيقة، أنه لأمر مؤسف أن يشط الدكتور حبش الى هذا الحد عن الحقيقة والموضوعية في قراءته “الارادوية” لتاريخ المنطقة،والوقوع في هكذا مغالطات سياسية وتاريخية كبيرة.فوفق الكثير من المصادر التاريخية والعلمية أن السريان(الآشوريين)وبقية الشعوب والأقوام التي ذكرها لا صلة لها،عرقية أو اثنية، بالقبائل العربية،إلا في اطار فرضية”الشعوب السامية”التي يرفضها شخصياً. قبل أشهر فقط اكتشفت (البعثة الأثرية الهولندية) في موقع(صبي الأبيض) شمال مدينة (الرقة) السورية، قطع أثرية آشورية في محيط (القصر الآشوري) يعود تاريخها إلى حوالي 9000عام.أي قبل أن يكون للقبائل العربية أي وجود في سوريا وبلاد الرافدين.وحول الفاصل الحضاري والجغرافي بين (العرب) و (السريان)- أو( الآشوريون) كما يطلق عليهم باللاتينية- أحيل الدكتور حبش الى كتاب في غاية الأهمية”ثقافة السريان في القرون الوسطى” للكاتبة الروسية( نينا بيغوليفسكايا). ترجم الكتاب من الروسية للعربية الدكتور(خلف الجراد)، وهو بعثي سوري،ترأس تحرير جريدة تشرين السورية.جاء في الكتاب ص38: “قادت الطرق التجارية السريان بعيداً عن (بلاد ما بين النهرين) وقد تنافسوا في هذا المجال الحيوي مع الفرس، لكن (العرب) فقط تمكنوا من اضعاف النفوذ (السرياني) الى حد ما، مع انهم ( أي العرب) لم يقدروا على الحلول محلهم تماماً… وقد وقع العرب القاطنون بين ايران وبيزنطة تحت تأثير (السريان) الذين استطاعوا تنصير جزء من قبائلهم الشمالية..وبفضل السريان دخلت التعاليم الانجيلية الى جنوب الجزيرة العربية أيضاً…”.
لا جدال على أن قبائل عربية،مثل قبيلة بني تغلب وطي والمناذرة، وأقوام أخرى دخلت “المسيحية” على المذهب (السرياني الأرثوذكسي). بيد أن هذا لا يبرر القول عن تلك القبائل والأقوام بأنها سريانية الانتماء والهوية والقومية.فقد احتفظت تلك القبائل العربية بالكثير من خصوصيتها الثقافية العربية.تلك القبائل دخلت “الاسلام” الأقرب اليها لغة وثقافة. وهذا يفسر تلاشي المسيحية واختفائها من (الجزيرة العربية).يؤكد هذه الحقيقة التاريخية المؤرخ السرياني(ابن العبري)الذي عاش في القرن الثالث عشر الميلادي،في كتابه”تاريخ مختصر الدول”.قطعاً،هذا لا يعني عدم وجود مسيحيين عرب.اذ بقيت بعض القبائل العربية على ديانتها المسيحية،مثل الغساسنة،المنتشرين في الأردن وسوريا.
بلا ريب،مع انتشار “الاسلام”، وتحت ضغط الاجراءات، الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدينية والسياسية، التي فرضتها السلطات العربية الاسلامية على الشعوب التي وقعت تحت حكمها، دخل الكثير من مسيحيي المشرق،من السريان وغير السريان، (الاسلام).حول هذا الموضوع، يقول(أليكسي جورافسكي)- وهو باحث روسي متخصص في تاريخ الشعوب والحضارات- في كتابه( الإسلام والمسيحية) ص178: ” مع الرسوخ السياسي واللاهوتي للدين الإسلامي، تحولت الكتل الأساسية لمسيحيي الشرق الأدنى الى الاسلام، أما الذين بقوا أوفياء لدينهم فقد استعربوا عدا الأرمن، الذين لم يخضعوا عملياً للاستعراب. وحافظ على سماتهم الإثنية الخاصة الى حد كبير أو صغير كل من الآشوريين(السريان)، الأقباط، الموارنة، ولكنهم تكيفوا مع (الواقع العربي – الإسلامي) في الميدان اللغوي، محتفظين بلغاتهم الأصلية القديمة في اطار الليتورجيات الكنسية”.
لا ننفي فضل العرب والمسلمين على تخليص”مسيحيي المشرق” من الاحتلال الفارسي والروماني.وقد رحب السريان (الآشوريون) في سوريا وبلاد الرافدين بجيوش المسلمين.لكن قطعاً الترحيب بالعرب المسلمين لم يكن على أساس تحولهم الى محتلين جدد،وانما على أساس محررين لهم من الظلم الروماني والفارسي.وقد قدم المسيحيون أموالاً ضخمة لقادة الجيوش العربية الاسلامية تعويضاً لهم عن حروبهم وطلبوا منهم أن يعودا الى من حيث أتوا.لكنهم خيبوا آمالهم ورفضوا ترك البلاد لأهلها الحقيقيين العاجزين عن مقاومة الجيوش الاسلامية الضخمة.بعض المصادر تتحدث عن مقاومة الأقباط للحكم العربي الاسلامي الذي اقامه (عمرو بن العاص) في مصر،لكن أخفق التمرد القبطي بسبب ارسال مزيد من الجيوش الاسلامية لمصر.يستشهد (د.حبش) في الدور الانقاذي للمسلمين بكلام للبطريرك زكا الأول عيواص، الذي يأخذ من دمشق مقراً له.وهنا أتساءل:هل من قيمة سياسية أو معرفية لكلام رجل دين يعيش في دولة لا ديمقراطية وفي ظل حكم عربي اسلامي؟.وهل يتوقع من البطريرك زكا أن يتحدث بخلاف الرأي العربي الاسلامي حول تاريخ المنطقة؟.والسؤال الكبير والمهم الذي يطرح نفسه بقوة في سياق هذه القضية،هو: ماذا أبقى (الإسلام) لمسيحيي المشرق؟.وما هو الوضع القانوني والحقوقي للأقليات المتبقية منهم؟.في ظل دساتير وتشريعات اسلامية تتضمن قوانين ومواد تنتقص من حقوق غير المسلمين وتنال من مكانتهم الوطنية وتحيلهم الى مواطنين من الدرجة الثانية أو الثالثة.وليس من المبالغة القول:أنهم (المسيحيون المشرقيون) بشكل من الأشكال مازالوا “أهل ذمة”بالمعنى الديني والسياسي،يعيشون في خوف دائم على الوجود والمصير.لهذا،كان الأجدر بالدكتور،وهو النائب في مجلس الشعب، بمناسبة العيد الوطني لسوريا، أن يقترح على حكومته خطوات عملية من شأنها أن تعزز وجود الآشوريين(سريان/كلدان) في وطنهم الأم سوريا للحد من نزيف هجرتهم منه.
أن قول (د.حبش) “بأن السوريين جزء من الأمة العربية”قول ينطوي على مغالطة سياسية كبيرة، لأن هناك من السوريين من ليسوا عرباً، مثل الآشوريين(سريان) والأكراد والأرمن والشركس والتركمان. جدير بالذكر،أن أحد الأسباب الأساسية لانخراط أبناء الأقليات الدينية والاثنية في الحزب (السوري القومي الاجتماعي) هو ابراز الحزب الأصول الفينيقية والآرامية والسريانية الآشورية لسوريا الكبرى. فهؤلاء يرون في القومية العربية إلغاءً لهم ونفيا لخصوصيتهم التاريخية والثقافية.في العراق في زمن الدكتاتورية، فرضت “العروبة”،كهوية وانتماء،على الآشوريين(سريان وكلدان)، أما اليوم،وقد أتيح لهم التعبير عن هويتهم الحقيقة دون خوف، صرحوا بقوميتهم الآشورية وتم تثبيتها في الدستور العراقي الى جانب هويات الشعوب العراقية الأخرى.إذا كانت بعض السياسات الشوفينية والاجراءات الخاطئة لحزب البعث العربي الاشتراكي الحاكم،أفرزت ” مشكلة كردية” وأخرى”آشورية” في سوريا.من المؤكد إذا ما ساد وحكم “الخطاب الاسلاموي”، الذي يروج له أخينا وشريكنا في الوطنية (د.محمد حبش)، والذي يتقاطع في النهاية مع شعار”الاسلام هو الحل”سينتج،عاجلاً أم آجلاً، “مشكلة مسيحية” في سوريا، وهذا أخطر ما في الموضوع.وخوفاً من هذا الخطاب (الاسلاموي الأصولي)،باتت غالبية مسيحيي المشرق ترى في “الاستبداد” القائم،على علاته ومساوئه، ضمانة لحمايتها وأمنها من التطرف الاسلامي، والضمانة لبقاء هامش الحريات الدينية والفردية التي تتمتع به.وقد تعززت هذه القناعة بعد سقوط “الدكتاتورية” في العراق وتعرض مسيحيي هذا البلد الى عمليات تطهير عرقي وديني على أيدي الاسلاميين المتشددين،في ظل ديمقراطية المليشيات الطائفية والمذهبية والعرقية.
ختاماً،اقول للأخ الفاضل الدكتور محمد حبش: أن تاريخ “سوريا الكبرى”، بحدودها التاريخية والثقافية المعروفة التي أخذت اسمها عن السريان، لم يبدأ مع العرب، ومن المؤكد أنه لن ينته عندهم، وعجلة حركة التاريخ تدور.
آشوري سوري.. مهتم بقضايا الأقليات
ايلاف