صفحات مختارة

“المشروع القومي”… يدور حول نفسه!

د.خالد الحروب
الفصل الأول في كتاب “المشروع النهضوي العربي” الذي يؤسس لرؤية قومية جديدة وجماعية حول كيفية الخروج من المأزق التاريخي الذي يواجه العرب يحمل عنوان “في ضرورة النهضة”. وفي هذا الفصل توصيف لحالة “التراجع” العربي والسياق الإقليمي والعالمي للتدهور، وتحليل لواقع غياب أي “مشروع نهضوي معاصر” (مع الإشارة والإشادة بمشروعين للنهضة يتوقف عندهما النص هما مشروع محمد علي في القرن التاسع عشر ومشروع جمال عبدالناصر في النصف الثاني للقرن العشرين، وسنناقش هذا الاعتبار الخلافي لاحقاً). ثم يحدد الفصل طبيعة المشروع النهضوي وأهدافه وشكل العلاقة بين عناصره. يبدأ الفصل بوصف الحالة العربية الراهنة على أنها “تراجع” في محاولة تخفيفية ولنفي الإحباط الذي قد يرافق أي توصيف قاسٍ وحقيقي مثل القول إنه واقع “تخلف”. وهذه نقطة ثانوية قد لا تكون مهمة، ولكن الذي يلح على الذهن هو التساؤل عن خط المرجعية حضاريّاً وزمنيّاً وربما مكانيّاً الذي يُقاس على أساسه “التراجع”، تراجع عن ماذا؟
بيد أن أحد الموضوعات المهمة والكبرى والخلافية التي يتضمنها هذا الفصل وتعتبر أيضاً فكرة أساسية في المشروع برمته هي اعتبار أن النهضة العربية في العصر الحديث شهدت محاولتين رئيسيتين، متساويتي الأهمية تقريباً كما يُقرأ من النص. المشروع الأول هو المحاولة التحديثية التي قام بها محمد علي، لكنها أجهضت بسبب التدخل الخارجي والشروط والديون الأوروبية التي فرضت عليه وأجبرته في النهاية على التوقف عن محاولته تلك. أما المشروع النهضوي الثاني فيتمثل في المشروع الناصري وثورته التي، بحسب النص، “أحدثت مكتسباتها استنهاضاً لا سابق له لكل قوى الأمة وطموحاتها التحررية والقومية”. وهنا من المفهوم بطبيعة الحال أن يحتل المشروع الناصري في أي رؤية قومية عربية موقعاً مركزيّاً ومتقدماً. ولكن ليس من المفهوم أن تُدرج الناصرية بكل خلافيتها في نص يروم تقديم “مشروع نهضوي عربي” يستلهم مقبولية التيارات السياسية والأيديولوجية الأساسية الأخرى في العالم العربي. وكما ذكرنا سابقاً فإن ادعاء النص التعبير “الجماعي” عن تيارات ورؤى متناقضة قاد إلى تقديم رؤية توافقية، أو بالأحرى تلفيقية، حاولت أن ترضي الجميع بصيغ دبلوماسية فضفاضة. بيد أن تلك “الدبلوماسية” لا يمكن أن تستطيع التعمية على المنعطفات والمحددات الأساسية في المصائر السياسية والأيديولوجية، ولذا يشكل إدراج المشروع الناصري كحقبة أساسية وثانية لـ”المشروع النهضوي العربي” اللحظة التي تفترق عندها كل التيارات الأخرى مع التيار القومي. فالتيار الإسلامي، الذي يغازله النص أحياناً، لكن يرتبك أمامه في أحايين أكثر، لن يقبل باعتبار الناصرية الإنجاز النهضوي العربي الوحيد في القرن العشرين، فكلاهما ناصب الآخر العداء عقوداً طويلة. كما أن التيار الليبرالي، على ضعفه، لن يقر على الأغلب، التقييم القومي في النظرة إلى المشروع الناصري وإعلائه إلى المستوى الذي يشير إليه النص، وخاصة أن كثيراً من الليبراليين يحمّلون الناصرية مسؤولية مباشرة في وأد المرحلة الليبرالية على علاتها في مصر، ومسؤولية غير مباشرة في إغلاق الطريق أمام أي نهوض ليبرالي في المنطقة. وبكلمة واحدة، من حق التيار القومي اعتبار ما يشاء وترسيم خطوط المستقبل لنضالاته بالكيفية التي يرتئيها. ولكن ليس من حقه افتراض أن ذلك الترسيم مقبول من الجميع ويشكل أساساً لبناء “كتلة تاريخية” كما يأمل.
تستحق معالجة نص “المشروع النهضوي العربي” للإسلاميين ومشروعاتهم في المنطقة العربية وقفة مفصلة، فهي معالجة تتسم بالحيرة والارتباك. فهناك ابتداءً هاجس التميز حيث يجتهد النص لرسم خطوط واضحة تعبر عن الموقف القومي، لكن هناك أيضاً هاجس التجميع والتنظير لبناء “كتلة تاريخية” تكون الرافعة للمشروع. وفي نفس الوقت هناك الإرث التاريخي العدائي بين القومية العربية والإسلامية “الإخوانية”. وإضافة إلى هذا وذاك هناك افتراض ضمني في النص وعند كاتبيه بأن الرؤية القومية هي الطريق الأساس وما خلاها لا يتعدى كونه وجهات نظر أو رؤى سوف، أو يجب، أن تصب في المسار والأهداف التي يرسمها القوميون. ويتكشف ذلك في مواقع عديدة في النص، وخاصة عند الاضطرار للتلميح أو للحديث عن الإسلاميين. ومن ذلك ما يرد في هذا الفصل من تسجيل للمقاومات السياسية والفكرية الكبرى التي ردت ورفضت السيطرة الغربية، أو حالة الضعف العربي العام أو الهزيمة أمام إسرائيل. ويورد النص أنه رداً على ذلك كله كانت هناك “ثلاثة ردود فكرية وسياسية نهضوية… هي المشروع النهضوي في القرن التاسع عشر، والفكر القومي المعاصر بين الثلاثينيات والخمسينيات من القرن الماضي، ثم المشروع القومي الناصري في النصف الثاني من القرن نفسه”. ونلاحظ هنا أن النص أضاف مرحلة ثالثة للنهضة العربية ووسطها ما بين مشروع محمد علي ومشروع عبدالناصر، وهي حقبة الفكر القومي بين الثلاثينيات والخمسينيات. وهذه الإضافة محيّرة لأنه لم يلحقها تفصيل، كما أنه لم تتم ترقيتها لتعتبر مشروعاً موازيّاً للمشروعين المذكورين، وربما كان السبب في افتقادها لتعبير سياسي ومشروع على الأرض ينقلها من مجرد “النشاط الفكري” إلى التجسد السياسي. ولكن لنقل إنه لم يكن المقصود هنا الإشارة إلى ما يمكن اعتباره “مشروع نهضة” بل أوسع من ذلك إلى ما يقع تحت وصف “رد الفعل الفكري والسياسي”. وفي هذه الحالة، وهي على الأغلب ما قصده النص، ثمة مشكلة أخطر تبرز في وجوهنا وهي إقصاء ردود الفعل غير القومية من التحليل التاريخي للعقود قيد التأمل. أين رد الفعل الاشتراكي في بلدان مثل سوريا، والعراق، والجزائر، وحتى اليمن الجنوبي، وهو رد الفعل الذي حمل شعارات مناهضة للإمبريالية وأعلن الوقوف ضد الأطماع الخارجية؟ هل نفهم هنا أن الرؤية القومية تعتبر الفعل الاشتراكي وحقبته ومناطق تجسده غير جدير بأن ينتمي إلى أي فعل نهضوي، أو أقله أن يُصنف كرد فعل فكري وسياسي على ما واجهه ويواجهه العالم العربي؟ والحذف الثاني هو رد الفعل الإسلامي الأصولي. فكما نلاحظ تتوقف ردود الفعل الفكرية والسياسية عند المشروع الناصري، ومعنى ذلك أنه منذ وفاة عبدالناصر سنة 1970 والعالم العربي ليست فيه ردة فعل فكرية وسياسية قوية وعلى الدرجة التي تؤهلها للاندراج إلى جانب ردات الفعل الثلاث المذكورة في النص. ونعرف جميعاً أنه منذ منتصف أو نهاية السبعينيات يسيطر المشروع الحركي الإسلاموي يبرز في جزء مهم من الرأي العام والشارع العربي. وكان حريّاً بالتحليل القومي أن يذكر هذه الحقيقة الموضوعية حتى وإن اختلف معها. أما إن لم يعتبرها ردة فعل سياسية وفكرية نهضوية تقدمية فلنا أن نفهم أنه يعتبرها ردة فعل رجعية ولا تنتمي إلى النهضة، لكنه آثر أن يسكت عنها كليّاً ويترك الحقبة الزمنية من السبعينيات وحتى الآن تعاني من فراغ “ردات فعل”، وهذا يشير إلى ارتباك في التحليل وعدم وضوح رؤية. ومرد هذا، مرة ثانية، إلى المداراة الفكرية والأيديولوجية التي تورط فيها نص “المشروع النهضوي العربي”، فلا بقي يعبر بوضوح ومن دون مواربة عن رؤية قومية، ولا هو قدم مشروعاً “جبهويّاً” تتساوى فيه التيارات والقوى السياسية والأيديولوجية، وليست فيه أفضلية قيادية للرؤية القومية.
الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى