دور التعليم في تنمية الموارد البشرية العربية
د. عبدالله تركماني
في العالم العربي، الذي يحاول منذ القرن التاسع عشر تلمس بداية نهضة حقيقية، جدير أن يُنظر للتعليم كهدف ومنهاج ووسائل، باعتباره الأساس في تنمية الرأسمال البشري للأمة. إذ ليس من شك في أنّ مستقبل العالم العربي سيكون أكثر إشراقاً وأبعث على الأمل كلما ارتقى مستوى التعليم، وكلما زاد تدريب وإعداد التلاميذ علمياً وتربوياً. ويندرج هذا الجهد ضمن إطار محاولة توسيع خيارات الإنسان العربي، خاصة الحصول على المعرفة وضمان مستوى معيشي لائق، من خلال الأبعاد الثلاثة التالية:
(1) – تكوين القدرات البشرية، من خلال تحسين المستوى الصحي والمستوى المعرفي وتجويد المهارات الفردية والجماعية.
(2) – استخدام البشر لهذه القدرات للمساهمة في الأنشطة الإنتاجية والإبداعية والثقافية والاجتماعية والسياسية.
(3) – استخدام مستوى الرفاه البشري الذي وقع بلوغه لإثراء القدرات البشرية والقدرات المعرفية.
وفي الواقع، إنّ مجتمع المعرفة اليوم لا يقوم بدوره إلا على أساس منظومة واستراتيجية للعلم والمعرفة من خلال التعلم مدى الحياة، أي الاستثمار في الموارد البشرية. إذ تظل مقولة التعليم هو الحل، للتعاطي المجدي مع التحديات الكونية، صحيحة. لأنه هو الذي يتمكن من الإسهام في تنمية بشرية كفيلة ببعث الحيوية والتجدد في مجتمعاتنا. ويمكن تحديد أبعاد التحرك المستقبلي كما يلي:
(1)- البعد الأفقي، ويعني امتداد فرص التعليم للصغار والكبار، أينما كان موقعهم الجغرافي، مما يقلل إلى أقصى درجة ممكنة من التفاوتات الجغرافية ( المدن والقرى والبوادي ) والاقتصادية بين الأطفال والشباب كافة، ويندرج هذا البعد في شعار منظمة اليونسكو ” التعليم للجميع “.
(2)- البعد الرأسي، ويشير إلى إتاحة فرص التعليم إلى أطول فترة ممكنة من السنوات بعد مدة التعليم الأساسي، إذ المأمول أن يصبح التعليم الثانوي أساسياً، وأن يتاح مزيد من الفرص للتعليم الجامعي. ويتضمن هذا البعد توفير فرص التعليم والتدريب لقوة العمل، مما يتيح لها التطور والتكيّف مع مستلزمات التنمية المستدامة في تجددها وتوظيفها للمنجزات العلمية والتكنولوجية المتاحة في مجتمع المعرفة.
(3)- بعد العمق في العملية التعليمية، وهو المتصل بالتطوير الكيفي لمناهج التعليم وأساليبها، ويعتبر من أهم أبعاد العملية التعليمية في تعليم المستقبل، حيث يتألف من العناصر التالية:
(أ)- تكوين الإنسان الكلي، ويقصد به ما تؤدي إليه العملية التعليمية من إنضاج لمختلف قدرات المتعلم العقلية والروحية والاجتماعية والمهارية والجمالية.
(ب)- الشمول المعرفي، ومن مكوناته الإلمام بالمضامين والمفاهيم في منظومة المعارف الإنسانية في شمولها، بما يتطلبه ذلك من التركيز على كل نظام معرفي ومفاهيمه الأساسية ومناهجه العلمية.
(ج)- تنمية التفكير، ويرتبط بالتأكيد بالجانب العقلي وتنمية القدرات العقلية في التفكير العلمي بمختلف مداخله ومناهجه ومقارباته وتعقده، وهذه التنمية هي مفتاح التعامل في الحياة المعاصرة، نظراً لما يزخر به مجتمع المعرفة من منجزات علمية وتكنولوجية. وبمعنى آخر، تستهدف العملية التعليمية لا مجرد حفظ المعلومات واجترارها، إذ أنّ تكنولوجيا المعلومات كفيلة بتوفير ذلك، وإنما تدور أساساً حول مهارات المعرفة العلمية في طرائق الدراسة والفهم والتساؤل والتنظيم والتفسير.
ويتوقف التوظيف الفعال للتكنولوجيا، في التعليم والتعلم واستخدام شبكات الحاسوب، على تأسيس هذه الذهنية العلمية في التفكير وتنوع مصادر المعرفة، ومن خلال هذا الجانب في عمق العملية التعليمية يتسع المجال للتميّز والتفوّق والإتقان.
(4)- البعد الاجتماعي- الثقافي، وهذا يُعنى بإسهام التعليم في ترسيخ أساسيات مشتركة لثقافة المجتمع وقيمه، وإمكانيات التفتح على ثقافات العالم.
ولا شك أنّ من واجبات النظرية التربوية، بما فيها المناهج الدراسية ووسائلها، أن تلتفت باهتمام إلى آثار مجتمع المعرفة على التعليم، خاصة وأنّ التغيّر الاجتماعي- الثقافي أصبح سريعاً متجاوزاً لتغيّر الأجيال، فالبيئة المحيطة بالفرد كثيراً ما تتغيّر جذرياً خلال فترة حياته، ويصبح تعلّم الأمس أقل إمكانية للتوظيف في حياة الغد. ومن هنا تبرز أهمية التعليم المتمركز حول المشكلات، والقدرة على الوصول إلى مستويات عليا من التفكير المجرد، وترسيخ المفاهيم النسبية مما يوفر فرصاً لممارسة تغيير النظرة إلى القضايا والمشكلات تبعا لمجرى تطورها.
وكي لا نستمر في إعادة إنتاج الفراغ نقول: المشكلة التي نواجهها الآن هي أنّ اللحظة التي يعيشها العالم لن تسمح إطلاقاً بأي قدر من الخمول والتراخي، لذا علينا أن نعيد ترتيب أوراقنا بحثاً عن آفاق مغايرة.
العملية تحتاج إلى جد واجتهاد ومثابرة وعمل، لأنّ مجتمع المعرفة لا يرحم ومن يتأخر عن الركب سينساه الزمن إلى الأبد، والأمر بكل أبعاده وخلفياته يحتاج إلى دراسات وإمكانيات ووسائل وإرادة قوية من جميع مكونات المجتمع، سلطة ومؤسسات عامة وخاصة وشعب.
إنّ المستقبل للمجتمعات التي تشارك في توظيف وإنتاج المعرفة بكفاءة في شتى مناحي الحياة، فالمعرفة ثروة وقوة في آن واحد.
إنّ العرب أمام فرصة وتحدٍ في الوقت نفسه، والنتيجة مرتبطة بما سنفعله الآن وفي المستقبل. والمستقبل ليس مكاناً نذهب إليه، بل خيار نصنعه بأنفسنا اعتماداً على كيفية استثمارنا لطاقاتنا ومدى قدرتنا على الاستفادة منها ومن تجارب الآخرين.
كاتب وباحث سوري مقيم في تونس
(*)نُشرت أيضا في صحيفة ” المستقبل ” اللبنانية – 4/5/2010.