سجال حول المواطنة
مازن كم الماز
أعترف أن هذه السطور استفزتها مقالة الكاتب اللبناني علي حرب في الملحق الثقافي لجريدة النهار في شهر شباط فبراير الماضي بعنوان “الأصولي هل يمكن أن يكون مواطنا ؟” , يبدأ الإقصاء في المقالة من عنوانها كما هو واضح , و يمكننا بكل بساطة أن نفهم , من مقالة الكاتب و من الاستخدام الدارج للفظ و مفهوم المواطن , أن مفهوم المواطن لا يعني الإنسان عموما و لا يتطابق معه , أنه يقوم على التحديد و التقييد , لدرجة الإقصاء , و ليس الإباحة , فليس كل إنسان مواطنا , هناك شروط محددة بدقة وفق الإيديولوجيا البرجوازية السائدة لتعريف المواطن , إنه المكافئ البرجوازي للتعريف الستاليني للبروليتاري , أو التعريف الأصولي للمسلم أو التعريف الصهيوني لليهودي , تعريف يقوم على إقصاء كل ما هو غير برجوازي في وجود الإنسان الفعلي , في البشر الفعليين لصالح الإنسان البرجوازي , و لذلك فإن هذا المواطن ليس إنسانا حرا أيضا , إنه خاضع مثله مثل سابقيه لسلطة ما و سادة ما , هذا هو ما يميز هذا المواطن البرجوازي عن كل هؤلاء , أي أسماء السادة و نوع السلطة التي يخضع لها , أو يفترض أن يخضع لها عن طيب خاطر ليستحق هذا “اللقب” , و الشرعية التي يمنحها هذا اللقب , لقب المواطن , لا تعود للإنسان الخاضع أي لحقوقه المفترضة بل للسلطة التي يفترض أن يخضع لها . يقول أنطونيو نيغري و مايكل هاردت في كتابهما الإمبراطورية أن “المفهوم الحديث للأمة ورث الجسد الوراثي للدولة الملكية و أعاد اختراعها في ثوب جديد” ( الإمبراطورية , إصدار العبيكان ص 152 ) , لقد حافظت هذه العملية “على الكيان المادي للعلاقة مع الحاكم” ( ص 153 ) لكن في سياق هذه العملية نجد أن “نظام الرعية الإقطاعي أخلى مكانه لنظام المواطن القائم على الانضباط لدى تحول الأفق الوراثي إلى أفق قومي” ( 1 ) . إن المواطن هو قن سابق يناضل من أجل الجمهورية , من أجل سيادة الطبقة الثالثة سياسيا و اجتماعيا , ضد سادته السابقين , لكنه أيضا فيما بعد البروليتاري الذي يمارس عمله الشاق بسعادة أو دون تذمر على الأقل , و الذي يلبس البزة العسكرية ليقتل من يؤمر بقتله من خصوم برجوازية بلده أو ليموت بأمر من جنرالات الجيش و الحكومة البرجوازيتين بشجاعة . لقد تصور كل نظام طبقي , و منظروه , العالم , الطبيعي و الإنساني على شاكلة هذا النظام الطبقي , صور أفلاطون و أرسطو العالم و الإنسان نفسه على شاكلة تراتبية المجتمع العبودي , و كذلك صورت الكنيسة العالم و الإنسان على شاكلة تراتبية المجتمع الإقطاعي , و بدورهم أقام البرجوازيون و منظروهم أيضا المجتمع حول فكرة مركزية بالنسبة للبرجوازية و نظام إنتاجها : العقد , الشكل الأساسي للعلاقة بين البشر في السوق الرأسمالية , حتى أن جون راولز و هو يتحدث عن العدالة في كتابه الشهير لا يمكنه تصور المجتمع إلا على أنه شركة مساهمة محدودة , و هو يحول بذلك مفهوم العدالة إلى حالة قانونية لمنع الغش بين الشركاء , لكن هذا العقد الاجتماعي حتمي أو إلزامي بطبيعته و لا يحتاج لا مصادقة البشر الخاضعين له أو حتى معرفتهم به و نتيجته التي تتمثل في إلغاء حرية البشر الفردية إلزامية هي أيضا , إنه ليس حرا كالعقد الذي دعا باكونين مثلا لبناء التجمعات الإنسانية على أساسه . هكذا يحقق الأفراد “حريتهم” من خلال “التعاقد الحر” داخل السوق الرأسمالية , فالبروليتاري “حر” ببيع قوة عمله و الرأسمالي “حر” أيضا بشرائها و تحويلها إلى ثروة , يصر منظرو الرأسمالية أن رأس المال يشارك في هذا العقد بصفة فرد عادي , “يتساوى” مع البروليتاري في حرية التعاقد و في شروط هذا العقد . هذه هي الحرية التي تقدمها البرجوازية للبشر : إما حرية الموت الهادئ من الفقر و المرض أو حرية الموت الصاخب كثائر عدمي . في الحقيقة تجري محاولة إنتاج “المواطنين” أو “المواطنة” كمركز لإنتاج نظام رأسمالي محلي و عالمي على قدم و ساق على جبهتين : أولا محاولة تدمير عناصر الهوية التقليدية قبل الرأسمالية عن طريق عملية “علمنة” تنقل الحقيقة من الكتاب المقدس إلى وسائل التعبير عن الفكر البرجوازي “العقلاني” وسط قناعة البرجوازية و منظريها بأن الخطاب العلماني المعارض قد جرى احتوائه أو القضاء عليه بعد سقوط الأنظمة الستالينية في شرق أوروبا , و ثانيا عن طريق عملية تدمير شاملة لأية وسائل حماية اجتماعية للأفراد تقف في وجه تحولهم إلى بروليتاريين , هذا لا يعني فقط القضاء على كل أشكال التضامن الإنساني قبل الرأسمالي التي يتنازل فيها الأفراد أيضا عن حريتهم لصالح المؤسسات السائدة قبل الرأسمالية ( الدينية أو العشائرية أو الإقطاعية ) في مقابل درجة متفاوتة من الحماية الاجتماعية , بل و بشكل أساسي القضاء على كل أشكال الحماية الاجتماعية أو الأمن الاجتماعي الدولتي , أي التي كانت توفرها دولة الرفاه الأوروبية و الروزفلتية و الدولة الشرقية الاستبدادية و الدولة الشمولية الستالينية ( 2 ) . خلافا لكل مزاعم اختفاء البروليتاريا , فقد قامت الرأسمالية مع صعود النيوليبرالية بأكبر عملية في التاريخ لإعادة تحويل البشر أو معظم البشرية إلى بروليتاريين لا يملكون سوى قوة عملهم لبيعها , ربما بشكل يتجاوز حتى حجم نفس العملية في فترة التراكم الرأسمالي الأولي . يصبح الجميع تقريبا أشبه بملكية خاصة لرأس المال , يجري “تحرير” البشر عمليا من أية إمكانية للعيش بعيدا عن عبودية العمل المأجور و خصخصتهم لصالح رأس المال , ليصبحوا سلعا , كأي شيء آخر في هذا العالم , الأرض , السماء , الجنس , الفن , باختصار كل شيء أصبح سلعة لا يملك سوى رأس المال القدرة على شرائها . هناك إذا مسائل جديدة تنهك عقول المثقفين و ذكاءهم , فما دام لا يمكن إلا الخضوع للبرجوازية كما اكتشف ذلك غالبية المثقفين المؤمنين بالفكر السائد فلماذا لا نمارس هذا الخضوع بصمت و حتى برغبة ؟ يجرؤ المثقفون البرجوازيون الليبراليون على طرح مثل هذه الأسئلة الغبية لأنهم مضطرون في النهاية لتأكيد و إعادة تأكيد أن البشر يعيشون أحرارا عندما تحكمهم البرجوازية و عليهم أن يتجاهلوا في سبيل راحتهم الفكرية هذه الواقع و أي نقد مناهض للبرجوازية . يمكن تعديل عنوان مقالة علي حرب ( 3 ) ليصبح أكثر واقعية على الشكل التالي “لماذا يرفض الأصولي , أو الكثير من البشر الذين لا يجدون أمامهم إلا وعدا غيبيا غامضا و غير محدد من السماء ليحتجوا من خلاله و دون طائل على واقعهم , أن يصبح بروليتاريا خانعا , لكن هذا يبقى السؤال الأقل وطأة , فالسؤال الفعلي الذي يخفيه الكلام عن المواطنة هو الخوف من أن يعلن البشر جميعا دون أية شروط بشرا جديرين بالحياة تماما كما خلقتهم الطبيعة , أن يحل الكلام عن حرية الناس مكان الكلام عن قمعهم و تهميشهم , عن اجتماعهم القائم على اتفاق حر طوعي ( كما تحدث عن ذلك ميخائيل باكونين ) مكان العقد البرجوازي الإلزامي و “الديمقراطي” في نفس الوقت , هذه هي النتيجة “الحتمية” الأخرى أيضا لعملية تحويل البشرية إلى بروليتاريا , إلى ملكية خاصة لرأس المال المحلي و العالمي , و لتحطيم كل الأشكال السابقة ( الرجعية و المعادية للإنسان خاصة التي تكفر حريته ) لحمايته اجتماعيا مقابل خضوعه “الطوعي” لتلك المؤسسات قبل الرأسمالية أو الدولتية الاستبدادية………………
(1 ) طبعا لا يساوي نيغري و هاردت بين نظام الرعية الإقطاعي و المواطنة البرجوازي رغم أنهما يعتبران , عن حق , أن الفارق بينهما في الكم و ليس في الكيف
( 2 ) ليس المقصود هنا طبعا الدفاع عن أنظمة رأسمالية الدولة الاستبدادية أو الشمولية الستالينية و لا حتى الدولة التي تثير خيال بعض المثقفين البرجوازيين الصغار أي دولة الرفاه الروزفلتية , بل على العكس , إن قيام كل هذه الأنظمة و في نفس الوقت تقريبا بتبني السياسات النيوليبرالية يمثل حلا منطقيا للتناقضات الشكلية بينها و تطورا منطقيا لأشكال الدولة الرأسمالية على اختلافها
( 3 ) الغريب هنا أنه من المفترض أن علي حرب يستخدم حفريات فوكو الفيلسوف الذي كرس حياته و إنتاجه لتعرية الإقصاء و فضحه حتى في أكثر ممارساته صمتا , هنا يستخدم علي حرب مقاربات فوكو و دريدا لممارسة الإقصاء ضد آخر ما و نفي حقه في الاختلاف , دفاعا عن أحادية قديمة جديدة
خاص – صفحات سورية –