الهامشيون والتغييرالقادم_ وجهة نظر
ديالا بشارة
كل نظام اجتماعي سياسي هو نتاج فعل اجتماعي تأريخي, بما فيها الراسمالية, أي أنه يولد في شرط تأريخي وينتهي في شرط تأريخي آخر. أي انه فعل إنساني قابل للتغييرمن خلال تطور القوى المنتجة وداخل عمليات الصراع الاجتماعي الاقتصادي وفي عملية تناقض ما بين العمل وراس المال الذي اخذ بعداً دولياً.
لا يوجد نظام اجتماعي خارج سياق التأريخ وحركة الناس الواعية, صراع القوى الاجتماعية الفاعلة فيه, صراع الطبقات, الفاعل السياسي, الدولة, الآليات الفاعلة في الصراع واستقطاباتها سواء على الصعيد المحلي او الدولي.
لقد طورت الراسمالية القوى المنتجة عبر صيرورتها الطويلة وخندقت البشر وعمقت الانقسام الاجتماعي بوتيرة عالية, يوما بعد يوم, وخلفت وراءها كوارث للفئات والشرائح الاجتماعية العاملة في بلدان المركز, كالبطالة والتهميش والاغتراب والعزلة الاجتماعية والانقسام الاجتماعي, كما دمرت مجتمعات بالكامل في البلدان الفقيرة عبر تحالفات عميقة ما بينها وبين حكومات هذه البلدان من خلال نهبها المنظم الذي افرز بدوره انعدام المساواة في توزيع الدخل وترك بعضها في حالة حروب وفقروتهميش وضياع. وفوضى وغياب الدولة ومؤسساتها وتركها لتتحول إلى دول فاشلة تماما.
ان السياسات القائمة على الربح لم تلتفت إلى الشرائح الاجتماعية المتضررة من عملية توسع راس المال وتخلخل البنى الاجتماعية وتفكيك العلاقات الاجتماعية ودمارمئات الملايين من البشروانحدارهم نحو الهاوية. ان الراسمالية كنظام انقسام اجتماعي ينحو نحو تفكيك البنى الضعيفة من أجل الهيمنة أوالسيطرة وتأكيد انفرادها في قيادة العالم ومنع اي دور وطني ينحو نحو البناء الداخلي. كما تسعى جاهدة نحو تخريب الاجيال الشابة المقبلة على الحياة عبر تشجيعهم في الانغماس في الملذات الحسية السطحية كالمخدرات والكحول والجنس الخالي من العواطف وتهميشهم من الداخل ليكونوا أداة طيعة وضعيفة لتنفيذ ما يراد منهم.
إن أحداث ايلول المصنعة والمدروسة بدقة اعطت الراسمالية هامش واسع من الحركة لإدارة الحروب لحاجة السوق للتوسع الاقتصادي المعولم نتيجة تداخل مصالح الصناعات العملاقة في البعد السياسي كالمجمعات الصناعية العسكرية وامبرطوريات الاعلام والشركات الصناعية العملاقة.
ان احداث ايلول هي سلسلة في حلقة استكمال النهج القديم القائم على عسكرة العالم للسيطرة على مجمل الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية على الصعيد العالمي.
كما اخضعت كل العلاقات الإنسانية لقانون السوق, وقادت كل التحولات النوعية على الصعيد العالمي من خلال جملة أشياء خرجت منها, لكنها مستقلة عنها كالثورة المعلوماتية والعولمة المالية, الحاسوب والدش والخليوي والانترنت وغيرها من ثورة الاتصالات التي قربت الشعوب والعلاقات الإنسانية في العالم.
لقد حاولت البلدان المتخلفة في الاطراف العمل على بناء الثورة الوطنية الديمقراطية في بدايات القرن العشرين من اجل تطوير القوى المنتجة في داخلها والسيطرة على التراكم الداخلي والتخلص من الاستقطاب على الصعيد العالمي, ولكنها لم تستطع ان تحل التناقض الحقيقي ما بين العامل وغربته عن المنتج, وبقي الاستلاب السلعي هو الحلقة التي لم تستطع ان تنجزه كلا الثورتين الروسية والصينية مما أدى إلى عملية اندماجهما في النظام الراسمالي من جديد.
لقد أضحى واضحاً أن الراسمالية ليس لديها جديداً تقدمه أوتفعله سوى زيادة الإنتاجية وإغراق السوق بالسلع من أجل تنافسية أعلى للحصول على اعلى معدل من الارباح وهو مستمرفي إعادة إنتاج واقع اجتماعي غير متوازن. إن عدم التوازن أخذ صيغ مختلفة عما كان عليه في السابق, لانه التنافس الحاد انتقل من المحلي لسيود العالم كله, وليدفع البشرية نحو عدم الاستقراروتعميق الاستقطاب والعولمة التنافسية ومركزية الاستلاب الذي يميز الراسمالية المسيطرة على مجمل التطور المادي في التقسيم الدولي للعمل.
لا يمكن اختصارالراسمالية كنظام في مفهوم السوق, بل تحديد جوهرالراسمالية في ما وراء ذلك, كربط الاشياء ببعضها البعض, كصراع القوى واستقلاليتها, والسياسات الحاملة لها وآليات التراكم, الدول, آليات تجاذباتها والافرازات التي تتم عبرهذه المواجهات في كل مكان من العالم.
لهذا يمكننا أن نقول, انه لا يمكن إرساء عالم جديد إلا بمشاركة قوى اجتماعية فاعلة, تأخذ بعد ما بعد وطني, بعد عالمي, من شرائح اجتماعية مختلفة نمت في ظل الراسمالية وأصبحت جزء من تكوينها ولكن منفصلة عنها, كالمفكرين والكتاب, سياسيين, علماء, ممثلين على خشبة المسرح وفي فضاء السينما, موسيقيين, فنانين, موظفين صغاروكبار, عمال, مشردين وجياع مع بقايا الشرائح الاجتماعية المتدنية الدخل التي جاءت من افرزته الراسمالية في سياق تطورها ووحشيتها. بالإضافة إلى قوى اجتماعية منظمة لها فروع في كل العالم مثل منظمات السلام, منظمات مناهضة الحروب, حقوق الإنسان العالمية, الدفاع عن البيئة, الخضر, مكافحة الجوع والتشرد ومنظمات مكافحة الكوارث والامراض المزمنة. إن هذه المنظمات بالرغم من عدم استقلاليتها النسبية, لكن, يمكنها أن تلعب دوراً كبيراً في المستقبل لما لها ولافرادها من قدرة على استخدام التكنولوجيا الحديثة, وتأكل مصالها الفعلية يوما بعد يوم. فهي تستطيع استخدام الانترنت والاعلام والهاتف الجوال والتلفزيون باقنيته الكثيرة بطريقة حديثة تماما. ولديهم القدرة في العمل على تحريك الناس وتنظيمها في مشروع طويل كمناهضة العسكرة والحروب والتسلح وقدرتهم على تفعيل مشاركة قطاعات واسعة من الافراد المعزولة عن شؤون الحياة العامة.
إن صنع التأريخ يحتاج إلى قوى اجتماعية فاعلة مؤمنة برسالتها, تدرك الابعاد الحقيقية في رسالتها, التي تأخذ بعد ما بعد وطني ومحلي لاهدافها, لتصل إلى بعد عالمي, كوني, رافضة للاستقطاب الناتج عن العولمة وعسكرة الحياة البشرية تحت مسميات مختلفة.
ان الحركات الاجتماعية ونضالات البشر على الصعيد الكوني ضعيفة البنى والتنظيم والتواصل في الوقت الحاضر, ولن تصل في الافق المنظورإلى ما نصبوا إليها. أن هذا المقال البسيط يقدم دعوة لجميع المهمشين في العالم للعمل على تنظيم انفسهم في حلقات اجتماعية او مجموعات فاعلة لتتواصل عبر الوسائل الحديثة كالانترنت والاعلام وغيرها, والعمل بهدوء على بلورة تصورات تعمل على احداث اختراقات فعالة وفعلية في تنظيم عملهم وتكريس مشروعية نضالية حقيقية لها بعد عالمي وهم إنساني عام.
إن الراسمالية هي نتاج واقع تأريخي, صيرورة طويلة, متمرحلة, لكن وفق تراتبية شديدة القسوة متمثلة بالسلطة والمال والنفوذ, ومستمرة على مستوى الوعي الاجتماعي في إعادة إنتاج واقعي اجتماعي غير متوازن. لكن يمكن تجاوزها من خلال الاستفادة من تناقضاتها الموضوعية واستثمارهذا التناقض في البحث عن سبل تكريس واقع اجتماعي حقيقي قائم على إعادة فرز الاشياء وتكريس ديمقراطية اجتماعية وسياسية تصب في المحصلة العامة في جعبة الناس العاديين. لقد مرت البشرية كما ذكرنا في مراحل متعددة, والرأسمالية واحدة من هذه المراحل التي يمكن تجاوزها كمرحلة في التأريخ الإنساني العام. لا يمكننا التكهن بالمرحلة المقبلة ولكن يجب ان نعمل على تفعيل حركة المجتمعات الإنسانية وفق مصلحة إنسانية مشتركة تضع آليات مشروع يسعى للوقوف في وجه الاستقطابات السياسية والعسكرية في مقابل بديل إنساني يعمل في البحث عن وسائل تكرس المساواة بين البشر. يجب ان لا نغفل ان حركة المجتمع وآلياته هي مشروع عمل, عملية بناء لا يمكن ان تتم بالارغام أو بلوي عنق التأريخ أنما بفعل سلمي طويل الامد, يعمل على تطويرمصالح الفئات المهمشة وخلق ثقافة إنسانية تعترف بالفرد والآخرفي الحياة. ثقافة إنسانية معززة بديمقراطية اجتماعية وسياسية نابذة للحروب والاضطهاد والظلم, تسعى في الانتقال بالإنسان من الضرورة إلى فضاء الحرية الجميل, متدرجة, تعمل على ترسيخها في وجدان الإنسان منذ نعومة اظفاره. لا يمكن إرساء عالم جديد, ثقافة إنسانية نابذة للحروب والعسكرة وديمقطراطية اجتماعية وسياسية حقيقية إلا على المستوى الكوني. إن النضالات المجتزئة لم يعد لها تلك الفاعلية, لهذا فإن توحيد القوى المهمشة يتم عبر استراتيجية فاعلة تعمل ضد كل اشكال الاستلاب والاضطهاد وتنحو نحو عالم خال من الحروب والاستهتار بالبيئة والارض وحق بقية الكائنات الشريكة لنا في الحياة في البقاء بيننا واحترام وجودها.
مع الاسف لم تتوحد النخب في صراعها الطويل مع الراسمالية في موقف ما موحد, بل على العكس, تشرذمت وتفتت. هذا الانقسام منح الراسمالية القدرة على توسيع انفرادها في الهيمنة والسيطرة بكل الوسائل على العالم. لهذا أننا مطالبون مرة أخرى ان نعيد النظرفي نضالاتنا الحالية ورسم معالم لعالمنا القادم القائم على احترام إنسانية الإنسان والحيوان والنبات والأرض وحق الجميع في العيش بسلام على هذه الأرض.
خاص – صفحات سورية –