عندما “يرتاح” الأميركي
هيثم مناع
قال المندوب الاميركي في مجلس الأمن الإسبوع الماضي بأن وفده لن يوافق على استصدار أي إجراء رسمي من قبل مجلس الأمن لا تشعر بلاده بارتياح بشأنه. وفي استخفاف بعقول كل الناس، اعتبرت الإدارة الأمريكية هذا الحصار دفاعا عن النفس للمحتل الإسرائيلي الذي يعاني حرب استنزاف صاروخية، ويبدو أن من الواجب علينا، شكر الرئيس الأميركي لأنه لم يذهب إلى حد وصف هذه الصواريخ بأسلحة الدمار الشامل ولم يطلق على اسماعيل هنية لقب الكيماوي واكتفى بتصنيفه إرهابيا.
بدأ الحصار على قطاع غزة قبل وفاة الرئيس الفلسطيني عرفات وقبل انتاج “صواريخ” تعادل كفايتها العسكرية المدافع الصغيرة الحجم في القرن الثامن عشر، وقبل انتخاب غالبية من حركة “حماس” في التشريعي الفلسطيني، وقبل “الإنقلابين” في غزة والضفة.
فمنذ بداية الانتفاضة الثانية، باشرت السلطات العسكرية الإسرائيلية تشديد إجراءات الحصار الدوائي والغذائي واعتمدت سياسة تحطيم الشجر والمساكن وتنظيف وتجريف مناطق واسعة غيرت الخريطة البيئية والزراعية للقطاع. هل من الضروري التذكير بما حطمته القوات الإسرائيلية من أجل عملية عسكرية لاختطاف عسكري في 2006؟
في بداية الانتفاضة الثانية، أرسلت اللجنة العربية لحقوق الإنسان البروفسور ليون شفارتزنبرغ (الشخصية المدنية الأوروبية المعروفة ووزير الصحة الفرنسي السابق وهو من عائلة يهودية) في بعثة تحقيق إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة، وبعد عودته وباقي أعضاء البعثة قال لي: “لا أدري ما هي القوة التي تجعل أهل غزة يستمرون في البقاء على قيد الحياة، أتركني شهراً في غزة وسترجع لتجدني بلحية طويلة وحزام ناسف ومع جماعة حماس، يوجد في غزة كل ما يدفع للموت، لذا من الأشرف أن يموت الإنسان شهيدا على أن يموت كجيف الحيوانات”. إن وجود غزة محاصرة في أعلى منطقة كثافة سكانية في العالم تم تحطيم طاقاتها الذاتية بحرب ممنهجة لم تتوقف منذ 1967 دليل على حاجة العنجهية الإسرائيلية إلى غيتو محاصر لتفريغ شحنات التخمة في التسليح، التخمة في الدلال، التخمة في المساعدات ، التخمة في الدعم الغربي، التخمة في القتل، والرغبة الباثولوجية لحرمان الآخر من الحد الأدنى لإنسانيته باسم ضرورات الأمن الإسرائيلي.
ففي هذا النوع من الكيانات السياسية القائم على تزاوج منطق الإسطورة غير العقلاني مع القوة بأجلى منتجاتها العلمية التدميرية، تشكل الشراسة ضرورة. أما الإنسانية فحالة مستحيلة عندما يتعلق الأمر بالآخر. عندها يمكن المواطن اليهودي أن يقول: نحن من الدم نفسه، وقد بنينا ذاكرة مشتركة، استهلكنا لحم الأضحية نفسها، ورقصنا معا على جثمان الضحايا. إن الدخول في هذا المنطق بشكل متطرف وأهوج، هو أيضا، بل قبل كل شيء، نتيجة طبيعية لتنصيب الإسرائيلي فوق الخطأ وفوق المحاسبة واعتباره الكائن الجدير بالحياة على الأرض الفلسطينية.
عندما يصدر البرلمان الأوروبي قرارا عن حقوق الإنسان في مصر فيزج فيه زجا موقفا عدائيا من غزة، وعندما لا تستطيع منظمة مثل “هيومان رايتس وتش” أن تطلق اسم جريمة جسيمة واحدة على كل ما تفعل إسرائيل ولا توصي في تاريخها كله بربط المساعدة العسكرية والمالية الاميركية لإسرائيل بأي شرط يتعلق بحقوق الإنسان الفلسطيني. عندما ينسحب أكثر من قاضٍ من مجرد فكرة تقديم الحكومة الإسرائيلية لمحاكمة دولية تعتمد الشرعة الدولية لحقوق الإنسان وترفض الرضوخ لأي طرف سياسي؟ عندما يقول لك رئيس كتلة برلمانية في الاتحاد الأوروبي: “قلع شوكك بيديك، لن أضع حدا لمسيرتي السياسية من أجل غزة حماس”؟، عندما تعربد وزيرة الخارجية الاميركية على مسؤولي الأمن في مصر والسعودية والإمارات والأردن ولا تستطيع توجيه ملاحظة مؤدبة لمسؤول إسرائيلي. عندما يوزع الرئيس الاميركي الشوكولا بالعلم الإسرائيلي ويعتز بكونه أكثر من خدم الإسرائيليين منذ 1948، يصبح من الصعب فهم ما يمكن أن يعنيه الارتياح الاميركي في غزة؟ ارتياح للموت أم عربدة في مجلس الأمن وشعور بالانتقام من شعب لم تنجح كل هذه الوسائل المقدمة للدولة العبرية من أجل إدخاله في أنابيب الترانسفير أو تحويله لهندي أحمر؟
(رئيس اللجنة العربية لحقوق الانسان – باريس)