شكل واحد للصواب
ميشيل كيلو
يقال دوما في نظم وأزمنة الشمولية: ليس هناك غير طريقة واحدة وحيدة تعبر الحقيقة عن نفسها من خلالها، هي بالتحديد الطريقة التي يتبناها المسؤولون ويفصحون عنها في تصريحاتهم ومواقفهم وممارساتهم، التي تحيط بسائر مجالات الحياة العامة . هذه الطريقة تضمر وحدها الحقيقة بنسبة مائة في المائة، وكل طريقة غيرها لا بد أن تكون خاطئة بالنسبة ذاتها، وضارة بمصالح الوطن والمواطن، فلا مفر من التصدي لها: أليست تقوض الحقيقة وتقود إلى الضلال، الاسم الآخر للخراب العام؟
إذا ما تأملنا هذه النزعة على مستوى المسؤول والسلطة، وجدنا الحقيقة تعبر عن نفسها في أشخاص بعينهم تضمهم دائرة صغيرة ومقفلة، ينفردون من دون جميع خلق الله بالحكمة وبعد النظر، ويمتلكون صفات تمكنهم من تمييز الحق من الباطل، ومعرفة أسرار ومفاتيح الواقع، والتفريق الصائب دوماً وفي كل وقت بين الصواب والخطأ، ويعبرون في كل كلمة يقولونها، أياً كان نوعها وكانت مناسبتها، وكل سلوك يصدر عنهم، مهما كان موضوعه وكانت أهميته، عن كلية الحقيقة، التي يستحيل عليها البقاء خارج أقوالهم وسلوكهم، مثلما يستحيل لأحد غيرهم تملك أي جزء منها مهما كان صغيراً، والتعبير الصائب عنه . إذا كان الأنبياء والرسل جسدوا الحقيقة وأفصحوا عنها بعد تلقي الوحي، فإن المسؤول الشمولي لا يقترف الخطأ، لأنه يتلقى الوحي من ذاته ولأن الحقيقة تصدر عنه هو لا عن غيره . من هنا، يعتبر من يخالفه الرأي، أو يتطلع لامتلاك رأي غير رأيه، أو يشكك بتطابق أقواله التام مع حقيقة الأشياء والأحداث، كافراً بالمعنى الديني والسياسي، يجب نبذه وإخراجه من شعب هو أخوية تؤمن بعصمة مسؤولها، تمهيداً لمعاملته كمرتكب كبيرة لا غفران له ولا عفو عنه . لا حاجة إلى القول: إن هذه الوثنية الشمولية تتجلى، كغيرها من الوثنيات، في تحويل الإيمان الأعمى بعصمة المسؤول إلى طقوس تنصب، كأية طقوس، على أشخاص ورموز وإشارات ومؤسسات وأعراف وتقاليد الشخص وسلطته، تبرز عصمة وقدسية الممسك بالسلطة الشمولية، المثقلة أكثر من أية سلطة أخرى بالرموز، بما أنها فضاء يعكس المسؤول الشمولي المقدس قدسيته عليه، كي لا يتحول تواصله من خلاله مع شعب “ه” إلى علاقات محكومة بقانون أو دستور .
أما إذا تأملنا النزعة على مستوى الواقع، وجدنا أنه لا يمكن للتدابير والسياسات والإجراءات التي تصدر عن المسؤول، أن تتخذ أي شكل آخر غير الشكل الذي يعطيه هو لها . فلا يمكن، مثلاً، أن تكون هناك سياسة خارجية تجسد مصالح الوطن غير تلك التي ينتهجها، وكذلك هو الحال في السياسات الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والأمنية، وعلاقات السلطة بداخلها . ومع أنه كثيراً ما يتخلى المسؤول عن سياسات وتدابير، وينتهج سياسات ويتبنى تدابير تتعارض أو تتناقض معها، فإن سياساته وتدابيره الجديدة تكون بدورها ما كانت عليه القديمة: كلية العصمة والصواب . هكذا، يكون المسؤول على صواب في الحالتين، ويبقى له وحده حق تقرير متى يتمسك بشيء أو يتخلى عنه، ومتى يعتبر قول أو سلوك ما صائباً أو خاطئاً، فالمسؤول معصوم عن الخطأ، حتى عندما يكون هناك أخطاء معترف بوقوعها في سياساته وتدابيره، وهو على صواب دوماً، فإن وقع خطأ ما، كان سببه خروج الواقع عن جادة الحق، ولكن ريثما يعيده إلى حقيقته ويصالحه معها، بقوة وفضل سياساته وتدابيره .
هذه النزعة إلى احتكار الحقيقة وربطها بشخص بعينه هو تحديداً مالك السلطة، تحول الحكم الشمولي، الذي قد يكون ثورياً في بداياته، إلى حكم محافظ يصير أكثر فأكثر رجعياً لا يكتفي بمعاداة التقدم بوجه عام، بل كذلك أي تغيير أو تجديد، مهما كان فرعياً أو جزئياً . ثمة هنا سبب مزدوج يفسر هذه الظاهرة: ما قد يثيره التغيير والتجديد من شكوك في عصمة الحكم الشمولي ورموزه من جهة، وسيطرة حتمية خطية على العقل الشمولي من جهة أخرى، تفرض رؤية أحادية الجانب للواقع هي وحدها الصحيحة، لا يستطيع غيرها أن يكون غير تنويعات على الخطأ، تحمل إلى الحقل العام ضلالاً يساوي في جوهره وطابعه الكفر في الحقل الديني، من الحكمة رفضه جملة وتفصيلاً والتعاطي معه بوصفه خروجاً على الحقيقة الشمولية، التي هي، في المحصلة النهائية، ضرب من فكر ديني علماني يحارب الخارجين عليه ويعتبرهم أشراراً وكفاراً . لا داعي للقول إن هذه الحتمية الخطية، التي تقوم على سببية مجردة، قطعية وبدائية، تضيق هوامش معرفة الواقع حتى تلغيها، وتجعل الشائع منها أقرب إلى سفسطة كلامية بلا ضوابط منه إلى معرفة تستند إلى العلم والوقائع والتجربة، رغم أن عقل الحتمية لا يفتأ يسوغ نفسه علمياً، لاعتقاده أن السببية الشكلية، التي يستخدمها في مقاربة الواقع، تضمر حقيقته الكلية، وأن هذه لن تخفى على المسؤول، الكلي المعرفة والمعصوم، الذي يتظاهر في معرفته الوجه الذاتي للحتمية الموضوعية، ويتكفل، بما يكثفه في ذاته من معرفة لا يمكن أن تجتمع لغيره، بكشف حقيقة جميع تظاهرات الواقع . وكيف لا يكشفها وهو عالم اجتماع واقتصادي وفيلسوف واستراتيجي ومثقف في آن معاً .
لا صحة للقول بقدرة أي إنسان على احتكار الحقيقة، ولا صحة للقول بإمكان تطابق الحقيقة التام مع وعي البشر، أو لصواب السلوك البشري في جميع ظروفه وأحواله . الإنسان خطاء، كما يقول القرآن الكريم، وفي هذا يكمن مجده وتتجلى حاجته إلى مراقبة نفسه وتصحيح معرفته، وإلى مواءمتها مع واقع يعرف استحالة إحاطتها بسائر وجوهه، فهي معرفة وقتية وجزئية وتحتمل الخطأ . ولقد بينت تجارب الأمس القريب، والأقوال المفعمة بالندم لمن كانوا حكام نظم الشمولية السوفييتية، أن الحتمية الخطية، التي أقامها هؤلاء بين الواقع وبين سياساتهم، كانت غلطتهم الأفظع، فقد منعتهم من رؤية الواقع على حقيقته، وجعلتهم يتمسكون بواقع وهمي من صنع رغباتهم وأفكارهم المسبقة، لعب إيمانهم بوجوده دوراً خطيراً في تغذية آلة دعاية رهيبة بضروب شتى من الكذب، سدت درب الشك والمعرفة والموقف النقدي، وفتحت دروبا واسعة نحو الخطأ واليقينية والجهل، حتى صار من بيدهم أمر الناس غرباء تماماً عن الحقيقة والواقع، وغدت سياساتهم وتدابيرهم سلسلة من أخطاء مترابطة الحلقات، متماسكة الأجزاء، حالت بدورها دون تصحيح أخطائهم وجعلته أشد صعوبة من يوم لآخر، ونقلتهم من وضع كان التخلص منها فيه ممكناً إلى وضع أجبرهم على التمسك بالخطأ والدفاع عنه، تفاقم إلى أن جعل أي تغيير أو إصلاح يقومون به مفتاح انهيار نظامهم الشمولي، مثلما حدث في البلدان الاشتراكية وسيحدث في النماذج القومية والدينية .
لم يعرف التاريخ، ولن يعرف، نظاماً سياسياً أو نسقاً فكرياً نهائياً، ولم توجد على مر العصور سياسة أو فكرة كانت بديل نفسها الوحيد، الذي حال دون نشوء وتبلور بدائل أخرى لها . ويمكن أن تعبر قراءات متنوعة بتنوع الظروف والتطور والتحديات عن مصالح أي نظام، سياسياً كان أم اجتماعياً، بل إن عبقرية السياسة تكمن في قدرتها على تطوير بدائل لتدابير كانت تبدو صحيحة، لكن الأحداث والتطورات تجاوزتها، أو جعلتها عاجزة عن تلبية آمال ومطامح الشعب أو رد المخاطر والتحديات التي تواجه الوطن . ومن يراقب كيف أطالت الرأسمالية حياتها وعززت نظامها من خلال تطوير بدائل لسياساتها وخياراتها وممارساتها، وكيف مكنتها مراجعة سياساتها ومراقبة واقعها من العودة عن أخطائها، ومن إنجاز تغييرات مؤلمة تخطت بواسطتها مآزق كانت تبدو نهائية وقاتلة، يدرك خطورة دعاة العصمة الشمولية على بلدانهم ونظمهم وحتى أشخاصهم، ويفهم أنه لا بد أن توجد دوما بدائل لما هو قائم، يتوقف ظهورها وانتصارها على اكتمال شروط تحققها، وفي مقدمها متابعة البشر لها وإدراكها بوعي وصدق، ويفهم أخيراً أن بديل الشمولية ينحصر في أمرين: إصلاح تنجزه هي نفسها، يكون طوعياً، ويتم بإرادة وطنية عامة، يشارك فيه بصورة مباشرة وحرة المواطنون ومنظماتهم وأحزابهم، أو انهيار شامل ينتجه تمسكها بسياسات وممارسات فات زمانها، ليس لها وظيفة أو دور، لكن الشمولية تبقي عليها بقوة التخويف، والقمع، والتلاعب بعواطف ومصالح مواطنيها .
كانت العرب تقول: دوام الحال من المحال . ليتنا نعي في القرن الحادي والعشرين ما كان أجدادنا يعتبرونه من مسلمات العقل والعيش الصحيحة قبل عشرين قرناً . ليت من بيدهم أمرنا يفهمون أن دوام الحال من المحال، وأن لكل سياسة بدائل أفضل منها، وأن ربط الصواب بسياسة بعينها خطأ يصير بمرور الوقت قاتلاً، وأنها لو دامت لغيرهم، لما وصلت إليهم .
الخليج