سعيد عقل في مجهر البحث الجامعي الأكاديمي
عرّاب اللغة الشعرية الحديثة –
حسن عبّاس
“يهواني الشعر وأهواه/ انا يرى غزّارتي قفرا/ فيتهاوى فوقها سحرا/ ومرّة تفرغ كفّاه/ يغمزني أغدو أنا الشعرا”. هكذا ينظر الشاعر اللبناني الكبير سعيد عقل الى علاقته بالشعر في ديوانه “الخماسيّات”. علاقته بالشعر هي علاقة حبّ متبادل يكتنفها كثير من السحر والجاذبية، وطبعاً الحبّ. الحبّ الذي يتضمنه شعره، هو نوع من الحبّ الذي يتحّد فيه الشريكان فيغدوان كلاً واحداً غير قابل للإنفصام، ويغدو كلّ منهما تجسيداً لنوع كامل.
“لا تنتمي مجموعات عقل الشعرية الى اللون الشعري ذاته، فشعره، كما شعر جميع الشعراء، شهد تطورات في الزمان. حديثاً صدرت دراسة عميقة عن “دار الفارابي” أجرتها الدكتورة هند أديب، وتحمل عنوان “شعرية سعيد عقل”. تفتح هذه الدراسة، التي تلقي الضوء على إنتاج سعيد عقل بالعربية الفصحى، مستثنية ما كتبه باللغة المحكيّة اللبنانية وبالأبجدية اللاتينية الخاصة به، آفاقاً جديدة للنظر الى شعره الذي سال كثير من الحبر تعليقاً عليه وتصنيفاً له. في هذه العجالة نعتمد اكثر ما نعتمد على هذه الدراسة، ومنها نستقي كل ما يرد بين مزدوجين من دون الإشارة الى مصدره.
مراحل ذروتها الغنائية
بعد بدايات كتاباته باللغة العربية الفصحى مع “بنت يفتاح” و”المجدلية”، ختم سعيد عقل مع مسرحيته “قدموس” مرحلة تأثر فيها بالكلاسيكية الفرنسية، فكانت ارهاصاً لمرحلة الغنائية التي طبعت أجمل ما كتبه.
تضم المرحلة الغنائية الرومنطيقية دواوين “رندلى” (1950) “أجمل منك؟ لا” (1960)، “أجراس الياسمين” (1971)، “كتاب الورد”، “قصائد من دفترها” (1973)، و”دلزى” (1973). تحتلّ “الأعمال الغنائية” معظم إنتاج سعيد عقل الشعري. فبحسب إحصاءات هند أديب، كتب الشاعر 3521 بيتاً غنائياً من أصل 5564، أي حوالى الثلثين. وامتدت هذه المرحلة على مدى 23 سنة. والنسبة هي نفسها تقريباً على صعيد القصائد، فقد كتب 233 قصيدة غنائية من أصل 356. وتغلب على قصائده الغنائية موضوعات الحب والطبيعة والتأمل والتفكّر والحلم والنرجسية والذكريات والحنين.
مع “دلزى”، يختم الشاعر المرحلة الغنائية الرومنطيقية، وينتقل الى لون شعري جديد “يجوز لنا – في غياب تسمية أدبية محضة – أن نطلق عليها اسم “مرحلة النضج” أو إذا أردنا “مرحلة الخماسيّات”. في هذه المرحلة الجديدة ينتقل الشاعر الى الكتابة التي تخرج عن تأمل في الموضوعات الدينية والفلسفية والوجودية، كما في الوضع الإنساني بشكل عام، من دون أن يتخلى عن المواضيع التي استثارت الشعر التقليدي.
في “الخماسيات”، التي تضم تسعاً وتسعين خماسية مكتوبة باللغة العربية الفصحى، يعتمد سعيد عقل تركيبة البيت الشعري الممتد على خمسة أشطر. وقد تأخر نشرها حتى 1991 على رغم جهوزها منذ عام 1978.
إضافة الى هذه الأعمال، نشر سعيد عقل عام 1974 ديوان “كما الأعمدة”، الذي يضم أشعار مناسبات، انطلاقاً من منظاره الشخصي، فيستهلّ معظم القصائد المذكورة بالـ “أنا”، راسماً ملامح “ديوان تقليدي يفترق بوضوح عن المجموعة الغنائية على صعيد المضمون والبحور المستعملة، وأيضاً على صعيد البنية الشعرية”. كما كتب نثراً بين عامي 1950 و1963 (“يوم النخبة”، “كأس لِخمر” و”لبنان إن حكى”).
تصنف هند أديب إنتاج سعيد عقل الشعري المكتوب بالعربية الفصحى في أربع مجموعات: القصائد السردية والمسرحية (المجدلية، قدموس)، الدواوين الغنائية (رندلى، أجمل منك؟ لا، أجراس الياسمين، قصائد من دفترها، دلزى)، شعر المناسبات (كما الأعمدة)، شعر مرحلة النضج (الخماسيّات).
بين التقليدية والتجديدية
يرى أدونيس في كتابه “مقدمة للشعر العربي” أن سعيد عقل، الذي يصنفه في تيار الرومنطيقية الشكلية، يحتل “مكاناً بارزاً بل حاسماً في تنقية اللغة الشعرية التي كانت سائدة قبله وإيصالها بحدّ ذاتها الى مدى جمالي قصِيّ”. ويعتبر أنطوان غطاس كرم انه ممثل لنوع من الرمزية. أما إيليا حاوي، فيقول إن شعره رومنطيقي مصبوغ بتصنّع ذهني. ويصف يوسف الخال شعره بالرومنطيقية “المصبوغة برمزية القرن التاسع عشر الفرنسي” ويتردد كمال خير بك في تعيين موقعه ما بين الرمزية والرومنطيقية.
أما هند أديب، فتحاول إثبات فرضية أنه يترجح بين التيارات التقليدية والمجددة، وقد “جعل الرومنطيقية العربية في القرن العشرين تبلغ أوجها”.
فهي ترى “إن سعيد عقل – الذي يتميّز شعره في مجمله بكلاسيكيّة واضحة على مستوى البحور الشعرية – يبالغ في احترام أصول النظم الصحيح كما حدّدها الخليل (بن أحمد الفراهيدي) والعروضيّون المتأخرون”. وإذا كان الشاعر يسمح لنفسه ببعض الجوازات، فإنها شكلية محض، تؤكد براعة الشاعر المتمكّن من النظم الكلاسيكي.
لكنها ترى أن شعره يفترق عن الشعر الكلاسيكي ببعض التجاوزات مثل “الإفراط في استعمال الرجز، وهو من بحور الوتيرة العالية سواء أكان ذلك على مستوى عدد الأبيات أم القصائد”، على عكس التقليد الشعري الذي أعطى البحرين الطويل والكامل أفضلية مطلقة.
تشير أديب الى ظاهرتين في شعر سعيد عقل: فعلى صعيد استخدام البحور الشعرية، يلاحظ اتّساع مروحة البحور وظهور بحور نادرة الاستعمال في الشعر الكلاسيكي العربي. أما على صعيد البنية الشعرية، فيلاحظ ظهور القصيدة القصيرة بالإضافة الى تفكّك البحر وتجزئته.
يغيب الرجز الذي سيصبح “البحر المدلّل” لدى عقل في ديوانه “رندلى”. ومع ديوان “أجمل منك؟ لا” الذي يختار فيه سعيد عقل الرجز (533 بيتاً من أصل 685، و22 قصيدة من أصل 31) تنفجر “الثورة الفعلية”. ويشكل “أجراس الياسمين” مرحلة هدوء ما بعد العاصفة، حيث الرجز الى جانب بحور أخرى من دون طغيانه عليها. ويعود في “قصائد من دفترها” الى تجربة “أجمل منك؟ لا”، فيطغى الرجز (517 بيتاً من أصل 922، و27 قصيدة من أصل 50).
أما مع “دلزى”، فهناك “عودة الى “رندلى” والى شيء من الكلاسيكية” على صعيد العنوان (اسم علم) كما على صعيد بنية القصيدة وأيضاً على صعيد استعمال البحور. في هذا الديوان، يفقد الرجز موقع الصدارة.
مساهمات في الحداثة الشعرية
في إحصاءات تشمل كلّ أعمال سعيد عقل المكتوبة بالعربية الفصحى، تشير أديب الى أن 70 في المئة من الأبيات (ما خلا الرجز) تتقيّد بالبحر التام بينما تطرأ على 30 في المئة فقط منها جوازات تجتزئ منها تفعيلة. وتلاحظ أنه إذا ما أخذنا في الإعتبار أن بحرَي المجتثّ والهزج لا يستعملان إلا في شكلهما المجزوء، فإن النسب تتغيّر وترتفع نسبة البحور التامة الى 77 في المئة بينما تصبح النسبة الفعلية للأبيات التي تطرأ عليها الجوازات 23 في المئة. “فيقدّم عقل صورة عن شاعر لا يحترم فقط أصول النظم بل يتقيّد بحذافير القواعد العروضية. ولا يتغيّر هذا المظهر إلا بتدخّل الرجز الذي يقلب إيقاع شعره في الدواوين الثلاثة المذكورة كما يقلب نسبة الأبيات التامة حاملاً معه نفحة من الحداثة”.
يضيف سعيد عقل في “قصائد من دفترها”، شبه تفعيلة “فَعْ” في نهاية كثير من الأبيات. شباكه الذي انفتح (مستفعلن متفعلن)/ تحبه اختي الصغيرة (متفعلن مستفعلن فَعْ أو مستفعلاتن)/ تغمرني: شمّي عبيره (متفعلن مستفعلن فَعْ أو مستفعلاتن)/ مَن قلبه هنا انذبح (مستفعلن متفعلن). ترى أديب أن هذه الـ”فَعْ” “يعتبرها بعض الشعراء اللبنانيين الإيقاع السعقلي”، وتذكر أن شعراء التفعيلة قد استعملوا في بحر منهوك الرجز تفعيلة “فَعْ” أو “مستفعلاتن”.
يبرز الميل الى التخفيف من قيود العروض التقليدي بالنظم على بحر الرجز، الذي معه “تدخل البراعة الإيقاعية، متيحة للشاعر أن يستعرض قدراته ومهاراته وتمكّنه من الفن والتقنية الشعريين”. ففي الدواوين التي يطغى عليها الرجز، “نكشف إرهاصات خجولة لما سيسمّى لاحقاً بـ”شعر التفعيلة”.
بعد هذه الإشارات، تخلص أديب الى “ان سعيد عقل يبقى… شاعراً يحترم الإيقاع الكلاسيكي. وإذا كان يسعى، أحياناً – وهو ينجح في مسعاه – الى التخفف من القيود، فهو لا يلبث أن يفرض على شعره قيوداً لا تقلّ صرامة عن الأولى. لكنه كان على الرغم من ذلك أوّل من استعمل التفعيلات بشكل مستقلّ عن البحور التي تأتي فيها. ويكون بذلك مبشّراً بالشعر الحديث الذي تحرّر في مرحلة معيّنة من العروض ليتبنّى التفعيلة التي يولّد تكرارها إيقاع الشعر الجديد”.
إلا أن الكلاسيكية سوف تنتصر في نهاية المطاف مع “دلزى” و”كما الأعمدة”. وفي هذا تتشابه تجربة سعيد عقل مع تجربة الشاعر الفرنسي لويس أراغون الذي قرّر في ديوانه “عيون إلزا” العودة الى الشعر المنظوم بعد خروجه عنه من خلال المسار السوريالي.
مع ذلك، ترى أديب “من غير المنصف… إقصاؤه عن الجهود التي بذلت خلال الخمسينات والستينات من القرن العشرين لرفع الشعر العربي الى مصاف الحداثة”، مذكّرةً بتحفظ نازك الملائكة عن تجربتها وبتحصّنها خلف التقليدية الأدبية وشنّها حملة شعواء على تطرّف الحداثة، التي تعتبر من روّادها. وفي رأي أديب “أن سعيد عقل قد سبق الشاعرة العراقية، ومواطنها السياب، في مسرحية “قدموس” حيث تعتمد ابيات الكورس بنية حديثة نوعاً ما، فتلعب على تنويعات الرمل”.
لذلك تتجه أديب الى تصنيف عقل “ضمن ما يمكن تسميته بمرحلة “القلق الشعري” الذي عرفه الشعر العربي في الخمسينات والستينات”. فمرحلته الغنائية التجديدية تتزامن مع ظهور شعراء كنازك الملائكة وبدر شاكر السياب في العراق (بين 1947 و1950) وصلاح عبد الصبور في مصر (1957) ومحمد الفيتوري في السودان (1955) وخليل حاوي في لبنان (1957) وآخرين ساهموا بطريقة أو بأخرى في تفجير البحر التقليدي.
تتخذ المقارنات السابقة، الشكل إطاراً للمقارنة، إذ لا موضع شبه بين سعيد عقل والشعراء الذين مهّدوا للحداثة الشعرية من حيث المضمون، “ذلك أن الوجدانية السعقلية الهادئة والمنبسطة والتي نادراً ما تعرف القلق أو الحزن، تفترق جليّاً عن مضمون شعر الحداثة الذي يطبعه قلق وحزن وجوديان”.
الشعر المرح
يستخدم سعيد عقل اسلوب الإكثار من الصور والتشبيهات في شعره، بشكل يقود الخيال الى الإرتحال مع كلّ من أبيات شعره الى عالم صنعه بدقة وجمال فائقين، وفيه كثير من الهلوسة التي تتحكّم بالمخيّلة. الموضوعات التي عالجها الشاعر هي موضوعات عادية لا بل تقليدية عالجها قبله آلاف الشعراء، لكنه يتربّع على عرش الشعر لما في شعره من جمالية وابتكار في الصور التي تسحر القارئ. عندما تغيب الخلاصات الفكرية والحكمية عن قصائده، تأتي الاستعارات التي تنقل القارئ الى عالم اللامعقول، الى عالم لا يمكن ولوجه إلا بتوسّط سعيد عقل.
نراه في “رندلى” يحيل حبيبته موسيقى ناعمة لا يمكن لمسها: “يا أغنية/ عاش من وعد بها سحر الوتر؛ ونغماً تحلم به الدنيا لروعته: لي أنت كالخمر المضِلّه/ كالصحو، كالنغم المولّه/ حَلَمَت بك الدنيا، وغنّت/ أنجم الليل المطلّه”.
في “أجمل منك؟ لا”، يجعل حبيبته “نقطة التقاطعات المستحيلة” التي تستمدّ جمالها من كلّ ما فيه روعة: “أجمل منك؟ لا/ لم يضرب الرباب/ لم تحلم الحجار في الحِلى/ ولم يخطّ الشعر في كتاب”. كما يجعل منها “نقطة التقاء المجرّد والمحسوس”، تأمر الزمن بالتوقف ويتمحور حولها الوجود: “سمعت قبل أن/ كنت وكان الخمر،/ بحلوة تقول للزمن:/ “قف! أنا ما تضمره من أمر/ أنا التي أنا،/ لي يضحك الزنبق،/ يرنو اليها، يرتعش السنى،/ والنجم إن يبصر فمي يشهق”.
الشعر عند عقل هو شيء خفيف لا ثقل فيه، شيء يكسبه لذّات طفولية: “صرت عليك كبيت/ من الشعر عبر النُّهى يلعب/ يطير،…” (أجراس الياسمين). يشارك الشاعر أشياء الطبيعة في لذة الحياة: “قلبي ألا غنِّ غنّي/ وليسكر الليل منّي/… /أنا وقلبي وهذي/ الريح الحنون كوهن/ أرجوحة من خيوط/ النجوم، من جدل ظنّ/… /أنا وكلّ الورود/ التي بقلبي نغنّي” (أجراس الياسمين).
لم يقنع سعيد عقل بالمعوقات التي تحدّ من طموح الإنسان، فهو كان يتوق الى الرهانات الصعبة غير آبه بما يحدّ من إمكانات الإنسان. تصف هند اديب الإنسان السعقلي في “قدموس”، بأنه “كورنيلّي معاصر (نسبة الى الكاتب المسرحي الفرنسي بيار كورناي)، همّه الوحيد بلوغ مثال أعلى واحد وحقيقي”. ففي هذه المسرحية يشير عقل الى ان التطور الإنساني “عجيج كدّ في السير صعداً من غباوة المادة الى وعي العقل”. يقول إننا “نغترب الى الفوق”.
ففي رؤية تشبهها أديب بـ”رهان باسكال”، يدعو سعيد عقل الإنسان الى ترك “أرض البشر” والمغامرة في “قلب الله”: “تفاءل ارم النظر/ على المدى التيّاه/ مت لا تقل أوّاه/ تضيق أرض البشر؟/ غامر بقلب الله”.
تتكرّر رؤية الشاعر الطموحة للإنسان في أشعاره اللاحقة. فهو يرى في قصيدة “داوي شعري” من “كما الأعمدة”، ان الإنسان لا هدف له في مصيره إلا الله: “وجهات الحق تهوى لفتتي/ قلت وجه الله تهواه الدروب”.
لم يكن توقه الى الله دلالة على عدم ثقته بمقدرات الإنسان، بل بالعكس، نرى الإنسان قادراً على قطف النجوم: “فيم عيناه تمرحان على الأفق/ وتستطلعان تخماً تخما/ ويد في مجاهل الجو تمتد/ تباهي نجماً، وتقطف نجما؟”.
في “الخماسيات”، وهي قصائد مكتوبة على طريقة عمر الخيام في رباعياته، ولكن في خمسة أشطر، ينتقل سعيد عقل الى كتابة خلاصات الحياة التي استقاها من تجاربه من دون اللجوء الى ذكر التفاصيل الحياتية. ففيها يكتب نوعاً من الشعر الحِكمي ولا يحتفظ من تجاربه إلا بـ”الجوهر الصافي”، “فالخماسيات بشكلها المختزل لا تحتفظ من هذه المواضيع إلا بما يتصل بـ”الصورة” و”الإيحاء”، وهي تقترب مما كان مالارميه يعتبره “كلاماً جوهرياً”.
هذا الفرح العارم الذي يرشح من شعره، يدعو هند أديب الى الشك في صدق مشاعره. تقول: “لا تحمل قصائد سعيد عقل ذات الموضوعات الرومنطيقيّة أيّ جديد سوى أنها تكشف عن سذاجة عميقة، طفلية في بعض نواحيها، خالية من مشاعر القلق والألم والتمرّد الداخلي… ومن اللافت ألا نجد في القصائد المئتين والثلاثين التي تملأ المرحلة الغنائية سوى ثلاثة عناوين تدلّ على القلق والألم وبعض الإنزعاج الداخلي: “على رخامة” من “رندلى”، “لم يمرّ، لم يسلّم” من “قصائد من دفترها”، و”لاهية” من “أجمل منك؟ لا”… ما يجعلنا نشكّ في صدق المشاعر أو حتى في صحتها… كان الحب الرومنطيقي غالباً، إن لم يكن دوماً، مصبوغاً بالكآبة، والحزن الوجودي، والقلق والتمزّق والإنزعاج”.
لغة الشعر ولغة النثر
في مقابلة أجراها، يعتبر سعيد عقل أن قارئ الشعر هو ذو مستوى وليس كقارئ الجريدة والخبر اليومي. ويردّ على اتهامه بتصعيب كتابته، بالتذكير، على طريقته، بقول الجرجاني بـ”أن الشعر الفاخر “بيماطلك” قبل أن يمكّنك من نفسه”. ويردف بأن الشعر هو “تماماً كما بالنسبة للنساء، فالفتاة الذي يزورها شاب للزواج منها لا تتقرب منه في الجلسة الأولى، بل “تماطله” قبل موافقتها. الشعر يشبه سلوك النساء هذا، وأنا فخور بأن شعري لا يسلّم نفسه كما بنت الرصيف. لهذا السبب، يقرأ شعري عشرات المرات”. ويؤكد أن “الشعر العالي فيه دائماً شيء من الصعوبة، هذا شيء حق محتوم”.
في مقالة كتبها، يعتبر “ان النثر فكر، والفكرة نعيها، هو صور والصورة نعيها، وهو عواطف والعاطفة نعيها، لأنه يستحيل أن نفكر أو نتصور أو نحب، إلا ونحن نعي أننا نفكر أو نتصور أو نحب. عناصر النثر كلها عناصر وعي. فالنثر إذن في طبيعة وعي. أما الشعر فلا”.
يشير في المقالة نفسها الى أن “الأبيات وجدت لطبقة رفيعة مصطفاة باستطاعتها تذوق الشعر، ونثرها وجد لتلامذة- وقد يكونون خارج المدارس- يتعذر عليهم الارتقاء إلى مستوى الأبيات”. أما معنى الأبيات فهو، في رأيه “صورتها الأحط، نثر قصيدتها”.
يرى أن الشعر الحقيقي يختلف عن اهتياج المشاعر. يقول: “ولا أعتقد أن أثرا شعريا ذا قيمة خلق في حالة اهتياج. فالخير الذي يتركه الشعر- سواء في الشاعر أو المتذوق- يقوم على الهدوء الخالص لا تتلاطم فيه عواطف وفكر وصور، على الهدوء يجعل النفس- ولا شيء يفاجئها أو يعكر صفاءها- منطوية على ذاتها، أعماقها على أعماقها، فتصبح أكثر تآلفا مع حقائق الكون، بل تصبح وحقائق الكون شيئا واحدا فإذا هي فوق هذا العالم وأوجاعه ونقائصه، إذا هي – صارت الحقائق نفسها – لا تصطدم، عمياء بأي نظام تجهله”.
لكنه، على رغم إيلائه الظاهر أهمية كبيرة للمضمون، فهو لا يتجاهل الشكل، لا بل يعتبر أن الشكل هو الأساس في كتابة الشعر. يقول: “الشعر، قبل كل شيء، هو شكل وعمل على اللغة”.
في دراستها حول سعيد عقل وشعره، تعتبر أديب أن سعيد عقل يعتبر “ان الحالة الشعرية، لكونها حالة من حالات اللاوعي، لا يمكن نقلها الى القارئ إلا إذا شلّ وعي هذا الأخير، وللقيام بذلك فإن الموسيقى هي إحدى الوسائل (أما الوسيلة الأخرى فهي الصور) (المجدلية). وهو يلتقي بذلك مع فيرلين في تصوّره للشعر “كموسيقى قبل كل شيء”.
في تقويمها لنثره، ترى ان “كتاب الورد”، مثلاً، يتابع على صعيد اللغة الشعرية والإلهام والصور المواضيع “السعقلية” نفسها، وان انتقاله الى النثر لم يشكّل بتاتاً، انقلاباً او ثورة في كتابته الشعرية. وبما أن التغيير لم يصب إلا المستوى الشكلي المحض، ظل التصور الشعري هو نفسه.
نرجسية
يمكن وصف سعيد عقل بالشاعر الذي لم تبارح أناه قصائده. هو شاعر الأنا بامتياز. ففي ديوانه “قصائد من دفترها”، الذي يضم مجموعة قصائد كتبها للحبيبة، يضع الشاعر نفسه مكان حبيبته ويوجّه القصائد الى نفسه في سلوك نرجسي بامتياز.
يصرّح في مقابلة أجراها، بعظمته التي لا تضاهى. يقول: “كتبت أشعاراً، عندما اسمعها أطرب لها ويقف شعر رأسي اعجاباً وفرحاً بها، الى حدّ أن اتساءل: هل صحيح انني كتبت شعراً بهذا الجمال؟!”. يضيف أن شعره أعمق من شعر المتنبي، متوجهاً الى محدّثه بالقول: “لا تتصور ان المتنبي لديه شعر مقدس ومكرّم ومعظّم مثل شعر سعيد عقل”.
ويفتخر بأنه كتب شعراً “غير مكتوب في ثلاث لغات تمتلك اجمل شعر في العالم وأعظمه (اثينا وروما وفرنسا)، وانتجت شعراً هو الأجمل في العالم. لكنهم لا يعادلون شيئاً قياساً بشعري، هذا الكلام فيه شيء من الكبر والافتخار بالنفس، لكنه صحيح”.
يؤكد الشاعر في “قصائد من دفترها” عمق معرفة بالطبيعة والمشاعر الأنثويتين، “كما يمكن أن يعدّ تعبيراً عن نوع من النرجسيّة التي لا يسمّي فيها الشاعر نفسه تاركاً تلك الوظيفة “الرومنطيقية” الى محبوبته ليباشر تمجيد الـ”أنا” والتغنّي بها عبر “الأنت”: “تسأل عنك يا حبيبي/ وتميد الياسمينة/ تذكر؟ مرةً سمعتَ/ تحتها همس السكينة/ سمعت قلبي خافقاً/ ولَيَّ خصري وفتونه/ وقلت لي: هي انتهت/ أم رِدن ثوبٍ ترتدينه؟”.
لا يحتاج خطاب العشق عند عقل الى حضور العاشقين كموضوع مباشر للغزل، ففي غيابهم، تأتي اشياؤهم لتقول “خطاب العشق”. وهذا ما كان سانت بوف ومن بعده جان بيار ريشار يسمّيانه الحب “غير المباشر” أو “المائل” (Amour oblique): “شباكه الذي انفتح/ تحبّه اختي الصغيرة/ تغمزني: شمّي عبيره/ من قلبه هنا انذبح”.
في ديوانه “أجمل منك؟ لا” ينظر الشاعر الى القدر كلعبة بين يديه. يقول: قلبي غَفَرْ/ قلبي الذي يذكر ألفَ شيء/ أنّي غوى النّظر…/ نبضُ الصّبا.. بلَّورة السّحر …/ أنّ على يدي/ يلهو القدر/ وإن أنا أَسقطت من عليّ/ ثوباً ، فما شمس وما قمر؟”.
تتحول نرجسيته أحياناً نوعاً من إضفاء أناه قيمة على حبيبته. يقول لحبيبته في قصيدته “سمر” من ديوانه “رندلى”: “من يغنّيك إن أنا/ لم ألوّن لك السحر”. كما يجعل أناه كل شيء جميل في حياة الحبيبة، كما في قصيدته “أغنار” من “رندلى”، حيث يقول لها: “أنا الخمرة في كأسك/ والسكرة في خمرك/ أنا الفوح أنا البوح/ أنا السهوة في فكرك/ أنا القبلة، يا أغنار/ تفترّ على ثغرك”.
لكن الذروة تكمن في تماهيه مع الشعر وإطلاق صفة تعالى، التي يوصف بها الله، على الشعر، وتاليأ على نفسه. فهو يقول في قصيدته “الثلاث قبل” من ديوانه “دلزى”: “أنا الشعر تعالى”.
تحضر الأنا في ديوان “كما الأعمدة” بقوة، فتطغى على الحدث أو المناسبة و”تعطيهما أبعاداً واسعة تتجاوز الحدث نفسه”. في قصيدة “فخر الدين”، يدخل الشاعر نفسه في الحدث: أنا ما دست حجراً منك/ ولم أنتفض لذكرى الأمير. وتظهر نرجسيته في قصيدة “تكسّرت الأسياف”: “كأنّي مهبّ الريح، والصعب منزلي/ وشغلي حطُّ الحسن في الحجر الصلد”. كما تظهر بشكل أجلى في حديثه عن الإمام علي في قصيدته “كلامي على ربّ الكلام”، حيث يصل الى مدح الذات قائلاً: “حببت عليّاً مذ حببت شمائلي”.
في قصيدة “غنّيت مكة”، يرى سعيد عقل في كل صلاة مرفوعة الى الله فعلاً إنسانياً أصيلاً يلتزمه هو، متعالياً على الإختلافات. وهنا تتدخل الـ”أنا” لمنح هذا الفعل المحدد بعداً كونياً: “أنا أينما صلّى الأنام رأت/ عيني السماء تفتّحت جودا”.
أما في “الخماسيات”، فنرى الشاعر يسمو بنفسه الى مرتبة صانع الغزل الذي لا يوجد الغزل إلا معه، ويرفع شعره الى مرتبة الهية: “ذات ضحى من أزل/ وكفّه لم تزل/ تنحت بعض الجباه/ كنت فكان الغزل/ وكان شعر إله”.
تعتبر هند أديب أنه، مع سعيد عقل، “لم يعد الـ”آخر” كائناً موضوعياً، إنّما هو الكائن الذي من خلاله يتمّ إنجاز فعل الشاعر الخلاق واكتماله”. وتضيف أنه “يجوز في هذا السياق قلب عبارة هوغو الشهيرة: “عندما أتحدث عن نفسي أتحدث عنكم” الى عكسها: “عندما أتحدّث عن الآخرين، أتحدّث عن ذاتي”.
الوصال المستحيل
للمرأة مكانة كبيرة في شعر سعيد عقل. يشبهها بالوردة التي لا تشعر هي نفسها بغناها، وتمنح السعادة للآخرين من دون أن تعي ذلك. يقول: “الوردة لا تحس إنها ذات غنى، إنها تعطي البشر متعة، لا تحس إنها وردة. والمرأة، في نظر عاشقها، لا تحس السعادة التي تمنحها البشر بمجرد وجودها بينهم، لا تحس أنها امرأة وروح المناجاة أنها لو أحست ذلك لشاركت الناس عبادة نفسها”.
يضفي سعيد عقل على الحب في قصيدة “أحبّك” من “رندلى” صفة القداسة، فيمتنع إمكان لمس الحبيبة: “وقربك لي معبد لا يمسّ/ يزار ويلمس من شاسع”. فالحب عنده هو شعور لا يتناقض مع العفة. نراه يقول في ديوانه “رندلى”: أحطّ به لفتتي من بعيد/ وأمضي على لذّة القانع”. في قصيدته نفسها، نراه يخلط شعوره بالحب، بالخشوع: “أحبّك في ذلّة الراكع/ وأحيا على أمل وادع/ وأعرف ألا أبوح بحبّي/ فأبقي له فسحة الخاشع”.
يعيش الشاعر “مفارقة القرب والبعد” التي لا تتحقق إلا بواسطة حاسة النظر. فالنظر الى الحبيبة هو قمة ما يطمح اليه. في قصيدته “فجر وفجران” من ديوانه “دلزى” يقول: “نبعتا الورد ليستا سوى الرؤيا/ فقرّب يداً وظَلّ الزاهد”. وكذلك الأمر في قصيدته “شال” من ديوانه “رندلى”: “هِم، لا تقرّب يداً،/ هم بالنظر”…
يكمن مصدر سعادته في عدم تحقق الرغبة. يقول في قصيدته “تضحك لي” من ديوانه “رندلى”: “في ضحكة باحت بحبّ لها/ لا يا يدي، لا تقطفي واسعدي”. وفي قصيدته “خلف السراب” من ديوانه “دلزى” يمتدح التقارب عن بعد: “قولي تعاطينا كؤوس هوًى/ يا طيبها… لكن على بعد…”.
تتحقق كل رغبات الشاعر من الحبيبة عن بعد، فهو يؤكد ذلك في قصيدته “أجمل منك؟ لا”، حيث يصف نفسه بأنه ليس ذلك الإنسان الطامح الى التماس الجسدي: “حولي دنياي على بعدٍ/ أنا لا لأُضمّ ولا لأُشمّ/ أنا… دعني… حلم يُحلم”. حتى عندما يضم الشاعر حبيبته، فهي لا تتوانى عن الفرار في الصورة الشعرية نفسها، كما في قصيدته “ألعينيك” من ديوانه “أجمل منك؟ لا”: “قبلة في الظنّ، حسن مغلق/ مشتهىً ضُمّ الى الصدر وفرّ”.
في كل الشعر الغزلي الذي كتبه سعيد عقل، لا توجد إلا قصيدة واحدة تشير الى الإثارة الجنسية، هي قصيدة “نار” من ديوانه “رندلى”. ففيها يتحدث عن جماعه وحبيبته: “وجسم – على رغم عصفي به -/ مضيء، كقطعة شمس نقي”. ولكن، حتى في هذه القصيدة، فإن الشاعر يصف حبيبته بأوصاف فيها نقاء.
يقول سعيد عقل في مقابلة أجريت معه ان “الغزل ليس للمسائل التي فيها عار ووسخ، هو للمرأة الشريفة فقط. الغزل الذي لا يتغنى بالقداسة ليس غزلاً، الغزل لمن يتغنى بالفضائل”. وعن أخلاقيات المرأة التي لفتت إنتباهه ودفعته الى التغزل بها، يقول إن “المرأة التي لم تلمس زوجها الا بعد العرس هي التي غناها سعيد عقل”.
ترى هند أديب “ان الإيروسية حاضرة صراحة في كتابات شاعرنا، إلا أنها إيروسية خاصة جداً إذ تتمحور حصرياً حول النهدين”. كتب سعيد عقل كثيراً من الشعر الذي يتحدث عن النهدين. وتلاحظ أديب أن ثلاث قصائد تحمل جهراً عناوين ترجع بطريقة صورية – مجازية الى النهدين: “حقّان” من “أجمل منك؟ لا”، “فجر وفجران” من “دلزى” و”في الضوء منحوتتان” من “دلزى”. لكن النهدين هما للنظر لا للمس. يقول في قصيدته “حقان”: “حُقّان لا أبهى ولا أجمل/… /لا للهوى – حذار! – لا للّمس”، مشبهاً النهد بالحق، أي بالوعاء المقدس الذي تحفظ فيه القرابين المكرسة لمناولة المؤمنين. وفي قصيدته “فجر وفجران”، يشير صراحة الى امتناع اللمس: “حذرتني أمي من المسّ بالبلور/ غير البلّور في المسّ وارد”.
يقع النهدين في مساحة معلّقة بين النظر واللمس، فلا النظر يكفي ولا اللمس متاح. يقول في قصيدته “حب” من ديوانه “أجمل منك؟ لا”: أقول: “قد نزعته الرداء/ عن قطعتي ضياء/ علّقتا بين الرؤى واللمس”. وفي “دلزى” يضفي على النهدين فكرة المحرّم: “لم أنا لي فجران: ناهٍ وناهد”.
الطبيعة بين العاشق والحبيبة
تشير هند أديب الى أنه “لا يمكننا حقاً التحدث عن “شعر الطبيعة” في أعمال سعيد عقل، إنما عن رمزية ترجع عناصرها الى العالم الذي ولدت فيه، عالم الحب السعقلي”. ففي رأيها، “إن تعددية وجود الطبيعة وتنوّعها في أعمال سعيد عقل يسمحان بأن نرى فيها تحويلاً للرغبات المكبوتة وإعلائها”.
يتحدث الشاعر مع حبيبته بشكل موارب، مستخدماً عناصر الطبيعة. يتحدث معها بلغة استعارات مشفّرة تتوارى خلف كل كلمة منها رسالة يريد توجيهها اليها من دون النزول الى فجاجة اللغة المباشرة. في قصيدته “مرّي ببستاننا صباحاً” من ديوانه “رندلى” يتوجه الى حبيبته بالقول: “مرّي ببستاننا صباحاً/ أو رفرفي،/ يا رندلى، واسمعي الأقاحا/ نادى: اقطفي”.
تستنتج هند أديب من أسلوب الشاعر غير المباشر أن الطبيعة تقيم بتدخلها بين الشاعر وحبيبته “علاقة مثلثة تفرض فيها نفسها عنصراً يحتذى به أو عنصراً يتمّ اسقاط الرغبات عليه”. وتشرح فرضيتها باعتبار أن “العلاقة المثلثة “عاشق – طبيعة – حبيبة” تشكل ما يسمّيه رينه جيرار “الوساطة الخارجية” التي لا تقوم على ماهيّة الرغبة إنّما على المسافة بين الوسيط والراغب”.
ترى أديب أن “التقرب الذي يتمّ على صعيد الوسيط – الطبيعة – ليس إلا التعبير غير المباشر للانفصال الجوهري”، كما في قصيدته “لو أنت” من ديوانه “دلزى”، حيث يقول: “لو أنت بحوضي وردَته/ وأنا – وأمرّ أنا – نَسَم”.
يقابل الشاعر أحياناً بين الكأس والجسم، للإشارة الى تماس بين الشفاه والجسم، كما في قصيدته “دادا” من ديوانه “أجمل منك؟ لا”: “شدّي إليك الأكؤس، اعصريها/ من كرمة الوهم، من السُّدى!/ وإن عصَت تحوّلي نبيذا/ وانسكبي خصراً… فماً… يدا…/ أوّاه! أين الطفلة اليُغنّي/ جمالها؟ حلمٌ وبُدّدا”.
تكثر الإشارات الى إعلاء الشاعر للعفّة والطهارة عند الحبيبة، فيتم التماهي مع الموسيقى مثلاً كما في قصيدته “نحت” من ديوانه “رندلى”: “فمها همٌّ بأغنية/ وضياء الصبح ينهمر/ يا هناء اللون، يا زيغه/ في فمٍ بالصحو يأتزر”.
ترتبط فكرة المحرّم بالجسد في وعي الشاعر. فتمايل الجسد يحيل على الشرك في قصيدته “أغنار” من “رندلى”: “ولحن قدّك الميّاد/ عزف الضارب المشرك”. لكن الشاعر يسمح لنفسه بمتعة النظر. يقول في “قصائد من دفترها”، على لسان الحبيبة: “ولا تدلل شَعري/ بكلمات من جُمان/ دلّله، يا مليك جان/ بكلمات النظر…”.
ترى أديب أن “الشعر السعقلي يتحقق في هذه المساحة الضيّقة من الحب التي تقع بين رغبة التملك والتملك بحد ذاته”. في رأيها، يعتبر النبيذ والكأس افضل تصوير لهذه “المساحة المبهمة والمطلقة التي تظهر فيها “اللذة العاطفية” السعقلية”. فهو يقول في “أجمل منك؟ لا”: “وخصرك سكرة ظنّي”؛ “تقول: “أنتِ خَمْرْ متى أصِيرُ كاسْ؟”. ويقول في “قصائد من دفترها”: وإنّي الكأس والخمر.
لبنان في البدء… وفي الختام
سعيد عقل هو شاعر القومية اللبنانية بامتياز. حمل همّ التنظير لفكرة لبنان وإعلائها على مدار سنيه العديدة. بدأ بكتابة “الشعر اللبناني” في ديوانيه “قدموس” (1944) معطياً الفكرة اللبنانية بعداً اسطورياً تاريخياً. في فترة لاحقة افتتح في ديوانه “يارا” (1961) مشروع الكتابة باللغة اللبنانية المحكيّة، مستخدماً أبجدية، وضع هو نفسه، قواعدها انطلاقاً من الأبجدية اللاتينية التي يعتبرها إحدى بنات الأبجدية الفينيقية. ثم في عام 1978 أصدر ديواناً عنوانه “خماسيّات” كتبه باللبنانية.
لم يقتصر اهتمامه بالقومية اللبنانية على هذه الأعمال، فأفرد لها حيّزاً في بعض قصائد ديوانه “كما الأعمدة” وفي افتتاحيات جريدة “لسان الحال”. كما أصدر عام 1977 جريدة “لبنان”، وهي يومية ناطقة باللغة اللبنانية.
تصف هند أديب لبنان سعيد عقل بأنه “كناية عن تاريخ أسطوري وإنساني، وقد أراد له الشاعر أن يكون مبتدأ كل الحضارات وكل القيم وكل العلوم، كما أراد له أن يكون مركزاً للإشعاع يختزن كمّاً من التاريخ الإنساني والإنجازات”.
في “قصيدة لبنان” يصف لبنان بالصخرة العالقة بالنجم وجنة الأرض، وموطن المجد الذي يلعب أهله بالموت: “… لي صخرة علقت بالنجم أسكنها طارت بها الكتب قالت تلك لبنان/ توزعتها هموم المجد فهي هوى وكر العقابين تربى فيه عقبان/ أهلي ويغلون يغدو الموت لعبتهم إذا تطلع صوب السفح عدوان/ من حفنة وشذا أرز كفايتهم زنودهم إن تقل الأرض أوطان/ هل جنة الله إلا حيثما هنئت عيناك كل إتساع بعد بهتان”.
بلاد سعيد عقل الصغيرة تقع على حدود السماء، وهي فكرة قبل ان تكون كياناً جغرافياً، فأهل لبنان يبنون وطنهم أنّى شاؤوا. هي فكرة الحق الذي لا يوجد إن لم يوجد لبنان. يقول في قصيدته “سوف نبقى”: “وقرى من زمردٍ عالقات/ في جوار الغمام زُرقِ الضياء/ يتخطين مسرح الشمس/ يُرَكِّزن بلادي على حدود السماءِ/ … ومن الموطن الصغير نَرودُ الأرض/ نذري، في كل شطٍ، قرانا/ نتحدى الدنيا شعوباً وأمصاراً/ ونبني- أنَّى نشأ- لبنانا/ سوف نبقى… يشاء أو لا يشاء الغيرُ/ فاصمُد لبنانُ ما بك وهنُ/ سوف نبقى لا بد في الأرض من حق/ وما من حق ولم نبقَ نحنُ”.
نظر سعيد عقل الى الإنسان نظرة تجعله محور الكون ومبتدأ الأزمان، رافضاً هيمنة التراث عليه، ومن هنا كانت فكرة أبجديته الخاصة. يقول متحدثاً عن مشروعه اللغوي في إحدى المقابلات: “نحن أهم من التراث. الإنسان هو الذي يصنع التراث، وليس التراث هو الذي يصنع الإنسان. إذا كانت اللغة المحكيّة ذات فائدة لي ولك، لا يعود التراث ذا أهمية. يجب أن نترجم التراث لصالحنا، فاللغة الميتة تدمّرنا، والتراث لا يحيينا. الإنسان هو كل شيء”.
إنتماء الى كل التيارات
في مقابلة أجريت معه، يرفض سعيد عقل تصنيفه في أحد التيارات الشعرية. يقول: “كلمة شعر رمزي لا تستوقفني. في شعري شيء من الرمزية لكن شعري اكبر من ذلك، يضم كل انواع الشعر في العالم، هؤلاء الذين يصدّقون انهم رواد مدرسة من المدارس ليسوا شعراء كباراً، الشعراء الكبار هم الذين يجعلون كل انواع الشعر تصفق لهم”.
في خلاصة محاولتها تصنيف شعر سعيد عقل، تلاحظ هند أديب أن الشاعر، الذي كان أربعينياً، لم يستطع أن يتصادق مع جيل شباب حديثي العهد من المتردّدين والمتحيّرين. وذلك لأن فارق العمر واختلاف الاقتناعات والانتماء الى جيلين مختلفين كان أقوى من مصادفة جمعتهم في زمن واحد وعلى درب الشعر الواحد. فسعيد عقل كان مكمّلاً للماضي، وبالتالي محافظاً، بحيث لم يكن ليعجب جيل الشباب.
وترى أن شعر سعيد عقل المصبوغ بنوع من الرومنطيقية والرمزية، هو قبل كل شيء كلاسيكي – في المعنى الفرنسي للكلمة – وبرناسي إذ يولي الشكل اهتماماً من دون سواه، ومراجعه هي خير معبّر عن هذه الميول: شكسبير، راسين، مالارميه، فاليري. أمّا الشعراء المحدثون الذين وقعوا فريسة القلق الوجودي، فنماذجهم هي: السورياليّون، سان جون برس، ت. س. إليوت، رامبو، ميشو، غارثيا لوركا.
في رأيها خلق سعيد عقل شعراً فرحاً، فبعد الحزن والكآبة الرومنطيقيين المتمثلين بالياس أبي شبكة وخليل مطران، جاء هو ليدخل البهجة والأمل الى شعر يتأكله اليأس، وليكمّل المشروع الذي شرع به جبران، والذي تابعه مطران جزئياً في ما يتعلّق بالقيود المفروضة على اللغة الشعرية وضرورة التحرّر منها.
في نهاية بحثها تضع أديب الخلاصة الآتية التي تشدد على مساهمة عقل في تيارات الحداثة الشعرية: “نجد صعوبة في تصنيفه داخل تيّار محدّد، إنّه ينتمي الى كلّ التيارات وليس الى تيّار واحد. ويصبح هذا التصنيف أكثر صعوبة في حال كان المعيار الذي نعتمده هو المعيار الأوروبي – الفرنسي. فسعيد عقل ليس رومنطيقياً بحتاً، ولا رمزياً بحتاً، ولا برناسياً بحتاً. إنه أحد أوائل الشعراء الحقيقيين في مجال الحداثة الشعرية، إذا كنّا نفهم “الحداثة” استقلالاً عن النماذج الغربية من دون أن يعني ذلك قطيعة، ولكن تفاعلا ومحاكاة حرّة وغير مستعبدة كما أحبّ الكلاسيكيون الفرنسيّون ترداده”.
أما بالنسبة الى الشاعر نفسه، فإن دلالة مصطلح الحداثة تكمن في مكان آخر. يقول، في إحدى مقابلاته: “الحداثة لا اريد ان اهاجمها، ولا اريد ان احكي عنها لا بالايجاب ولا بالسلب، كل ما اريد قوله هو: اذا اردت ان تكتب شعراً، فهذا يعني ان الناس يفترض ان تصرخ بأن ما تقوله شيء غريب وجميل، وجديد، ولم يكتب مثله قبل اليوم. اذا لم يقل في شعرك هذا الكلام فأنت لست بشاعر” ¶