لا صحافة حُرّة تعني لا أوكسيجين
سعد محيو
احتفال العالم هذه السنة بيوم الصحافة العالمي، تميّز بخفقان قلب لاسابق له، نَجَمَ عن قلق وتفاؤل في آن .
القلق سببه الضغوط القاسية التي تتعرض لها الصحافة من جانب ثلاث قوى عاتية: الأولى هي العولمة الرأسمالية التي تعمل بدأب الآن على تسطيح الصحافة وتحويلها من قيمة إلى سلعة . والثانية هي الأنظمة السلطوية التي لاتزال تكمم الأفواه والرأي الحر . والثالثة هي الثورة في تكنولوجيا المعلومات التي باتت تنافس الصحافة المكتوبة، إن لم يكن في مجال الرأي والتحليل ففي سرعة نقل الأخبار .
أما التفاؤل فهو ناجم في الدرجة الأولى عن بروز وعي كوني حقيقي بأهمية الدور الذي تلعبه الصحافة، بصفتها “أوكسيجين” الديمقراطية والجسر الذي تعبر فوقه سلطة الشعب للشعب .
على خط الصدع بين هذا القلق وذاك التفاؤل، تتوزع الآراء حول مستقبل الصحافة على معسكرين اثنين:
المعسكر الأول يتكوّن من أنصار الرأسمالية المتطرفة الذين يرون أن فكرة إنقاذ الصحافة هي مجرد نفخ في قربة مثقوبة، أو محاولة لإنعاش جثة هامدة .
المُمثل الأول لهذا التيار هو محلل الإنترنت كلاي شيركي الذي يعتبر أن مايجري الآن لايقل عن كونه ثورة شاملة وكاملة ستطيح تماماً النظام القديم للصحافة، تماماً كما أطاح النظام الاقتصادي التكنولوجي الجديد النظام الاقتصادي الصناعي القديم، فالمطلوب برأيه هو صحافة رقمية تتسق مع الاقتصاد الرقمي لا أكثر ولا أقل .
هذا الرأي يحظى بدعم كامل من معسكر الشركات ورجال الأعمال الذين كانوا أساساً يُطلون على الصحافة بصفتها مجرد وسيلة لغاية تجارية بحتة، لا بكونها قيمة ووظيفة اجتماعية من الطراز الأول .
المعسكر الثاني يعترف بأنه يتعيّن على الصحافة الورقية أن تتأقلم مع الثورة في مجال تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والإنترنت، عبر الاندماج بها، وهذا على أي حال ما تفعله كل الصحف الآن، لكنه يركّز تركيزاً شديداً على ضرورة إنقاذ الصحافة كما نعرفها منذ قرن بسبب دورها الاجتماعي والوطني الكبير . فالمجتمع الحر يتطلب صحافة حرة، والشعب الحر لايمكن أن يحكم نفسه بنفسه إلا إذا ما امتلك مداخل إلى معلومات مستقلة حول قضايا العصر، وتجاوزات أصحاب السلطة الأقوياء .
ويوضح أصحاب هذا التيار أنه إذا ماتعثّرت الصحافة، فإن قطاعات واسعة من الحياة العامة والنشاطات الحكومية ستجري في الظلام من دون أي حسيب أو رقيب . وحينذاك، وحين يُسأل فرعون عمن فرعنه، سيقول إنني تفرعنت ولم يكن ثمة صحافة تردعني .
الصحافة وفق هذا الرأي ليست سلعة في السوق الاقتصادي، بل هي قيمة كبرى من قيم “الخير العام” . إنها شيء يحتاج إليه المجتمع المدني ويريده الناس، وقوى السوق غير قادرة على توليد مثل هذا الخير العام . ولذلك، يجب فهم ضرورة الصحافة الحرة والمستقلة كما نفهم ضرورات التعليم العام، والدفاع العسكري، والصحة العامة، والبنى التحتية التي ترعاها كلها الدولة . لا بل تعتبر صحيفة “ناشن” أن مفهوم الصحافة الحرة يتساوى ويتساوق مع مفهوم الأمن القومي .
منطق قوي؟ حتماً . وهو يزداد قوة بما لايقاس حين نتذكّر أنه لا ديمقراطية ممكنة حقاً، ولا مكافحة فساد واردة، ولا سلطة شعب محتملة، من دون صحافة حرة ومستقلة . ولأن الأمر كذلك، نجد أنفسنا واقفين في صف المتفائلين، وإن كان قلبنا يخفق بسرعة قلقاً .
الخليج