استعصاء في عدرا
طالب ابراهيم
صرخ شرطي مرتعب :
ـ تأمين ..تأمين..
موعد التأمين هو الثانية بعد الظهر..والساعة الآن هي العاشرة صباحاً ..
التأمين أي دخول كل المساجين إلى مهاجعهم بغية إحصاء العدد للتأكد من أن أحداً لم يهرب..
التأمين الآخر يحصل آخر الليل, أيضاً لنفس الغرض..
كان البعض يصرخ وهو يركض :
ـ استعصاء ..استعصاء…
دخل كل سجين إلى مهجعه إلا سجناء مهجع” أبو راشد” ..لقد كانوا يتسابقون للخروج منه…
وصلت متأخراً لم أستطع الوصول إلى مهجعي, شرطي قاده الخوف بسرعة فأغلق كل الأبواب عدا باب مهجع “أبو راشد” ورحل دون أن ينتبه إلى مجموعة لم تلحق بمهاجعها..
وقفت في زاوية بعيدة عن المهجع الموبوء بالاستعصاءات مع مجموعة أخرى من المساجين في “الكاردور” الطويل الذي يقسم المهاجع إلى صفين يمينية ويسارية..
كان رئيس الجناح وهو سجين أيضاً يسأل ماذا يحصل دون أن يحصل على أية إجابة..وقف خلف قضبان باب مهجعه يراقب بمرآة في يده..ويصرخ إلى أن أتاه صوت” أبو راشد” من بعيد:
ـ اخرس يا عرصى…هلق ماني فاضي لك.. فخرس الرئيس..
بدأت الصورة تتوضح قليلاً زادها وضوحاً وصول أحد نزلاء المهجع المنكوب إلى الزاوية العارية التي نتحصن بها..
لقد وصلت إخبارية من أحد عناصر الشرطة الذين يتعاملون مع” أبو راشد ” أن هناك “عَواينِيي” في مهجعه يوصلون ما يحدث في المهجع إلى إدارة السجن..
” عواينيي” أي مخبرون…
مهجع “أبو راشد” مختلف عن باقي المهاجع يشابهه في تفاصيله مهجع” قبضاي” آخر منافس له على زعامة الجناح ..زعامة الجناح غير رئاسة الجناح..
الرئاسة لعميل للإدارة ولمفرزة الأمن .. أما الزعامة فهي لأكثر المساجين جبروتاً..
“أبو راشد” يختار نزلاء مهجعه فرداً فرداً رغم أنف الجميع إدارة وأمن ومساجين..
فتح ” بسطة” في ساحته يبيع فيها كل المهربات وبأسعار خيالية ويبيع “بالدّين” وينتظر أن يسترد نقوده خلال أسبوع واحد فقط فإن لم يستطع السجين ردها عليه أن يعمل لدى ورشة الغسيل التي يملكها” أبو راشد “والمعنية بغسيل الملابس بلا مقابل حتى يعيدها….
الورشة مأجورة عملها غسيل الثياب للمساجين..وهو يغسل الثياب أيضاً ” بالدّين”..
إن الجناح يكتظ بالنزلاء , قسم كبير منهم لم يجد مهجعاً يأويه لذلك ينام خارجاً في الكردور..
ولكن مهجعا الزعيمين فيهما أسرة فارغة وهي معدة خصيصاً للإيجار..
ثمة أفراد ذوي حظوة يدخلون لسبب ما إلى السجن وهم يملكون النقود ..
” أبو راشد” يستغل تلك الحالات يحضرهم إلى مهجعه ويؤجرهم سرير ويبيعهم من بسطته ويوفر لهم ما يحتاجون له في السجن طبعاً كل شيء في حسابه..كذلك يفعل الزعيم الآخر..
هناك بعض الشّاذين جنسياً ” شاذ سلبي” في مهجعه أيضاً ..محرم على أي مهجع آخر استقبالهم هو فقط خوّل نفسه لذلك ولم يجرؤ أحد على المعارضة .. الزعيم الآخر يكره الشاذين ولا
يريدهم في مهجعه…
يملك أيضاً أجهزة تلفزيون, لقد دخلت إلى السجن عبر رشوة الإدارة, أو بتهريبها بواسطة أحد رموزها,وهي قيد الإيجار أيضاً ,ويؤجرها “بالدين “..
في نهاية كل مهجع مساحة بسيطة على يمينها ثلاثة تواليتات, وعلى يسارها ثلاثة حمامات, وفي الصدر تماماً المغاسل..
ثمة تواليت وحمام خاصين ل”أبو راشد” والبقية للبقية ,صباحاً يقف النزلاء منتظرين في صفين ماعدا ذوي الحظوة يدخلون بلا استئذان, تلك هي بعضاً من قوانين “أبو راشد”..
بعد الإخبارية التي قام بها أحد عناصر الشرطة المتعاملين معه,أدخل ثلاثة نزلاء إلى التواليتات,وربطهم وكمّ أفواههم, بعض النزلاء فضّل الخروج بهدوء من المهجع والبعض الآخر مدعوماً برضى “أبو راشد” عليه , أو بأمره ,جلس يراقب , مرسلاً ابتسامات مشوبة بالقلق…
انتشر خبر استعصاء “أبو راشد” انتشار النار في الهشيم..ووصل إلى كل أطراف السجن بما فيها الإدارة…
في البداية جاءت مجموعة من العناصر يقودهم مشرف الجناح الملازم ” مصطفى….”الذي كان شرطياً فيما سبق لكن تعامل الضباط السيئ معه, كان حافزاً له ليعيد ترتيب حياته من جديد..
حصل على الشهادة الثانوية, ودخل إلى الكلية العسكرية وتخرج ضابطاً ليعود مشرفاً للجناح السابع في سجن عدرا..
الاستقبال السيئ من قبل “أبو راشد ” وهجومه وصراخه, جعل المجموعة العسكرية تلك تركض أمامه طالبة النجدة..خلال الفترة تلك كان نزلاء السجن كله يصغون إلى جلد وشتم “أبو راشد” للعملاء كما كان يصفهم….
تقدّمت كتيبة حفظ النظام بصوت مرعب يتناغم فيه ارتطام أقدامهم بالأرض مع صراخ يعلو كلما اقتربوا من المهجع المتمرد:
ـ هِم ..هِم ..هِم.. هِم..
اقتربت الكتيبة وقد كانت أكثر من أربعين عنصراً من المجندين الضعفاء والخائفين, يثير صوتهم والهراوات التي في أيديهم بعضاً من الثقة,تبددت كلها حين مطّ “أبو راشد رأسه من الباب, ثم قفز أمامهم, وعصا طويلة في يده, و”تنكة” زيت فارغة في الأخرى..
تشتت الكتيبة.. الصفوف الأمامية التي حاولت الهرب توقفت بسبب ضغط الصفوف الخلفية التي لم تعرف ولم تر ماذا حصل…
الصفوف الخلفية مازالت تصرخ ..هِم..هِم..والأمامية تصرخ مرتعبة تريد الفرار..اختلط الحابل بالنابل, وتشابكت الصفوف, تخلى بعض العناصر عن هراواته التي سبحت في “الكاردور” الطويل, وسط استياء الملازم والذي وقف بعيداً يوجه الصفوف بمكبر أثار سخرية “أبو راشد” وضحك النزلاء في الجناح كله..
صرخ المشرف :
ـ “أبو راشد” سلم تسلم.. لا تنفعك المقاومة..
لقد نسي المشرف أن يقول “السجن محاصر”..
خرج من تبقى في المهجع, وانضموا إلينا..
تجمعت الكتيبة من جديد ورُدّ صوتها إليها أيضاً..
خرج “شمشون” مرة أخرى فتفرقت في لمح البصر بعد أن تعذّب المشرف كثيراً حتى جمّعها..
طلب منهم أن يبقوا في أماكنهم حتى يحضر مساندة أخرى, وجاءت لكنها كانت مجموعة أخرى من عناصر الحراسة والتي لا تجيد مهنة حفظ النظام ..
تمّ توزيع طعام الغداء في الأجنحة الأخرى ماعدا الجناح السابع نظراً لخطورة الأمر..
يوزع عادةً بين الساعة الواحدة والثانية بعد الظهر..
كان مشرف الجناح ينقّل صوته بين المكبر وبدونه فتارة يعلو وتارة يخبو..
في تلك المعمعة خرج “أبو راشد” يسحب في يديه عميلين, ركض باتجاه الكتيبة فتشتت من جديد..قذف العميلين, تزحلق أحدهما, وثبت الآخر فشاطه برجله في خاصرته , وعاد يحلج إلى مهجعه, ثم أخرج العميل الأخير, يمسكه من شعره الطويل, ويركله, ويشتمه, ويشتم من جنّده, على مرأى الكتيبة وقائدها وحراستها..
لقد قرر “ابو راشد” الاستسلام أخيراً …
وصل العميل الأخير إلى برّ الأمان باكياً شاكياً, ثم اختفى خلف رابية الكتيبة..
عاد “أبو راشد” إلى مهجعه بهدوء,التفت مرة أخيرة إلى الكتيبة قبل أن يدخل, وقال:
ـ الرّجّال ..يأخذني..اقتربت الكتيبة يسوقهم المشرف بحذر وبلا صوت,دخل أول عنصر المهجع ثم دخل الثاني,فالثالث وتدفقت العناصر,المشرف يراقب ,يضع المكبر أمام فمه لكنه لا يصدر أي صوت..علت صرخة هائلة كان مصدرها “أبو راشد”فتهافتت العناصر للهرب..تزحلق بعض العناصر, فتعرضوا للشوط والدهس والرفس إلى أن لحقوا بأصدقائهم زحفاً..
وقف “شمشون” منتصراً معلناً انتهاء الاستعصاء, شتم ما جادت به حنجرته,ثم أخرج شفرة حلاقة من تحت لسانه,أمسكها بين إصبعين,وحزّ جسده من أعلى كتفه الأيسر حتى رأس خصره الأيمن..وشطّب زنده الأيسر ثم الأيمن ومن ثم ساقه اليسرى فاليمنى قذف الشفرة بعيداً عنه..وجلس على الأرض يسبح في دمائه..
صرخ أحد النزلاء:
ـ “شطّب حالو ..شطّب حالو..”
ـ هل مات..ّ؟!!
ـ لا ..لا.. هذا إعلان بانتهاء الاستعصاء..
اقتربت مجموعة من العناصر لتحمله بعد أن صدح صوت المشرف يحثّهم..حملوه ..أنزل المشرف المكبر عن فمه ومسح بخار القلق المتكاثف في عينيه..وبصمت تبعته الكتيبة الظافرة.. قبل أن يغلَق باب الجناح الكبير خلفها, ركض أحد العناصر ليحضر الهراوة التي سقطت منه ونسيها في الهجوم الاول..
الزعيم الآخر بدا مستاء,لعله يفكر باستعصاء يكون أشد إثارة من استعصاء غريمه..
نسي الجميع داخل المهاجع جوعهم..وحدنا كنا في” الكاردور” الطويل نعيد تفاصيل الاستعصاء شبراً شبراً..
كاتب سوري
خاص – صفحات سورية –