نكش باطن الأكذوبة
صبحي حديدي
في عام 1906 نحت تيودور روزفلت (1858 ـ 1919) الرئيس الأمريكي الـ 26، عبارة طريفة، فظّة بعض الشيء مع ذلك، في وصف طراز خاصّ من الكتابة الصحافية: ‘النكش في السماد الحيواني’ Muckraking، أو بمعنى أوضح: تقليب القاذورات وإظهار ما هو مستور من أوساخ وقبائح. واستمدّ روزفلت ذلك التوصيف من شخصية حامل المِدَمّة Rake، أداة تسوية العشب وتقليب التربة والسماد، في رواية الإنكليزي جون بنيان ‘رحلة الحاجّ’، 1678، فقال: ‘إنه رجل ليس في وسعه أن ينظر إلا إلى أسفل، والمِدَمّة في يده؛ وقد بُورك بتاجّ سماويّ بسبب شغله هذا، لكنه لم يتطلع إلى أعلى، ولم يكترث حتى بإبصار التاج، وظلّ يشغل نفسه بنكش القاذورات في الأسفل’.
لكنّ الحياة، وتطوّر تقاليد الكتابة الصحافية وأخلاقياتها، تكفلت بتطهير التعبير من مضمونه السلبي الفظّ، وبات على العكس صفة حميدة لذلك الصحافي ـ المحقق، الذي يكشف أستار وأسرار قضية سياسية أو اجتماعية أو مالية تمّ إخفاؤها عن المجتمع، بتواطؤ من هذه السلطة أو تلك في أغلب الأمثلة. ومنذ إطلاق العبارة، شهد العالم عشرات الأمثلة على ذلك الصحافي الذي يتعب ويكدّ ويغامر ويجازف حتى بحياته، من أجل إماطة اللثام عن الحقيقة: صمويل هوبكنز آدامز في سلسلة تحقيقاته ‘الدجل الأمريكي الأكبر’، 1905، حول التلاعب بالأدوية؛ راي ستانارد بيكر، في كتابه ‘اقتفاء اللون’، 1908، حول التمييز العنصري؛ شارلوت بيركنز غيلمان، حول إساءة تشغيل الأطفال؛ أبتون سنكلير، في ‘الغاب’ 1906، حول تعليب اللحوم؛ ثمّ، لكي نضرب مثالاً من العقود الحديثة، سيمور هيرش الذي كشف مذبحة ‘ماي لي’ في فييتنام، وفظائع سجن ‘أبو غريب’ في العراق، بين قضايا أخرى كثيرة…
وفي حدود ما أعلم، وفوق كلّ ذي علم عليم، لا أعرف جهة صحافية تمارس نكش أباطيل سياسات الولايات المتحدة، بصفة خاصة ولكن ليس حصراً، مثل الموقع الإلكتروني ‘اللكمة المضادّة’ CounterPunch، الذي يديره من أمريكا الصحافي الإرلندي اليساري المعروف ألكسندر كوبرن، وذلك منذ عام 1994 حين انضمّ إلى صاحب النشرة الأصلي كين سلفرستين، بالتعاون مع جيفري سانت كلير. وطيلة عقدين قبل هذا، ولكن الآن أيضاً، لم يتوقف كوبرن عن تشريح ما يُسمّى ‘الحلم الأمريكي’، بدأب وعناد ويقظة، وسخط وسخرية وجسارة، ليس البتة دون رصانة وعمق وموضوعية قلّما نجد لها مثيلاً في الأساليب الصحافية الراهنة.
في حرب الخليج الثانية، 1990، كان أوّل من امتلك شجاعة التشكيك في صحّة حكاية حاضنات الأطفال الرضّع، حين كان السواد الأعظم (في الغرب والشرق على حد سواء) يذرف الدموع السخية توجّعاً من هذا السلوك ‘البربري’. وأثبتت الأيام أن الحكاية مفبركة تماماً، وأنّ مؤسسة عملاقة مختصة بالعلاقات العامة قبضت مبلغاً خيالياً لإعداد السيناريو، الكفيل بكمّ أفواه مَنْ ينوي الاعتراض على الحرب. وكان كوبرن هو الذي ذكّر العالم بأسره أنّ ونستون شرشل، البطل القومي البريطاني وحامل جائزة نوبل، هو أوّل من أعطى الإذن باستخدام الأسلحة الكيماوية والغازات السامة ضدّ بدو العراق في الجنوب، تحت الذريعة الصريحة التالية: ‘الأسلحة الكيماوية تمثّل تطبيق العلوم الغربية على الحرب الحديثة. إننا لا نستطيع تحت أيّ ظرف الضغط باتجاه منع استخدام أية أسلحة متوفرة وقادرة على إنهاء الفوضى السائدة على الحدود’.
وحين فاز الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون في انتخابات الرئاسة الأولى، كان كوبرن أوّل مَنْ كشف النقاب عن هذه الحقيقة الصاعقة: أنّ عمليات تبييض أموال المخدرات، وتدريب مختلف ‘كوادر’ المهنة من طيّارين وموزّعين ومبيّضي أموال، كانت كلّها تجري في بلدة مينا، ولاية أركانسو، حيث كان كلينتون هو الحاكم، الذي رفض مئات العرائض المطالبة بإغلاق مطار البلدة الفاسد. كذلك برهن كوبرن أنّ مقرّ الحاكم، في ليتل روك، كان مسرحاً لأكثر من فصل واحد في فضيحة ‘إيران ـ غيت’ وصفقات الأسلحة إلى عصابات الـ’كونترا’: هناك نسّق أوليفر نورث مع بودي يونغ (المسؤول عن أمن كلينتون الشخصي)، وعميل المخابرات المركزية فيليكس رودريغز (الذي ظلّ يفاخر بأنه انتزع ساعة شي غيفارا، حين كان الثوري الشهيد جثة هامدة، واحتفظ بها للذكرى).
وفي كتابه ‘العصر الذهبي كامنٌ فينا: رحلات ومواجهات’، وضع كوبرن بعض أقانيم ‘الحلم الأمريكي’ على المحكّ، بصدد الكوارث الطبيعية، ومهازل لجان الكونغرس، والصراع المزعوم بين نزعة نيو ـ ليبرالية شبيهة بأختها النيو ـ محافظة، وعطالة الضمير الأمريكي، وسواها من ظواهر أخرى حجبت الحقائق وأخفت ما هو أعظم. كتابه ‘حملات صليبية إمبريالية: العراق، أفغانستان، يوغوسلافيا’، سبقه كتاب ذو عنوان طويل ولافت: ‘العداء للسامية: كلّ ما أردتَ أن تعرفه عن العداء للسامية، ولكنك شعرتَ بأنكَ أكثر إحساساً بالذنب من أن تطرح السؤال’، وبينهما كتاب بعنوان ‘فارق شروى نقير’ حول زيف الفارق بين الجمهوريين والديمقراطيين.
وهكذا يواصل كوبرن البرهنة على ضرورة النكش في أكوام الأكاذيب، متابعاً أفضل تقاليدها، مسلحاً بضمير قلق ويقظ في آن، دائب التدرّب على الغوص عميقاً في الظاهرات، دائم التوثب إلى كشف الباطن الحقيقي أسفل ركام الخداع والخديعة.