انـفــلـــونـــزا الــرمـــــاد
بشير البكر
في منتصف التسعينات من القرن الماضي كرهنا البقر والخنازير، حينما اكتشفت أوروبا مرض جنون البقرة القاتل. صار الواحد منا يتطير من رؤية لحم البقر الانكليزي، الذي كان الحامل الأول لهذا الفيروس، والناقل له إلى بقية أنحاء العالم.
ظل الاعلام الموجه في تلك الفترة يشحننا ضد البقرة، حتى فقد حليبها مذاقه، وعافت أنفسنا لحمها الشهي، وتدريجيا سقطت كل قيمة لها، فغدت آلاف الأبقار تسرح في الأرياف من دون ان يكترث بها أحد، سواء أكانت ابقاراً حلوبة، أم مشهداً لتزيين الطبيعة. سرعان ما باتت البقرة الودودة مرادفا للعنة الوبائية، التي ترقى إلى الطاعون في عصر غابر.
أمام مأساة هذا الحيوان الذي يرمز كثيرا في الأديان “إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة” (حديث نبوي) والميثولوجيات كافة، بقيت ساحات مصارعة الثيران مفتوحة، شاهدة على نحو جنوني على شراسة الوحش البشري، الذي لا ترتوي غرائز العدوانية لديه، إلا حينما يرى مصارع الثيران الفحل، وقد غرز نصل سيفه الحاد في رقبة الثور.
ومن المحزن جدا، أن البقرة التي ترقى إلى مرتبة الأم في بعض الثقافات الانسانية، لم تجد من يقف إلى صفها، بل سارعت الكثير من الدول الأوروبية إلى نصب مزادات إعدام جماعية لها كوسيلة وحيدة لدرء المرض. وباستثناء بعض البلدان القليلة، لم تجر حتى فحوص بسيطة للتأكد من إصابة القطعان، التي كانت تساق الى افران الغاز بعشرات الآلاف يوميا.
ما كدنا ننسى جنون البقر وأحواله وشجونه والانهيارات النفسية، التي تسبب بها على نطاق واسع في القارة العجوز، حتى هجمت علينا بعد نحو عقد من الزمن، الحمّى التي أصابت قطعان الأغنام، وتلتها “أنفلونزا الطيور”، التي كانت اكثر فداحة، إلى حد أن الشحن الاعلامي جعلنا نترحم على عوالم هيتشكوك صاحب الفيلم الأثر حول الطيور المتوحشة. فكلما شاهد الأوروبي طائرا غريبا أو حمامة كسيرة، وحتى عصفورا مبللا بالمطر، مستريحا من عناء التحليق، أصابه مس من الرعب.
باريس التي تسرح في ساحاتها العامة، وتعشش في سقوف عمارتها التارخية قبائل الحمام البري الأزرق وعصافير الدوري، تحولت بين عشية وضحاها مسرحاً لمجموعة من العقبان، أين منها شراسة صقور اشقائنا في الخليج. فبينما يكون المرء مسترخيا على مقعد في احدى الحدائق أو الساحات، ينتهز شعاع الشمس الضعيف، حتى يفاجأ بغارات هذه البواشق المدربة، التي تغير على الحمام والعصافير بشراسة طائرات إف 16 الأميركية، وفي لمح البصر لا يعود للطيور البريئة أي أثر. تبدأ أجنحتها النحيلة بالاصطفاق، وخلال ثوان معدودة تولي الهرب، وإلى أين؟ إلى عنان السماء بعيدا، لكي لا يلحق بها إبن جلدتها العقاب الكاسر، الذي استقدمته وزارة الداخلية، ودرّبته على وسائل ترويع الطيور البريئة، كوسيلة وحيدة لطرد مرض “انفلونزا الطيور” من الشوارع.
ومثلما هجرنا البقر وأسقطنا مكانته الرمزية من حياتنا، فقد رضخنا تدريجيا للحرب النفسية، واستسلمنا لمنطق طرد الطيور من المخيلة، وقبلنا بالعزوف عن لحومها، وصار الواحد يخشى حتى من تحليقها في الاجواء. وإمعانا في النكران، قاطعنا بحيرات البجع ونسينا “منطق الطير” حد الامتناع عن مناداة الصديقة العزيزة بالعصفورة والحمامة، خشية أن تصيبنا بأنفلونزا لا شفاء منها، وخصوصاً إذا كان المرء مريضا مزمنا بالحساسية كما هي حالي، ولديه ضعف تجاه طيور فريد الدين العطار، في معراجها الصوفي، ورحلتها في أودية العشق والتوحد.
وحدهم الصيادون في وسط فرنسا وغربها، لم يسمعوا بأخبار اجراءات وزارة الداخلية، التي صارت تقيم حواجز طيارة في الجو، لمنع الطيور المهاجرة من دخول الأراضي الفرنسية، لذا واصل هذا النفر من العتاة المدرّبين على تشحيم بنادقهم واخراجها من بيوتها الجلدية، التمركز على المنافذ والطرق المعتادة لهجرة الطيور، لاصطيادها جماعات، وهي راحلة في نهاية الخريف بحثا عن الدفء في الجنوب، أو هي عائدة نحو الشمال في أواسط الربيع، لكي تضع بيوضها في بلادها الأصلية في الشمال.
أصبح هؤلاء الجنود المتقاعدون عن حروب العالم الثالث حلفاء وزارة الداخلية في مطاردة الطيور المهاجرة، وقفز رصيد حزبهم (حزب الصيادين في البر والبحر) العنصري اليميني في استطلاعات الرأي، وصارت القوى السياسية تخطب ودهم في كل انتخابات، لما لبطولاتهم الجليلة من وقع في الذهنية الشعبوية الهشة والخائفة حتى من خيال طائر.
بعدما امتنعنا طوعيا من استضافة لحوم البقر والعجول والدجاج والبط في صحوننا، قررنا أن نتحول نحو الأسماك، وكنا نظن أنها ستكون ملاذنا الأخير، فهي الخارجة من ملح البحر، طاهرة عامرة باليود، لا يدركها مرض ولا تفسد مودتها مشيئة الانسان المتوحش، وصار الواحد يقتنع شيئا فشيئا بأن حضارة الماء هي الحضارة الانسانية الوحيدة التي ستكتب لها السعادة، فالبحر مهد الابجديات الأولى، هو الذي حملت رياحه رائحة الانسان لاخيه الانسان إلى الضفة الأخرى. وهو صنو الفتنة والجمال.
غاب عنا ما يحمله مجهول البحر، فما كاد هذا الخيال الطوباوي أن يأخذ في الانتشار، حتى طلعت علينا موضة جديدة، وهي ان الاسماك بدورها ملوثة، وبعضها يحمل مواد سرطانية، وخصوصا تلك التي تجري تربيتها في مزارع بحرية، حيث تتم تغذيتها بنفايات حيوانية، بعضها مستخرج من رفات أبقار مجنونة.
يا للهول! ألا يكفي أن السرطان يفتك بالبشر على الارض، ولا أحد يعرف كيفية فك لغزه اللعين، ومن أين يأتي، وكيف يصطفي ضحاياه من بين البشر الجميلين من حولنا، حتى يفاجئنا البحر بهذه الهدية المسمومة؟!
لا مفر من أن يتحول الانسان نباتياً. عليه بأن يقبل مصيره مثل حكماء الهنود، فيعود إلى عطايا الأرض من فجل وكوسى وخيار وبامياء وبندورة وبصل وهندباء وبرسيم وأعشاب. عليه أن يرعى حتى يملأ جوفه، ولن يكون هناك ما يبعث على القلق، لا جنون ولا انفلونزا ولا سرطانات.
وعليه، تحولنا نباتيين وبيئويين، وبتنا نمنح أصواتنا الانتخابية لحزب الخضر، الذي جاء معظم قادته من اوساط الحمر، بعدما وضعت الحرب الباردة اوزارها، وانتهت موضة الايديولوجيات الطليعية.
لوهلة من الزمن اعتقد المرء ان في الرجوع إلى الطبيعة دواءه الشافي، وصار البعض منا يحلم بالعودة الى قريته، لكي ينكش بستان امه ويزرع الخس والبصل والرشاد والبقدونس والبندورة، ويتقاعد هناك وسط هذه الخيرات التي حبتنا بها أمنا الأرض. ولكن ما إن بدأ التفكير يستقر في هذا الاتجاه، حتى جاءت حكاية التربة والمياه الملوثة بالاشعاعات النووية، وبدأت المستشفيات تتحدث عن مواليد مشوهين، وتكاثر الاصابات السرطانية التي تتسبب بها الاشعاعات النووية، وخصوصا تلك التي تسربت من مفاعل تشيرنوبيل السيئ الصيت، ثم تلت ذلك حكاية الموروثات النباتية المعدلة، التي اخترعتها مخابر الشركات الكبرى المتعددة الجنسيات، من اجل زيادة الانتاج وتحسينه.
تدريجيا صار الصحن اليومي اشبه بخلطة من السموم والفيروسات والاشعاعات النووية، التي تؤدي إما الى الجنون وإما الموت بالسرطان. لم يعد هناك مهرب آمن، كل طعام خاضع لقانون الشبهة الجديد، ولا عزاء لمن كانت تعنيهم الحياة اولا.
زاد في ذلك كله منع التدخين، فبات حمل سيكارة بين الأصابع في مكان عام أو مقهى، أخطر من التلويح بقنبلة يدوية، فصرنا ننزوي ونلوذ بالأركان المنبوذة هربا من النظرات الاتهامية، التي تكاد تحملنا مسؤولية كل الامراض المترتبة على ملازمة السيكارة، التي بقيت بالنسبة الى البعض الصديقة، التي لا بد منها وإن عظم الخطر، ولكن يبدو أنه لا مفر من ذلك. فالترهيب وصل إلى حد ان سعر علبة السكائر قارب سعر وجبة عائلية، كما أن الاعلام خاض حربا “مقدسة” ضد التدخين، بلغت من العداوة استصدار قرارات تمنع اعادة عرض كل فيلم سينمائي، أو نشر أي ملصق او صورة تظهر فيها السيجارة.
بلغت ذروة عذاب ما قبل القبر أوجها في السنة الماضية، حينما انتشر وباء “انفلونزا الخنازير”، الذي أول ما ظهر في المكسيك، وهو ما كاد يقطف أولى ضحاياه حتى بدأ العالم بتسوير حدوده أمام كل قادم من قارة اميركا اللاتينية قاطبة، وصار المسافر الآتي من هناك يتعرض للحجر الصحي في صورة أوتوماتيكية، وسرعان ما سرت هستيريا جماعية بسبب الضخ الاعلامي المركز، وصلت إلى تحريم المصافحة والتقبيل ولمس الكائنات الأخرى، والاشتباه في كل من يعطس، حتى تثبت سلامته، وتحولت المطارات مصحات ميدانية تفحص البشر قبل ركوب الطائرات، واستنفرت جميعها خلايا طوارئ لمطاردة حملة الفيروس اللعين.
دب الرعب في الشوارع والبيوت، حتى بات افراد العائلة الواحدة يخشون الاقتراب بعضهم من البعض، بل انهم أخذوا يبادرون إلى إبلاغ السلطات الصحية، إذا ما شعروا بارتفاع درجة حرارة احدهم لكي يتم حجره، فإذا كان لا بد أن يموت فليمت وحده فقط، وبعيدا من أعين بقية عائلته، التي تعلن، من دون مواربة او شفقة، أنها براء من مرضه، حتى لو كان انفلونزا غبار الطلع، التي تسبب الحساسيات المزمنة.
ارتفعت هستيريا الرهاب إلى مستويات خرافية، واضطر الناس لشراء الكمامات، التي أخذوا يداومون على تعليقها على انوفهم، وصار البعض يرتدي القفازات الواقية، بينما خلد كبار السن إلى منازلهم، معتكفين فيها حتى يقضي الله امرا كان مفعولا.
ما كاد غبار هذه الهبة اللعينة ينقشع جزئيا، حتى جاءت أخيرا أبخرة بركان إيسلندا التي هانت أمامها للوهلة الأولى كل الكوارث السابقة، فبين لحظة وأخرى ظن البعض أن البشرية سوف تختنق عن بكرة ابيها في بضعة ايام، وفي ظل الارتباك العام وغياب المعلومات الدقيقة، تبادر إلى أذهان البعض ان الحمم التي ينفثها البركان العجوز في طريقها إلى تلويث الاجواء الكونية، وأنها سوف تقود خلال اسابيع قليلة إلى نفاد الاوكسيجين، كما انها سوف تلوث المياه والمحاصيل النباتية، ومثلما تصيب البشر، سوف تؤدي الى هلاك الحيوانات والطيور.
لم يتم التصريح بذلك رسميا من أي جهة طبية، ولكن الخيال الشعبي العام القلق والخائف والحائر، الذي بات منخورا بفعل فداحة الكوارث التي توالت خلال عقد ونصف عقد من الزمن، ليس له ما يجعله يتصور غير هذه الرؤى القيامية الهلاكية السوداء.
على العموم لم تصل تداعيات المشكلة إلى هذا الدرك من الفداحة، على رغم عنف الصدمة الأولى، وهي لا تزال في مكان آخر حتى الآن، وتنحصر حتى أمد منظور في صورة أساسية في الأزمة، التي عرفها قطاع النقل اعتبارا من عطلة نهاية الاسبوع الذي صادف يوم 17 نيسان.
لكن كان يكفي أن يجلس المرء دقائق قليلة امام شاشة التلفزيون، لمعاينة ردود الفعل، حتى يصاب بالدوار والاحباط. ففي فرنسا مثلا، كان العثور على مقعد في قطار يذهب الى احد بلدان الجوار شبيها بالمعجزة، فسرعان ما انتشرت الطوابير امام محطات القطارات، بعدما اغلقت المطارات ابوابها، وزاد في الطين بلة أن قطاع السكك الحديد يواصل اضرابه المفتوح منذ حوالى اسبوعين، وقرر ان يمدده في ظل هذا الاختناق، لكي يبتز الحكومة التي كانت تستعد للذهاب في اجازة عيد الفصح.
ما لنا والحكومة، فهي تعرف ماذا تفعل، ولكن هل يعقل ألا يجد المرء تذكرة قطار الى دولة مجاورة، ويجد نفسه مرغما على استئجار سيارة تاكسي تكلفه اكثر من الف دولار، بينما يجلس سائقو القطارات في منازلهم، على أمل ان تتنازل الحكومة امامهم، لكي يقرر هؤلاء اطلاق سراح عشرات آلاف المسافرين المنتظرين في محطات القطارات؟
***
بعد ظهيرة ذلك اليوم، مكثت في الطابور اربع ساعات، لكي احصل على بطاقة سفر في القطار للذهاب من باريس إلى ميونيخ، فرحلتي على طائرة لوفتهانزا التي كانت مقررة في صباح اليوم الثاني ألغيت. لم يكن أمامي خيار غير القطار الذي تستغرق رحلته بين باريس وميونيخ اكثر من عشر ساعات، لذلك حشرت نفسي بين صفوف المنتظرين، لعلي افوز بمقعد خلال 48 ساعة، لكي أذهب للقاء عمتي القادمة من سوريا لزيارة ابنها الطبيب المقيم هناك.
حضرت عمتي الثمانينية إلى ميونيخ منذ اسبوع، لكنها وصلت متوعكة وجرى نقلها من المطار الى المستشفى مباشرة، وقد عزت السبب إلى ركوبها الطائرة للمرة الأولى في حياتها. كنت أريد أن أذهب لرؤيتها منذ أول يوم لوصولها، لكن ابنها كان يحثني على التريث، فهو يحضّر لاحتفال عائلي كبير بعد تعافيها وخروجها من المستشفى، ولأن المدة طالت، قررت ان أذهب وأنا أعرف اني ذاهب لتوديعها، واتصلت بها هاتفيا لأخبرها بقدومي، ورجوتها أن تتقاوى على بدنها وتغادر المستشفى اللعين، فقالت لي إن الاطباء الألمان يرفضون ذلك، وقرروا احتجازي بعدما اكتشفوا ان شراييني كلها مسدودة منذ زمن طويل، واستغربوا كيف انها تحملت الضغط الجوي ولم تمت بالسكتة القلبية داخل الطائرة.
فرحت كثيرا حين اخبرتها بقدومي، وقالت لي اني احمل لك رائحة أمك، فلا تتأخر، فقد تتبدد الرائحة في أروقة المشفى. وحينما اعلمتها ان رحلة الطائرة الغيت، وأني فشلت في الحصول على مقعد في القطار، ضحكت وقالت لي، ألا يوجد لديكم جمال في فرنسا؟
كانت تلك جملتها الأخيرة قبل ان تودع الدنيا مساء الأحد. كان يمكنني أن أراها وأعود بشيء من رائحة أمي، لو أن رحلة الطائرة لم تلغ. لو أن سائقي القطارات كانوا أقل جنونا من سلالات البقر الانكليزي.
سلاما لجمال عمتي التي ترعى في براري الجزيرة، بين ديار بكر والشامية، حينما كانت تغني للقطعان، معتلية هودجها، تحت سماء القطا، على رغم انها كانت مصابة بأنفلونزا الفراشات ¶
ملحق النهار الثقافي