مانيفست أسود لأحوال الثقافة العربية تحت الرقابة
خالد غزال
شكلت الرقابة على الكلمة والإنتاج الفكري هاجس السلطة في المجتمعات الإسلامية والعربية منذ تشكلها. لم يخل عهد أو نظام من التصدي للثقافة،ومن فرض عقوبات طاولت العاملين في هذا المجال، كما ظلت العلاقة بين السلطة والثقافة متوترة على امتداد جميع العصور. يزداد الأمر سوءا عندما تنجدل هذه العلاقة بالإستبداد الذي يشكل السمة الأساسية في النظام العربي الإسلامي، وهو استبداد عانت منه الكلمة شتى أنواع الإضطهاد. على رغم أنّ أنظمة دول الإستقلال العربية قد نصت في دساتيرها على الحرية الفكرية وحق إبداء الرأي، وكفلتها في الدساتير والقوانين والتشريعات الموضوعة، إلاّ أنّ هذه الحقوق ظلت خارج السياق العملي في الممارسة، فما كان يجري على الأرض يعاكس تماماً الحقوق المعطاة، بل يترجم اضطهادا متعدد الاشكال. لم تكن الحالة العربية فريدة في بابها، فقد عانت المجتمعات الأوروبية من سلطان الرقابة على الكلمة والثقافة، ودفع مثقفون أثماناً باهظة جواباً عن إبداء الرأي والتعبير عن رفضهم للطغيان، من محاكم التفتيش إلى أنظمة الإستبداد لاحقاً، قبل أن تصل الى قيام انظمة ديموقراطية تحمي الكلمة بسلطة القانون والمجتمعات المدنية.
في المجتمعات العربية، تثير كلمة الرقابة الخوف، الذي يتسبب في خلق صورة سوداوية يصاب بها المثقف والكاتب أو كل عامل في مجال إنتاج الكلمة، وهو خوف تلمس نتائجه مباشرة، لارتباطه بمفهوم العقاب، سواء اتخذ شكلاً مادياً أم معنوياً أم رمزياً. بلغت الرقابة أحجاما استثنائية في العقود الأخيرة، وخصوصا بعد الهزيمة الكبرى عام 1967 وما تركته من تداعيات، وكشفت المستور من السياسات والوعود التي تكشفت عن خواء، ووضعت الانظمة والسلطات القائمة في مواجهة الشعوب العربية المحبطة، فلم يكن أمام الحاكم العربي سوى القمع وسيلة لمنع ردود الفعل، أو طرح أسئلة من نوع: لماذا حصل ما حصل، ومن يتحمل المسؤولية؟ لكنّ زمن الهزيمة المتوالي فصولاً بعد أربعة عقود، وسّع من دائرة الرقابة على الكلمة، وأضيفت اليها رقابات فاعلة تمتلك سلطات مادية ومعنوية، فشهدت هذه المجتمعات الرقابة الإيديولوجية التي تقوم بها ايديولوجيات حاكمة او حزبية ذات منحى محدد في التوجه الفكري والثقافي، وتسعى إلى قولبة المجتمع وفق المفاهيم التي تقول بها. وهناك الرقابة الدينية التي لم تتوقف يوما في التاريخ، لكن مدى سلطانها امتد واتسع في العقود الأخيرة، بعدما توثقت العلاقة مع السلطة السياسية وقامت صلة تبادلية بينهما. واندغم هذان النوعان من الرقابة مع سلطة العادات والتقاليد والأعراف السائدة التي تضخمت مع ارتداد المجتمعات العربية إلى مزيد من التقهقر، بعد انهيار بنى الدولة وصعود العصبيات بأفكارها ومفاهيمها البائدة، لتنتج جميعها، القمع المادي والرمزي المباشر، ولتولّد في المقابل رقابة ذاتية يمارسها الفاعل الثقافي على ذاته، ويتولى بموجبها ممارسة القمع على نفسه من سلطة خفية تكمن في داخله، تبدو، احيانا كثيرة، اشد فظاعة، من قمع السلطات القائمة.
يختصر الكاتب السوري ياسين الحاج صالح “رسالة” الرقابة بالقول “إنّ الرسالة التي تكمن وراء الرقابة لا ترتد إلى المنع بمقدار ما تتعلق بتأكيد أين تكمن السلطة الحقيقية وبيد من القرار الحاسم، ومن يمنع ويسمح ويحل ويربط” (جريدة الحياة، 31-10-2009).
في رقابة السلطة وأجهزتها الأمنية
تأخذ الرقابة التي تمارسها السلطة طابعها القمعي والمتشدد من كونها تستند إلى تشريعات تنص عليها الدساتير والقوانين، وهي في هذا المعنى رقابة تخضع الثقافة والعاملين فيها إلى القمع المادي في حال المخالفة، بما يجعلها في الواقع من أقسى أنواع الرقابات، كون السلطة تستطيع بواسطتها توجيه السياسات نحو مصالحها الخاصة بقوة القانون والأجهزة الأمنية الخاضعة لها. على رغم أنّ معظم دساتير الدول العربية اعتمدت في السنوات الأخيرة، بالتوافق مع التشريعات الدولية المتصلة بحقوق الإنسان، مواد دستورية تحفظ الحق في التعبير عن الرأي وتكفله بموجب القانون، إلاّ أنّ الممارسة الفعلية كانت بعيدة جدا عن التزام هذه النصوص، حيث كانت التشريعات التطبيقية والقوانين التفسيرية والملحقة بالدساتير تطيح النص الأصلي، لصالح قرارات زجرية، تصبح هي القوانين الأصلية.
تتعدد أجهزة الرقابة، فلا تقتصر على مراقبين عاملين في وزارة معنية بالجانب الثقافي مثلاً، بل تتولى الرقابة أجهزة أمنية ومخابراتية، تحدد ما هو مسموح وما هو غير مسموح به. ولعل مجمل العاملين في إنتاج الكلمة لا يعانون من الرقابة من حيث المبدأ، بمقدار ما يعانون من إخضاع إنتاجهم لأجهزة يتسم القائمون عليها بعدم الإختصاص، والجهل وانعدام المقاييس لديهم في تقويم أو تصنيف هذا النص أو ذاك، وخصوصاً في المجالات الأدبية أو الفكرية أو التاريخية أو الفنية… حيث “يطال تقييد الحريات المطبوعات والجمعيات والتجمعات ووسائل الإعلام، أي باختصار كل مراكز صناعة الرأي، مما يخصي فاعليتها في التنوير والتثقيف والتوعية” (مصطفى حجازي، “الإنسان المهدور”، ص174) ، فلا تتورع هذه الأجهزة عن اتخاذ قرارات القمع أو المنع من النشر وفق مزاج هذا المسؤول أو الرقيب. هكذا تعكس الرقابة السائدة عربيا، وبقوة، حجم التخلف الذي تعاني منه مجتمعاتنا، ومدى الرعب الذي يصيب الحكام العرب من الحرية، التي ترى فيها نقيضها ومصدر الخطر عليها، في حين أنها تشكل الشرط الأول والضروري للإبداع وتفتح الوعي.
يحتاج القمع المادي العاري الذي تمارسه أجهزة السلطة، إلى تبريرات سياسية وإلى نشر مناخ إيديولوجي يجري بموجبه إقناع المجتمع بالحاجة إلى ممارسة الرقابة وإلى الإجراءات الرادعة المرافقة لها. تبتدع السلطات الإستبدادية الحجج المتنوعة والمتعددة، كل مرة وفق الظروف السياسية التي تكون قد استجدت. في مراحل من التاريخ السياسي العربي، جرت أدلجة الرقابة وتبريرها بحجة القضية القومية الكبرى والنضال لتحرير الأرض، التي تعلو أهدافها فوق كل هدف، فقمعت الديموقراطية والحريات، وأسكتت الأصوات المعترضة على السياسات الرسمية خوفاً من إلهاء الحاكم عن القضية الكبرى، وكان يومها شعار “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة” كاسحاً ومهيمناً. وترافق الشعار مع رقابة مشددة على الإنتاج الثقافي خوفاً من أن تصيب ثقافتنا العربية آثار الغزو الفكري الآتي إلينا من العدو الصهيوني أو من الغرب الإستعماري، وتتسبب في نشر اليأس والإحباط والإستسلام أمام العدو. ساعدت هذه التعبئة الإيديولوجية في إيجاد المناخ المناسب لتقبل الشعب لمختلف انواع الرقابة، بل وتبريرها والدفاع عن القائمين عليها.
بعد تهافت الشعارات القومية والوطنية واستخدامها شمّاعة لممارسة الرقابة، استعارت الأجهزة شعارات من نوع المس بالوحدة الوطنية وتهديد المجتمع بنشر الخلافات بين أبنائه وإثارة الأحقاد السياسية من خلال المس بالنظم والثقافة والتقاليد السائدة، وصولاً إلى اعتبار هذا الإنتاج الثقافي أو هذا الرأي يمس بالأمن القومي وهيبة الدولة، ويتسبب في إثارة التناقضات الطبقية والطائفية. في الأعوام الأخيرة، وتحت حجة مكافحة الإرهاب، استغلت السلطات انتشار الحركات الإرهابية والممارسات التي تلجأ اليها في الجانب الأمني، لتفرض مزيدا من القيود على الحريات والأفكار، وتتشدد في مراقبة الكلمة، وكل وسائل الإعلام والنشر والصحافة، خوفاً من خطر إفادة الإرهاب من توظيف الكلمة في خدمة أهدافه، فاستغلت هذا الواقع لتعمم الخطر الإرهابي، وليطال ميادين ثقافية لا تمت بصلة إلى السياسة ايضاً، ولتمعن في تقسيم الشعب وتصنيف فئاته وتعيين الأعداء منهم الذين يجب التنكيل بهم.
نجحت السلطات العربية في بناء “دول امنية” قائمة على الإستبداد، وساعدتها الإيديولوجيات ذات الطابع الشمولي والقبلي- العشائري في تكوين شخصية للإنسان العربي محكومة بالخوف والريبة والشك، عبر كمّ الأفواه وفرض العقاب المتعدد الأشكال جواباً عن كل اختلاف. ترجمت هذه السياسة على قطاع الثقافة والمثقفين، قمعاً واضطهاداً وتشويهاً لموقعهم، وملأت بهم السجون، ونكّلت بالكثير منهم، وشرّدت قطاعات واسعة وفرضت عليهم التهجير خارج العالم العربي، وعانت أقسام كبيرة من الذل والإهانة والصعوبة في تأمين متطلبات حياتهم. إلى جانب القسوة الشديدة في التعامل، نجحت السلطة في تدجين أوساط واسعة من العاملين في الثقافة، فأدخلتهم في إدارات الدولة، ووظفت مقدرتهم الثقافية في تقديم صورة “عصرية” للنظام، فصاروا مؤدلجيه ومبرري سياساته ومروجي مفاهيمه في الحكم. هكذا نشأ ما يجري تسميته بـ”مثقفي الحظيرة” الذين وضعوا انفسهم في خدمة السلطة، أو ما أطلق عليهم الكاتب التونسي الطاهر لبيب تعبير “المثقفين المقاولين”، وهم المقيمون في بلدانهم، والمتجولون في العالم العربي بائعين “بضاعتهم الثقافية” وما يملكونه من معرفة للجهة التي تدفع أكثر. ازدادت حاجة السلطة العربية في العقود الأخيرة إلى إنتاج مثقفيها العاملين في خدمتها، للتنظير لشرعية السلطة المفقودة من شعوبها، مع تعطل الحياة الديموقراطية والفشل في تحقيق الوعود الني نالت شرعية الشعب على تفويضها بالسلطة.
رقابة المؤسسة الدينية
لا تعود الرقابة التي تمارسها المؤسسة الدينية الإسلامية إلى الزمن الحديث، بل هي تنتمي إلى الماضي البعيد، ومنذ نشوء الإسلام وتكوّن المؤسسات السياسية والدينية فيه. سبق للمسيحية أن مارست هذه الرقابة واستخدمتها في الصراع على السلطة. قبل أن تصبح هذه الرقابة ذات وظيفة سياسية واجتماعية، استندت إلى عنصر “إيديولوجي” يتصل بطبيعة الفكر اللاهوتي ومكوّناته الذي يرى، في العمق، قصوراً للانسان عن القيام بواجباته، فحدّد له الوصايا والقواعد ليمارس واجباته الدينية والإجتماعية، من خلال النصوص المقدسة. بذا شكلت هذه النصوص أول مدماك في الرقابة المعنوية والرمزية على الإنسان وممارساته، قبل أن تتحول هذه الرقابة عنصراً مادياً يقوم على الزجر والردع.
توسّع نشاط المؤسسات الدينية في ممارستها للرقابة، فلم تعد تكتفي بما تقول به النصوص المقدسة، بل وسعت من اجتهاداتها لتطال رقابتها مجمل المجتمع، بما فيه التدخل في شؤون الحياة اليومية والحياة الشخصية للإنسان العربي. يتجلى دورها في الميدان الثقافي من خلال الرقابة على الخلق، والتدخل في إجازة هذا النص أو منعه، وإصدار الفتاوى الضرورية لمممارسة هذه السلطة. حتى أنّ بعض هذه المؤسسات باتت تضع مقاييس للإنتاج الثقافي تتصل بمدى انتسابه إلى الإيمان الديني فتجري إجازته، أو إلى ما يعتبر في نظرها مناقضاً لمنطق هذا الإيمان فتدعو إلى منعه.
لم يكن لرقابة المؤسسة الدينية على الثقافة أن تتخذ حجمها الضخم في الزمن الراهن، من دون التوقف أمام بعض العوامل الموضوعية، وخصوصاً منها ما أصاب المجتمعات العربية من انهيار في مشروعها التحديثي، ونكوص عما تحقق من تحديث وحداثة، بما فيه تراجع القيم التي رافقتها في الحرية والحق في التعبير والإنفتاح على الحضارات، وما رافق ذلك من دور إيجابي للحياة الثقافية في التقدم النسبي الذي حققته المجتمعات العربية في مراحل مسيرتها النهضوية منذ نهايات القرن التاسع عشر. هذا الإنهيار المجتمعي الشامل، وانبعاث صعود العصبيات وتفكك الدولة، وحاجة السلطة السياسية إلى مزيد من المشروعية، مضروبا كله بانفلات الحركات الأصولية المتطرفة وفكرها الديني، أعطت المؤسسات الدينية دوراً متصاعداً في تشديد الرقابة العامة على المجتمع، وخصوصاً الإنتاج الفكري والثقافي، وهو دور تمارسه اليوم المؤسسات الدينية الإسلامية والمسيحية على السواء، باسم نشر القيم الدينية والأخلاقية والحفاظ عليها.
لعلّ أسوأ ما اتسمت به رقابة المؤسسات الدينية على الثقافة والمثقفين، يتصل برمي المخالف بتهم الكفر والإلحاد والمس بالذات الإلهية، وهي تهم كافية لتكفير المثقف، ووضعه أمام إجراءات زجرية تصل إلى حد هدر الدم وتبرير القتل. تنبع قوة الفتوى التكفيرية من استنادها إلى ما يحدده رجال الدين من مقدسات، ليس فقط استناداً إلى ما تقول به النصوص الدينية، بل إلى ما وضعه هؤلاء من اجتهادات وتفسيرات، فباتت جميعها تنتمي إلى المقدس، ومخالفتها تصبح مخالفة للمقدس، وهذه المخالفات تبرر الردع منعاً للمس بالمقدسات. يزخر تاريخ المؤسسات الدينية بهذه الممارسات، وقد شهد تنوعاً في التطبيق في مراحل تاريخية مختلفة. لقد بدا لفترة من الزمن أنّ منطق التكفير والتحريم والإتهامات بالزندقة قد تراجعت وتيرته مع المسار النهضوي الذي انخرطت به المجتمعات العربية، ليعود في العقود الأخيرة ويحتل مركز الصدارة، ويزدهر ويمد شبكته إلى كل مدارات الحياة. تشير رجاء بن سلامه في كتابها “نقد الثوابت” إلى هذا الجانب التكفيري بالقول: “ما ظننا أنه ألقي في سلة مهملات التاريخ يعود: حملات التكفير والتطهير الديني، ومطاردة كبش الفداء الذي تصب عليه المجموعة كل غضبها الحاضر والماضي، وإحراق الكتب في الساحات العامة، عندما تضيق الساحات العمومية عن أفعال عمومية من نوع آخر… والمصادرات أصبحت دموية لاستنادها في الكثير من الأقطار العربية إلى حكم الردة، المؤدي إلى التكفير والقتل أو الدعوة إلى القتل، والمؤدي إلى حملات جنونية لا تنتهي”.
تشكل الفتوى الممر الأساسي للرقابة الدينية، وهي اتخذت حجماً كبيراً في العقود الأخيرة، وباتت الإجتهادات فيها مباحة بحيث يسمح أي رجل دين أو داعية من الدعاة المنتشرين بكثرة، بإصدار فتاوى يحلل فيها ويحرّم وفق ما يراه. في الماضي كانت الفتوى مقتصرة على ما تقول به المؤسسة الدينية الأم في المذاهب الإسلامية (الأزهر أو النجف أو قم…)، وعلى الكنيسة الرسمية في المسيحية وفق المذهب المحدد، أما اليوم فقد بتنا نشهد رجل دين يبدأ حديثه عن موضوع محدد بالقول “إنّ رأي الإسلام أو المسيحية…” في الأمر المطروح هو كذا وكذا، من دون أن يتواضع قليلاً ويقول مثلاً إنّ رأيي أو تأويلي يقول كذا. وعندما يختزل رجل الدين في فتواه الدين في مجمله، فإنه في الواقع يعطي كلامه صفة الحقيقة الدينية الواجب التزام محدداتها، فتكتسب فتواه صفة المقدس، وتصبح لها القوة العملية أكثر بكثير مما ينص عليه النص المقدس الصادر في الكتب السموية. لعلّ أخطر ما في الفتاوى الشائعة اليوم، بل والمهيمنة إلى حد كبير على الحياة الخاصة والعامة في المجتمعات العربية والإسلامية، أنها باتت الوسيلة التي تحدد ما هو حلال يجب اتباعه، وما هو حرام يجب اجتنابه. ووصل الامر ببعضها الى تطويب رجل الدين مفسراً وحيداً لمعنى الإيمان الصحيح أو عدمه، ومدى امتثال الإنسان لأحكام الشريعة أو الخروج عليها. الأخطر أيضاً، أنّ رجال الدين لم يكتفوا بإصدار فتاوى تتصل بميدان الشريعة وانعكاساتها الإجتماعية، بل وسعوا من أشغالهم لتطال فتاويهم واجتهاداتهم ميادين العلوم والتكنولوجيا وقول آراء في ما يجب الأخذ منه أو رفضه، وفق المقاييس التي يرونها متوافقة مع النص الديني أو المخالفة له انطلاقاً من قراءتهم الخاصة للنص، وإسقاطاتهم الشخصية على مضمونه.
يزخر التاريخ العربي والإسلامي بنماذج عن الدور السلبي الذي مارسته رقابة المؤسسات الدينية على الثقافة والخلق. في تاريخ قديم ارتبطت مصادرة الكتب واضطهاد المثقفين، إلى حد كبير، بالصراعات السياسية والإجتماعية التي عرفتها المجتمعات العربية والإسلامية. على رغم أنّ منطق الهيمنة على العقول والسعي إلى تدجينها، ظل قانوناً تهجس به المؤسسات الدينية وتعمل على تسييده وديمومته، إلاّ أنّ تنفيذه كان يتصل بالظروف الإجتماعية والسياسية، فيرتفع أو يتقلص تبعاً للظروف السائدة. منذ عصر النهضة، ومع الإحتكاك بالغرب والقيم السائدة المتولدة عن تطوره وتقدمه، تعرّض الإنتاج الفكري العربي إلى سجالات تتصل بمدى توافقه مع النص الديني أو مخالفته له. لم ينج رجال دين متنورون من أمثال الشيخ محمد عبده أو جمال الدين الأفغاني أو رفاعة الطهطاوي، إضافة إلى الكثير من مفكري النهضة من غير رجال الدين، من مواقف سلبية اتخذتها في حقهم المؤسسات الدينية ضد أطروحاتهم وتأويلاتهم. في مطلع القرن العشرين خاض الأزهر، المؤسسة الدينية المركزية في مصر، معركة مع اجتهادات لعدد من المفكرين، أمثال علي عبد الرازق الذي نشر كتابه بعنوان “الإسلام وأصول الحكم”، أو طه حسين في كتابه “في الشعر الجاهلي”، وغيرهما من أمثال محمد أحمد خلف الله ولطفي السيد وسلامه موسى. وكانت الرقابة في تلك الأيام تعتمد السجال والتفنيد وتعيين ما هو غير متوافق مع النص الديني، مع إعطاء نفسها الحق في مصادرة الكتاب ومنع نشره.
في العقود الأخيرة، اتخذت الرقابة الدينية منحى مختلفاً ومتشددا في الرقابة على الإنتاج الثقافي، وفي تطبيق إجراءات ردعية وصلت في بعض الأحيان إلى ترجمة التكفير والحرمان المرمي على الكاتب، بفتاوى تحلل قتله. تحولت رقابة المؤسسات الدينية “محاكم تفتيش” بالمعنى الفعلي الذي عرفته أوروبا في القرون الوسطى، ووضع مثقفون بين مطرقة التزام مقاييس المؤسسة، وسندان الإتهام بالكفر والإلحاد، وتحمّل المترتبات الناجمة عن إلصاق التهمة بهم. اعتبرت المؤسسات الدينية أنّ الواقع السياسي والإجتماعي المنحدر والسائد يشكل أفضل فرصة للإمساك بالسلطة الرمزية والهيمنة على المجتمع، بواسطة القوانين التي تراها مناسبة، وبترهيب المخالفين. ترجمت ذلك في ميدان الثقافة عبر تعيين ما هو مسموح التطرّق اليه ونشره، وما هو ممنوع. تدخلت في معارض الكتب وطلبت مصادرة الكتب التي لا توافق على نشرها، وأعادت كتابة التراث وحذف ما استنسبت من محتويات كتبه، وسلطت رقابتها على العقل والمعرفة بدعوى الحفاظ على قيم الفضيلة والأخلاق، إلى أن حولت رقابتها ترهيباً حقيقياً، فنتج من فتاويها إعدام مفكر إسلامي في السودان هو محمد محمود طه، وتشريع قتل الكاتب المصري فرج فوده، والسعي إلى اغتيال الكاتب نجيب محفوظ، وأصدرت حكماً ضد الكاتب المصري نصر حامد أبو زيد وطلبت تفريقه عن زوجته بحجة الإرتداد عن الدين، كما نجحت المؤسسة الدينية في إصدار أحكام على عدد واسع من الكتاب والمثقفين في أكثر من بلد عربي.
من عجائب الرقابة التي بدأت تمارسها المؤسسات الدينية، أنها راحت تعمل “بمفعول رجعي”، فإذا بالفتاوى تصدر بوجوب مصادرة كتب ومنع نشرها، وقد سبق لها أن نشرت قبل عقود وتداولتها أجيال متعددة، فإذا بها اليوم تدخل في باب الحرام. من الأمثلة الدالة، الحملة التي أثيرت ضد كتاب “الأيام” لطه حسين، والذي نشر منذ أكثر من ثمانية عقود ووضع في مناهج الدراسة، فإذا به يصنّف في باب الممنوعات، لا لشيء سوى أنّ الكاتب يتعرض في سياق سيرته الذاتية إلى مرحلة تعليمه في الأزهر وما رآه من سلبيات في وضعية بعض مشايخه. الأمر نفسه طاول روايات صدرت سابقاً وعرفت نجاحاً من مثل رواية الكاتب السوري حيدر حيدر “وليمة لأعشاب البحر”، أو بعض كتب جبران خليل جبران، وغيرها مما تضج به الحياة الثقافية كل يوم، وتشهد عليه سلسلة الممنوعات الواجب فرضها على هذا الكاتب أو على هذا الكتاب. هكذا تسعى رقابة المؤسسة الدينية، في واقع عملها، إلى قتل كل ما يمت إلى الفكر المتعدد الآفاق، وإلى الحرية في الخلق، بل جلّ ما تريده إنتاج فكر أحادي الجانب وفق منظومتها، ومثقف “ذي بعد واحد”، هو البعد الذي ترغب في تعميمه في جميع مناحي الحياة.
رقابة الثقافة التقليدية
السائدة وعصبياتها
يشكل المجتمع، بثقافته وعاداته وقيمه السائدة، عنصراً رقابياً على الثقافة ومنتجاتها، فيمكن هذه العناصر أن تتحول أدوات اضطهاد ومنع، بما فيها استخدام سلطة الجماهير في التنفيذ، بحيث يتحول الرأي العام نفسه رقيباً، كثيراً ما يكون اشد جهلاً وقسوة في رقابته لكونه يفتقر في خطابه الشعبوي إلى العقلانية. كثيراً ما تتقاطع رقابة المؤسسات الدينية مع رقابة المؤسسات الإجتماعية القائمة، التي تبيح لنفسها وضع قوائم لما هو ممنوع الكلام فيه أو نشره، وتضع ثقافاتها وعاداتها وتقاليدها مقياساً للحكم على نصوص محددة، ولا تتورع أحياناً أخرى عن اللجوء إلى العنف لتطبيق “قوانينها” هذه. تعرضت كثير من النصوص الادبية والفنية، على مختلف مستوياتها، إلى حملات شعبية، وإلى مطالبات علنية بمنع هذا النص أو هذا الفيلم السينمائي لكونه يتعارض مع المفاهيم السائدة في المجتمع، أو لكونه يناقش في طبيعة العلاقات الإجتماعية السائدة ونقدها. يتعرض مثقفون إلى النبذ في حال إصرارهم على المواجهة ومخالفة السائد ودفع أثمان لهذا الموقف الإعتراضي.
ولأنّ ثقافة العادات والتقاليد مغروسة في عقل المواطن العادي منذ زمن قديم، فانها تكتسب صفة الاستمرارية والديمومة، ولا مانع من تصنيفها في خانة القضايا التي اكتسبت طابع القدسية، بحيث يعتبر التعرض لها ونقدها والسعي إلى تغييرها، بمثابة مس بالنظام الإجتماعي القائم، الذي غالباً ما يخضع إلى هيمنة قوى اجتماعية وسياسية ودينية لها مصالحها في استمرار ما هو سائد، ويقوم بينها حلف يشدد على عدم المس بما تراه تعبيراً عن ثقافتها. وتستطيع هذه القوى، بحكم السلطة المادية التي تحملها، الهيمنة على المجال الثقافي. قد لا يكون هذا الموضوع ذا معنى في مجتمعات متطورة تضمن حرية الرأي والتعبير والحق في نقد السائد، وتحمي سلطة القانون فيها المثقف من أي اضطهاد قد يتعرض له، كما هو حاصل اليوم في المجتمعات الغربية المتقدمة. لكن المجتمعات العربية، على رغم قيام الدولة في معظمها ووضعها تشريعات لضمان هذا الجانب من حقوق المواطن، فإنّ السلطة الرقابية الموازية لرقابة الدولة تمارس تأثيراً فاعلاً على الثقافة والمثقفين، يوازي ايضا أو يفوق رقابة الأجهزة الرسمية. في العقود الأخيرة، وانعكاساً للهزائم العربية المتوالية على مختلف الصعد العسكرية والسياسية والإقتصادية، تشهد هذه المجتمعات انفكاكاً متزايدا لبنى الدولة لصالح صعود موقع العصبيات، من عشائرية وطائفية وإثنية وقبلية، وانتقال السلطة تدريجاً لصالح هذه العصبيات، بما فيها السلطة على الإنتاج الفكري والثقافي. لعل هذه الرقابة المتعددة المصدر والجهة، تشكل أحد انواع الرقابة العشوائية، لاستنادها إلى استنسابات القوى النافذة في الطائفة والعشيرة، ولعدم وجود قانون ناظم لها، على غرار ما هو سائد في رقابة الأجهزة الرسمية. تحفل وسائل الإعلام يومياً بأنواع مختلفة من الإعتراضات تلجأ اليها هذه الطائفة أو العشيرة على كتاب صدر هنا أو هناك، او على نقاش وسجالات تطاول الحياة الاجتماعية لهذه الفئة، او على برامج تلفزيونية ترى في ما تطرحه مساً بهذه الطائفة او تلك.
لا تكتفي مؤسسات العصبيات برسم قوانينها على ما هو صادر من إنتاج ثقافي، بل تكمن خطورتها في سعيها الدؤوب لوضع المثقف نفسه تحت سيطرتها، إما بإلحاقه طوعاً وإما عبر إخضاعه للإبتزاز والتهديد والنبذ. هكذا في زمن الهزيمة المتواصل، وعلى غرار تدجين السلطة الرسمية لمثقفين، تشهد المجتمعات العربية تدجيناً أوسع لأوساط ثقافية ولمثقفين وظفوا عقولهم ومعارفهم وعلومهم في خدمة العصبية الصاعدة أو السائدة، والتنظير لقيمها ومفاهيمها، وتكوين إيديولوجيا متماسكة لها. ولأنّ هذه العصبيات تصرّ على قراءة تطورات الوطن وتاريخه من منظارها الخاص، تسعى فئات مثقفة تعمل في خدمتها، إلى إعادة كتابة تاريخ البلاد انطلاقاً من موقع هذه العصبية أو تلك، وتكريسها في موقع متميز كان في أساس قيام الدولة.
تضع رقابة المؤسسات الإجتماعية التقليدية المثقف بين خيارات أحلاها مر، تطلب إليه الإلتحاق ببناها وممارسة دور “المنظّر” لما تمثله في المجتمع، وتبرير ما تقوم به في سياق “مجتمعها وكيانها”، وتزوير التاريخ واختراع تواريخ لا أساس لها، وانتاج ثقافة تعلي من شأن العصبية وموقعها، على حساب المشترك الذي تمثله الدولة، وهو خيار ارتضت مجموعات كبيرة القيام به في أكثر من بلد عربي، بحيث بات مثقفو العصبيات فئة اجتماعية قائمة بذاتها، وظيفتها الراهنة خدمة “السلطان” الجديد الذي تمثله العصبية المحددة. أما الخيار الرافض للإلتحاق، فهو مهدد كل يوم، وخاضع لضغوط مادية ومعنوية، لكونه “يخون” عصبيته، ويتمرد على ثقافتها. وإذا نجا المثقف من التهديد المادي والأذى، فإنّ ما ينتظره هو التهميش، والوقوف على هامش المجتمع، اختياراً وطوعاً، أو تهميش قسري تفرضه السلطة العصبية القائمة. قد تكون إقامة المثقف في الهامش أفضل الخيارات العملية، فهي تسمح له بممارسة حريته في الكتابة والإنتاج وممارسة النقد.
رقابة المؤسسة الحزبية
فتحت هزيمة حزيران 1967 نقاشاً واسعاً في الحياة السياسية والثقافية العربية، وأطلقت سجالاً نقدياً، كما شكلت مناسبة لإنطلاقة أحزاب سياسية ذات مشارب إيديولوجية متعددة، قومية عربية واشتراكية ودينية، حضنت مثقفين ساهموا في نشر فكر هذه الأحزاب. وصلت بعض هذه الأحزاب إلى السلطة بعد الهزيمة، ووضعت أفكارها وإيديولوجياتها موضع التطبيق، وكان للمثقفين فيها أدوار سلطوية، كما عانى بعضهم من وطأة السلطة الحزبية داخل أطرهم التنظيمية. اتسمت هذه الأحزاب، بصرف النظر عن أهدافها السياسية، بالتزام إيديولوجيات ذات طابع شمولي، ترى في مفاهيمها الفكرية والسياسية مفتاح الحقيقة، وتفرض على العاملين فيها التزام صحة تحليلاتها ورؤاها وقراراتها، وتعمل على ترجمة مبادئها تنظيماً وتجييشاً للجماهير، وتحمل جميعها أهدافاً سياسية تسعى من خلالها إلى قلب الأنظمة القائمة وتولي مقاليد السلطة فيها.
من السمات العامة للأحزاب الشمولية في الوطن العربي أنها لا تقر بالتعددية السياسية والفكرية داخل أحزابها، بل تشدد على الإلتزام الحرفي للتوجه الإيديولوجي في الإنتاج الفكري والثقافي للعاملين فيها في هذا المجال. يفرض ذلك على المثقف التزام فكر ذي بعد واحد، موجه ومقونن وخاضع لمقاييس وفق ما تقول به الكتب النظرية التأسيسية، أكان الأمر يتعلق بالإنتاج الإشتراكي الشيوعي والنظرية الماركسية اللينينة، أم اتصل بالفكر القومي العربي، من فكر البعث إلى الناصرية والقومية العربية، إلى الفكر الديني المستند إلى كتابات “الإخوان المسلمين” وسائر التيارات اللاحقة وغيرها. من طبيعة المثقف، حاجته إلى حد من الحرية والإستقلالية وحتى الذاتية، تساعده في الخلق، بعيدا من القيود الصارمة في ما هو مفروض عليه كتابته، وفق الخط السياسي والهوية الإيديولوجية ومن دون اجتهادات، تبدو كأنها انحراف عن مبادئ الحزب. ولكون هذه الأحزاب بعيدة عن الديموقراطية في فكرها التوتاليتاري ومبادئها التنظيمية، ولكون المثقفين فيها من أكثر المجادلين أو المجتهدين، شهدت هذه الأحزاب ممارسات سلطوية في حق قطاعات واسعة من مثقفيها، وفرضت رقابة صارمة على إنتاجهم الفكري والثقافي، واتخذت عقوبات في حق من لا يلتزم ما تنص عليه المؤسسة الحزبية.
على رغم الأدوار المهمة التي اضطلع بها جيل واسع من المثقفين في نشر فكر سياسي جديد داخل الحركة السياسية، إلاّ أنّ تاريخ الحركة الحزبية في العالم العربي، يشهد في المقابل على أدوار سلبية جرت ممارستها ضد حرية الفكر والتعبير داخل المؤسسة الحزبية، تمّ التعبير عنها بالفصل من الحزب، والتشهير بالمخالف، وصولاً إلى اتهامات بالخيانة أو العمالة للسلطة. تحفل السير الذاتية والكتابات التي طاولت التجارب الحزبية بالكثير من المعلومات والوقائع التي تشير إلى الصراعات الداخلية والإنقسامات داخل الأحزاب، وإلى تمرد مثقفين فيها وخضوعهم إلى عقوبات صارمة، كانت تتفاوت وفق موقع الحزب، داخل السلطة أو خارجها، وتتعدد العقوبات وفق هذا الموقع، فتراوح بين التجميد والفصل وصولاً إلى السجن أو الموت، بكل ما يرافق ذلك من تلفيق تهم لا حدود للخيال فيها، بما يبرر نبذه من الحزب داخلياً، ومن المجتمع خارجياً. في المقابل ارتضت مجموعات واسعة من مثقفي الأحزاب الخضوع الكامل لسلطة المؤسسة الحزبية ولتوجهاتها الفكرية والثقافية، وعملت على ممارسة دور المنتج والمبشر بهذا الفكر، وقبلت برقابة المؤسسة على ما تكتب، مثلما لعبت دور الرقيب الصارم على كتابات حزبية، سياسية أكانت أم فكرية، تقوم بها هيئات مولجة هذا الموضوع.
الرقابة الذاتية
ليس من قبيل المبالغة اتهام الرقابة الذاتية بأنها أعلى مراحل الرقابة، بل هي تتويج للهواجس والقيود الناجمة عن فرض رقابات السلطة والمؤسسة الدينية والعادات والتقاليد، وترجمة للخوف المترتب على سلطة هذه الرقابات، في شقيه المادي والمعنوي. لا يخفي مثقفون الإعتراف أنّ الرقابة الذاتية التي اضطروا إلى ممارستها على أنفسهم وعلى إنتاجهم وكتاباتهم، كانت أحيانا كثيرة أشدّ إيلاماً وسوءاً من رقابة السلطة نفسها. في مجتمعاتنا العربية، تبدو الممنوعات التي يجب على المثقف أو حتى العاملين في ميدان الاعلام، الإمتناع عن التطرق إليها متعددة ومتوالية الصدور، مع كل انحدار يصيب البنى الإجتماعية، وانبعاث العصبيات فيها. كان التقليد في عقود سابقة أنّ “التابوات” تقتصر على الدين والسياسة والجنس، فيما اتسعت اليوم لتشمل كل مظهر اجتماعي يرى فيه فقيه أو رجل دين لأي طائفة ومذهب انتمى، أنه بات مصنفاً في خانة المقدس، فيصبح الحديث حوله محكوما بقواعد وأصول تعرّض صاحبها إلى القمع إذا ما حاول تجاوزها، بحيث يمكن القول أنه “في المجتمعات العربية لم يعد الرقيب عنصراً خارجياً، بل أصبح ساكناً في وعي الناس يعرف ما يجب فعله أو قوله أو ما لا يجب”، على ما يقول الكاتب سمير أبوعزيز (ملف الرقابة، موقع الأوان، ص14).
تنجم الصعوبة في الرقابة الذاتية من التعقيدات المرافقة في تحديدها والميادين التي تشمل، والتكهنات التي على الكاتب استبطانها وتخمين ما هو المصنف في خانة القضايا الواجب إعمال رقابته الذاتية عليها. مما يعني أنّ الكاتب هو الذي قرر من تلقاء نفسه حذف ما يجب حذفه وليس السلطة الخارجية، وهذا ما يعطي براءة لهذه السلطة في أنها أبعد ما تحدد للكاتب الممنوعات والمسموحات. بذلك يبدو التخويف والإرهاب عنصرين ذاتيين من الكاتب على نفسه وعلى عمله، وهذا ما يجعل الكاتب شخصين، أحدهما في مواجهة الآخر، الأول يكتب بحرية في التعبير عن أفكاره، فيما يتولى الآخر الحذف والشطب وتغيير الجمل والفقرات، بما ينتج في النهاية نصوصاً هجينة. لا يخفى الأثر السلبي على الإنتاج الخاضع للرقابة الذاتية، وعلى الكاتب بشكل خاص، حين تساهم في قتل الخلق، عبر الإضطرار إلى اعتماد لغة مبطنة وتوريات وانعدام في الوضوح، مما يفقد النص وظيفته الثقافية الأصلية. تتحول الرقابة الذاتية هنا مصادرة للجهود التي يسعى المثقف من خلالها للوصول إلى الحقيقة والتعبير عنها، أو الحد من توجيه رسائل يبغي ترويجها في المجتمع. لقد نجحت جميع الأنظمة العربية، ذات الإستبداد المطلق أو الإتجاه الليبيرالي، في تحويل الرقابة التقليدية نوعاً من الرقابة الذاتية، لا تحتاج عبرها إلى تدخل الرقيب في الشطب والحذف، ولا إلى تحمّل الإعتراضات على حرية التعبير والرأي، على المستويات الداخلية أو أمام الرأي العام الخارجي، ومعه منظمات حقوق الإنسان.
إذا كانت الرقابة الذاتية قد اتخذت حجماً كبيراً في العقود الأخيرة بالنظر لدخول رقابات سلطوية متعددة على استخدام القمع في وجه المثقف، إلاّ أنها لا تنفصل عن تراث عربي يحمل إرثاً من الإستبداد ينمو مع الإنسان العربي منذ طفولته إلى مدى عمره اللاحق. تتكوّن عناصر الرقابة الذاتية من الأنماط الإجتماعية والثقافية السائدة في التربية والطريقة التي تجري بها، وتصل إلى مرحلة متقدمة مع القواعد القمعية التي تفرضها الاسرة الصغيرة والطائفة والقبيلة والعشيرة، حيث تضع كل واحدة من هذه البنى قوانين وأعرافاً تشكل في حد ذاتها طريقاً لما يجب سلوكه. في هذا المجال، تبدو الرقابة الذاتية إنتاجاً لخوف مزدوج تعبّر عنه السلطة الإستبدادية بممارستها الطغيانية والقمعية من جهة، وطغيان الموروثات الثقافية المتراكمة من البنى المجتمعية من جهة أخرى. معروف أنّ السلطة الإستبدادية تنتج ثقافة خوف تفرض على الكاتب انفصاماً بحيث يكون نفسه ونقيضه في آن واحد، وخصوصاً أنّ الرقابة عبر “كاتم الصوت” كفيلة أن تجعل المثقف مهموماً في مراعاة التابوات وإيجاد الطريقة الملائمة للتعبير عن وجهات نظره استناداً إلى موجباتها وقوانينها.
تؤدي الرقابة الذاتية في مجتمعات عربية لم تألف بعد التعبير الحر عن الرأي وحرية النقد للسلطة القائمة فيها، إلى تعميم وعي مشوّه وإلى شعور بالنقص والدونية والعجز. يتبدى ذلك في “لغة خشبية” يلجأ إليها الكاتب، فلا تقول شيئا في واقع أمرها، بمقدار ما تؤدي الى إيقاع المثقف في حال من ازدواج الشخصية واضطراره الدائم للعيش في هاجس الرعب من تجاوز المحظورات المفروضة، وهي معاناة تقتل الأنا في داخله، وتشكل مساهمة اساسية في إفقار الخلق الذي يحتاج إلى الحرية شرياناً رئيسياً يتنفس من خلاله.
الثقافة في مواجهة الرقابة
على رغم سطوة الرقابة العربية على الثقافة والسعي الدائم إلى تطويع المثقف وتدجينه، فإنّ كثيراً من العاملين في هذا المجال رفضوا الخضوع والإستسلام أمام سلطة الرقيب، على مختلف أصنافه، وأصروا على خوض معركة مواجهة مع هذه السلطة. قبل أن تتمكن ثورة الإتصالات التكنولوجية من إرسال الرقابة إلى الهامش، تعرّض مثقفون إلى الإضطهاد المادي والجسدي، فصودرت كتبهم، وفرض الحظر على إنتاجهم، وتعرض قسم كبير منهم إلى القمع المادي، بالتصفية الجسدية أو بالسجن، أو بالنفي إلى الخارج. تحوي الكتابات الصادرة في العقود الأخيرة ألواناً مخيفة ورهيبة عن حجم المثقفين الذي أودعوا سجون أنظمة الإستبداد العربي، والذين وصلت أعدادهم الى الآلاف، وإلى ضروب منوعة من التعذيب الجسدي والمعنوي الذي مورس في حقهم، وعن إصرارهم على عدم التراجع عن اقتناعاتهم وفكرهم السياسي، ودفع منهم حياته ثمناً لصموده واصراره على التمسك بمبادئه.
منذ عقود، تمكنت الثورة التكنولوجية وخصوصاً ثورة الاتصالات، واحتلال الأنترنت الموقع الأساسي في هذا المجال، من إدخال الثقافة في مواجهة مع الرقابة، في معركة لا يبدو فيها أنّ مسار التقدم العلمي يعمل لصالح السلطة بوجوهها المختلفة. تؤمّن الثورة العلمية اليوم نشر أي إنتاج فكري وثقافي عبر المواقع الألكترونية، من دون أن تتمكن السلطة من حجب هذا النشر، وقد بات من السهولة بمكان الحصول على أي كتاب عبر النشر الإلكتروني. كما بات قسم واسع من المثقفين اليوم يعتمد نشر كتابه على المواقع المهتمة بالنشر، غير آبه بما سيتعرض له الكتاب من حذف او منع تمارسه السلطة عند صدور الكتاب بواسطة دار النشر. وإذا كانت ثورة الإتصالات تشكل اليوم عنصراً مهما في هذه المواجهة، وتحيل الرقابة التقليدية على اشكال متخلفة، إلاّ أنّ نتائج هذه المعركة لا تزال محدودة حتى اليوم. لا يبدو أنّ السلطة مستعدة للتسليم بالتطور العلمي ومفاعيله في ميدان الإتصالات، بل هي مصرّة على خوض معركتها الرقابية في أي شكل يمكن ان تبتدعه عقول الأجهزة فيها. تستطيع الرقابة التقليدية ممارسة نفوذها من خلال عاملين أساسيين، يتصل الأول بمدى قدرة السلطة الرسمية على فرض رقابة على المواقع الإلكترونية نفسها، عبر حجبها، واعتقال القائمين على المدونات، وهو أمر تشير اليه وسائل الإعلام في أكثر من بلد عربي بشكل شبه يومي. أما العامل الثاني والأهم، فهو المتصل بدرجة تقدم المجتمعات العربية ومدى اتصالها بالثورة التكنولوجية والإفادة من منتوجاتها. تجمع تقارير محلية ودولية تصدر حول نسبة مستخدمي الأنترنت في العالم العربي، على ضعف هذا الإستخدام قياساً بحجم السكان، وبالمقارنة مع الدول المتقدمة. هذا التخلف المجتمعي المرتبط بعوامل متعددة، يشكل خير مساعد للسلطة في استمرار “القبض” على المثقف، وإبقاء سيف الرقابة مسلطا على عقله وفكره وإنتاجه. لكن المسار التصاعدي للموقع الذي تحتله ثورة الإتصالات في الحياة العامة والخاصة في المجتمعات العربية، ومنها التواصل عبر البريد الألكتروني، وانخراط أقسام واسعة من السكان في التعرف والتعامل مع هذا المجال، لا بدّ له أن يساهم في المدى القريب بمزيد من تقليص فاعلية الرقابة التقليدية وإحالتها لاحقاً على متحف التاريخ ومخلفاته البائدة.
تبدو المعركة الفعلية في مواجهة الرقابة متصلة بالتحولات السياسية والإجتماعية والإقتصادية والفكرية التي على المجتمعات العربية خوضها للخروج من الإقامة المديدة في التخلف. وهي معركة نشوء مشروع نهضوي وتجدده، تحتل فيه الحريات الديموقراطية موقعاً مركزياً، بكل ما ترمز إليه من تعددية فكرية وسياسية، واحترام حقوق الإنسان وإقامة دولة الحق والقانون والعدالة الإجتماعية. هذا الإرتباط الوثيق بين النهوض العربي والحد من سلطة الرقابة إلى أبعد مدى، يحتاج الى ولادة قوى مجتمعية، وتحولات في بنى المجتمعات العربية تتجاوز العناصر المتخلفة التي تهيمن عليها اليوم، وهو موضوع لا يزال يدبّ دبيباً في عالمنا العربي، بما لا يوحي بتفاؤل يتناسب مع الإمكانات الموضوعة، عالمياً، اليوم في خدمة حرية الرأي والتعبير.
في كل حصيلة لنتائج قمع حرية التعبير والرقابة على الإنتاج الفكري خلال العقود السابقة من مسار التطور العربي، لا يمكن تجاهل ما ولّدته الرقابة في هذا الميدان من تعزيز للجهل والأميّة في اوساط واسعة من الأجيال العربية. وهو جهل لا ينفصل بتاتاً عن الاستخدامات السلبية لمفاعيله في نشر التطرف والإرهاب، وتحويل الملايين من أبناء العالم العربي خزاناً بشرياً تغرف من بحره الحركات الأصولية، وتوظفه في صالح أهدافها ومشاريعها المجتمعية والسلطوية، وهي أهداف ستكون أكثر وبالاً وكارثية على تقدم الإنسان العربي وعلى بقائه بعيداً من الدخول في العصر ¶
غــيــض مــن فــيـــض
* منعت السلطات اللبنانية مسرحية “مجدلون”، بعدما اشترطت حذف مقاطع منها.
* أحيل الكاتب السوري صادق جلال العظم على المحاكمة لدى إصداره كتاب “نقد الفكر الديني”، وجرت مصادرة الكتاب ومنع توزيعه.
* جرت محاكمة الفنان مارسيل خليفة بتهمة تحقير الشعائر الدينية لأنه لحّن قصيدة للشاعر محمود درويش بعنوان “أنا يوسف يا أبي”، وغنّاها.
* أقيمت “دعوى حسبة” في حق الكاتب المصري نصر حامد أبو زيد، قضت بعد محاكمات إلى اتهامه بالردة وتفريقه عن زوجته، كما جرت مصادرة كتبه.
* أقيمت “دعوى حسبة” في السودان في حق المفكر الإسلامي محمود طه، وصدر في حقه حكم بالإعدام. وجاء في الحكم “مصادرة كل كتب ومطبوعات محمود محمد طه من جميع المكتبات بغرض إبادتها مع منع تناولها وطبعها في كل المكتبات والمطابع”.
* قضت الرقابة بالمسدس بإنهاء حياة الكاتب المصري فرج فوده، وكادت أن تودي بحياة الكاتب نجيب محفوظ.
* جرت مصادرة عشرات الكتب الأدبية في مختلف البلدان العربية: رواية “أولاد حارتنا” لنجيب محفوظ، رواية “سقوط الإمام” لنوال السعداوي، رواية “العراة” لابراهيم عيسى، رواية “وليمة لأعشاب البحر” للروائي حيدر حيدر، رواية “محنة موسى” للشاعر الأردني موسى حوامدة، كتاب “ركعتان في العشق” لخالد البري، منع رواية الكاتب السوري خيري الذهبي “هشام أو الدوران في المكان”. وفي عام 1964 جرت ملاحقة الكاتبة اللبنانية ليلى بعلبكي بسبب كتابها “سفينة حنان الى القمر”، كما جرت مصادرة كتاب “حديقة الحواس” لعبده وازن، ومصادرة كتب الكاتب الليبي الصادق النيهوم وهي “إسلام ضد الإسلام”، و”الإسلام في الأسر”، و”صوت الناس”، ومنع كتب الباحث سيد القمني بعد تهديده بالقتل، ومصادرة كتب المستشار سعيد العشماوي، ومنع تداول كتب خليل عبد الكريم حول الإسلام، ومصادرة كتاب “الشخصية المحمدية” للشاعر معروف الرصافي. وطلبت مؤسسة دينية محاكمة الشاعر عقل العويط بسبب نشر مقال بعنوان “رسالة الى الله”.
* رفض نص مسرحي في مصر بعنوان “الشعب لما يفلسع” بحجة أنّ المسرحية تدعو إلى قلب نظام الحكم.
* خضع المسلسل السوري “أخوة التراب” للمخرج نجدة أنزور إلى حذف كل المشاهد المتعلقة بالشريف حسين.
* جرى استدعاء الفنان ياسر العظمة أكثر من مرة إلى فروع المخابرات بسبب مسلسل “مرايا” الذي خضع لمقصات الرقيب قبل عرضه.
* سعت الرقابة اللبنانية إلى منع مسرحية “لكم تمنت نانسي أن يكون ذلك كذبة نيسان” لربيع مروة وفادي توفيق لانها تستعيد جزءا من ذاكرة الحرب الأهلية اللبنانية.
* وقف عرض “نشيد الأناشيد” في بعلبك.
* رفض سيناريو فيلم “مؤذن الكيت كات” لأنه يدعو إلى فكرة الثورة، ومنع فيلم وثائقي مصري بعنوان “وطني وعقيدتي” لأنه يتناول قضية الأقباط في مصر. ومنعت أفلام “الحياة اليومية لقرية سورية” لعمر أميرلاي، وفيلم “نجوم النهار” لأسامة محمد، وفيلم “الليل” لمحمد ملص. ومنعت السلطات اللبنانية عرض فيلم “المتحضرات” لرندة الشهال، وحذفت مقاطع من فيلم مارون بغدادي “خارج الحياة”، وكذلك منعت عرض فيلم “الإعصار” لسمير حبشي.
* تكفير الشاعر اليمني علي المقري على مجموعته الشعرية “يحدث في النسيان”. سجن الشاعر الأردني إسلام سمحان على ديوانه الشعري “برشاقة ظل” واتهامه بإهانة الشعور الديني. تكفير الأزهر للشاعر المصري أحمد الشهاوي بسبب كتابه “الوصايا في عشق النساء”. إضافة الى فتاوى تكفير ضد الشعراء بدر شاكر السياب، عبد الله البردوني، عبد الوهاب البياتي، صلاح عبد الصبور، أدونيس، سعاد الصباح، فدوى طوقان، سميح القاسم، نزار قباني…
* منعت السلطات اللبنانية العروض الراقصة للفنان الفرنسي موريس بيجار الذي كان يفترض إقامتها في مدينة بعلبك. وكان وزير الداخلية اللبناني الراحل كمال جنبلاط منع عام 1963 فرقة “التويست” للرقص.
* اغتيل صاحب جريدة “الحياة” كامل مروه عام 1966، وتعرض صاحب جريدة “النهار” غسان تويني إلى الإعتقال في الستينات والسبعينات من القرن الماضي، وجرى الإعتداء على الصحافي ميشال ابو جوده. كما اغتيل كل من سليم اللوزي صاحب مجلة “الحوادث”، ونقيب الصحافة رياض طه صاحب جريدة “الكفاح”. وفي عام 2005 اغتيل الصحافيان في جريدة “النهار” جبران تويني وسمير قصير. هذا عدا التهديدات المستمرة ضد الجسم الصحافي ¶
ملحق النهار الثقافي