مجتمع المعرفة: أو الـرِّهان المُؤَجَّـل
5/15/2010
‘لا غِنَى كالعقل ولا فَقْرَ كالجهل ولا شَرَفَ كالعِلْم
ولا ميراثَ كالأدب’ [على بن أبي طالب]
كانت الأمم المتحدة في عام 1996 أصدرت بياناً، اختارت فيه يوم 23 أبريل، من كل سنة، يوماً عالمياً للكتاب. احتفاءً ببعض الكُتَّاب والمبدعين العالميين الذين، صادفَ هذا اليوم، يوم وفاتهم، مثل ميغل دي ثربانتس، ووليام شكسبير. ستتخـذ منظمة اليونسكو من هذا اليـوم، مناسبة للاحتفال بالكِتَاب، وللعمل على التَّحْسِيس بأهمية الكُتُب والمكتبات في حياة الشُّعُوب، والدور الذي تلعبه في التكوين الثقافي، وفي بناء مجتمعات المعرفة.
فما اسْتَشْعَرَتْهُ اليونسكو من تراجُعٍ في الاهتمام بالكِتَاب، كان أحد الأسباب التي دَفَعَت إلى إقرار يومٍ عالميٍّ للكِتَاب، وإلى إثارة الانتباه إلى الوضع الذي يمكن أن تَؤُولَ إليه المعرفة، وهو ما قد ينعكس سلباً على المُجتمعات نفسها، في حالة ما إذا أصبح دورُ الكِتَاب، في سياسات الدول والحُكومات ثانوياً، أو لا يحظى بالدَّعم الكافي، كما يَبْدُو اليوم في كثير من البرامج الحُكومية، خصوصاً في الدُّوَل التي يأتي التعليم، فيها، والقراءة بشكل عام، في آخر سُلَّم أولوياتها.
إذا كانت، المكتبات العامة، ودور النشر، ومؤسسات التوزيع، وحتى المؤسسات الحكومية التي لها صلة بهذا الموضوع، في الغرب، تُولِي أهميةً قُصْوَى للقراءة، وتعمل وفقَ سياساتٍ وبرامج، مُحدَّدةَ الأهداف، على توسيع مساحات القراءة، والإقبال على اقتناء الكُتُب، واستعمال المكتبات العامة، كأمكنةٍ للمطالعة والبحث، وتنظيم معارض الكُتُب، باحْتِرَافِيَة عالية، وببرامج يكون فيها، معدل تَداَوُل وتسويق الكِتَاب مُرْتَفِعاً، فالوضع في العالم العـربي، هو نقيضُ هذا تماماً. يكفـي أن نعود إلـى التقارير الدولية، وخصوصاً ما يأتينـا من المنظمات التـي تهتم بالقـراءة وبنشـر الكُتُب وترويجها، لنقف على حَجْم الخسارات الفادحة التي طالتنا، جرَّاء هذا الإهمال الذي تتحمَّلُ فيه الحُكومات والدول دوراً كبيراً.
و لأبقَ في إطار هذا الوضع الكارثي، لما صار عليه وضع المعرفة عندنا، وما له من انعكاسات خطيرة على مختلف مجالات التكوين والبحث العلمي، أكتفي، فقط، بالإشارة إلى ما كرَّسَتْهُ الدولة بكل مؤسساتها، بما فيها وسائل الإعلام بمختلف مشاربها، من إمكاناتٍ كبيرة، للاحتفال، بالذكرى الأربعينية ليوم الأرض [ بما يُثِيره الاسمُ من التباسات]، وهو اليوم الذي صادفَ اليوم العالمي للكِتَاب. فالاهتمام بيوم الأرض جاء على حساب الاهتمام بيوم الكِتَاب. فوزارة الثقافة المعنية بأمر الكِتَاب، بقيت خارج الموضوع، وكأن مشاكل النشر والتوزيـع، ومُشكل القراءة، عندنا، ليس من ضمن أولوياتها،
و هو ما يمكن تعميمه على وزارتَيْ التعليم، والشباب والرياضة. فخُطورة ما تتعرض له الأرض من تدمير، وما عرفته الطبيعة من اختلالاتٍ في نظامها، نتيجة الاستعمالات المفرطة للتصنيع، وهذا ما تتحمل فيه الدول المُصَنَّعَة المسؤولية الكبرى، هو نفس ما يمكن أن ينطبق على فقدان المعرفة، أو ما يمكن أن يطال هذه المجتمعات من اختلالاتٍ فـي التكوين والتأطير، وفي تقدير قيمة الفكر في ضمان صيرورة الوُجود، وما قد يحدثُ من مشكلات، مثلما يجري اليوم من تدويلٍ للفكر المتطرف، ومن تعتيمٍ للمفاهيم والقِيَم.
في انتفاء المعرفة، يصير فكر الاستهلاك، هو الفكر المُتَحَكِّم في مثل هذه المجتمعات، ما يعني انتفاء قدرة الإنسان على الخلق والإبداع والتفكير. الإنسان الصَّامِتُ الخانعُ المُطيع المُوَجَّهُ، وفق ما تُمليه عليه وسائل الدعايـة والإعلام، هو النتيجة التي تَؤُولُ إليها مثل هذه السياسات التي لا تعبأ بأهمية الإنسان، ولا بأهمية الفكر النقدي، الذي كان، دائماً، هو الطريق التي تُفْضِي إلى صيرورة المجتمعات، ورفاهيتها، وإلى تكريس فكر الاختلاف، وتقدير الرأي الحُر، مهما كانت درجة اختلافنا معه، أو رفضنا له.
فحين تنعدم، ‘بيئة ‘المعرفة، أو تُصَابُ، بمثل هذا ‘الثَّلَوُّت ‘، التي هي عليه اليوم، فهذا يكون، حتماً، أحد أسباب الخطر التي تتهدَّد الأرض، باعتبار الإنسان، هو ‘المُصْلِحُ ‘أو ‘المُفْسِدُ في الأرض ‘.
و إذا لم نعمل علـى تحصين الإنسان بالمعـرفة، فإنَّ الوعي بقيمة الأرض، وبما قد يَلْحَقُها من أَذًى، لن يَحْدُثَ، كون العلاقة بين الإنسان والأرض، هي علاقة زواج وُجُوديٍّ، وكُلُ زواج تَخْتَلُّ فيه العلاقة بين الطرفين، أو تكون فيه الحُظْوَةُ لِطَرَفٍ على حساب الآخر، هو زواج مُهَدَّدٌ بالزوال.
لا أسْتَسِيغُ، مثلاً، بناء حديقةٍ، قبل بناء إنسانٍ، أو تربيته على الجمال. كما لا أفهم، كيف نزرعُ قيم المحبة والاختلاف، إذا كانت المدرسة عندنا تَفْتَقِدُ لفضاءاتٍ، ولبرامج، لا مكان فيها للقراءة والكِتَاب. كما لا أفهمُ معنى أن تكون عندنا وزارة للثقافة، لا يعنيها يومُ الكتاب، وهـي، على أيٍّ، أصبحت لا تَحْضُر، أو تكون موجودة، إلا في المعرض الدولي للكتاب الذي أصبح هو كل ما تعمل الوزارة، ومعها الجمعيات العاملة في قطاع الثقافة والكتاب، على إنجازه، بكل ما يُصاحبه من اختلالات، وحسابات لا علاقةَ لها بالثقافة، ولا بالكتاب.
أليس هذا الإهمال للقراءة، ولِدَوْرِ المكتبات، في حياتنا اليومية، هو تعبير واضح عن إهمال الدولة، بكل قطاعاتها، للثقافة، وللمعـرفة، أعنـي للكُتُب والمكتبات، وتحويل الاهتمام، إلى مجتمع الاستهلاك والفُرْجَة، بدل مجتمع المعرفة، الذي هو أحد ضرورات، ما تُسَمِّيهِ الدولة نفسُها بمشاريع التنمية البشرية.
فمجتمع المعرفة، هو المُجتمع الكفيل بِحَلِّ كثير من المُعضلات التي باتت تَمُسُّ القيم والمعارف، وباتت تُهَدِّد الأرض، في خُضْرَتِها، وفي توازنها الطبيعي، وبات الإنسانُ هو نواةُ هذا المُجتمع، وهو مَنْ يحتاجُ إلى اهتمام أكثر، وإلى وَضْعِه في سياق المبادرات الفردية، والمًشَارَكَة في اتخاذ القرارات، وفي التعبير عن رأيه بحريةٍ، وبجرأةٍ، دون قيود أو شروطٍ، خصوصاً إذا كان شروط التكوين قائمةً على المعرفة بآليات القراءة والتحليل والنقد، أو بما تسعى مجتمعات المعرفة لتكريسه من قدراتٍ علـى الابتكار والإبداع.
إنَّ ما تُعانيه الأرض العربية من ‘تدهور كبير في ثقافتها ولغتها وعاداتها وتقاليدها ‘، ناتج عن تكريس قيم الفُرْجَة والاستهلاك، في مقابل قيم المعرفة والإبداع. فالوضع عندنا، يبدو أكثر تعقيداً، خصوصاً حين نُدْرِكُ طبيعة التحوُّلات التي حدثَتْ في مُجتمعات المعرفة اليوم، وفي وسائط هذه المعرفة، التي أصبحت أكثر تعقيداً، وأكثر انتشاراً مما كانت عليه، أو مِمَّا ما نزال لم نَصِل إليه بعد. فإذا كُنَّا ما نزال لا نتوفر في مكتباتنا العامة على الوسائط الحديثة للاتصال والبحث، ولا نتوفر في المدارس والجامعات على مكتبات، بمعنـاها التقليدي، ولا علـى فضاءات محتـرمة للقـراء والبحث، فكيف
يمكن أن نتحدَّث عن المكتبة كشرط للتكوين، في ما تُسَمِّيه وزارة التربية الوطنية بـ ‘المخطط الاستعجالي ‘، في الوقت الذي لم تعمل هذه الخطة على الشروع في وضع تصوُّرٍ واضح لما ينبغي أن يُساعدَ التلاميذ على وُلُوج عالم المعرفة، ولوضع القراءة ضمن أولويات هذه المعرفة. ما تزال كثير من الأمور غير واضحة، والمدرسة، كمكان للتربية والتكوين، تعمل وفق برامج ومقررات لا تساير التحولات الجارية في مجتمعات المعرفة، كما عملت خُطَط التنمية البشـرية، فـي أكثر من مكان علـى استـدراكها، والانخراط فيها.
فكيف إذن يمكن الحديث عن استخـدام التكنولـوجيا الحديثة، فـي التعليـم والتكوين، ونحن لم نَمُر بعد عبر مرحلة الإقبال على القراءة بالوسائط التقليديـة، أو بتكـريس الكِتَاب كشـرطٍ للمعرفة، ووسيلة لحفظ المعـارف وتداوُلِها؟
ففـي الوقت الذي أصبحت فـيه الدُّوَل المعنية، حقيقـةً، بمجتمع المعـرفة، وبالمفهوم الفعلي للتنمية البشرية، تتحدَّثُ عن الاقتصاد المعرفي، وثقافة الابتكار والإبداع، وتعمل على توسيع مجالات اقتصادها، بما يتجاوزُ، من حيث العائدات والمداخـل، ما كان يأتيها من عائـدات الصادرات الخارجية، والصناعات الكيماوية، وصناعات السيـارات، أو الطائـرات، وصادرات
قطاع الزراعة، وغَدَت الصناعات الابتكارية والإبداعية عنصراً مهماً في تكوين الاقتصادات المُتقدمة، وفي زيادة الدخل الوطني، وتخفيف معدلات البطالة، نجد وَضْعَنا، في سياق هذا التحوُّلات الكُبْرى، مُحْرِجاً، ولا يرقى لمضامين الشعارات التي تبقى، في أغلب الأحيان، مُجَرَّد كلام، لا يرقى لمستوى العمل، أو الإنجاز.
ففي عام 2001، مثلاً، قُدِّرَ صافي عائدات حقوق النشر الأمريكية بـ 791.2 بليون دولار، أي ما يعادل 7.75 ‘ من إجمالي الناتج المحلي، ويعمل فيها حوالي 8 ملايين عامل، ويفوق إسهامها في الصادرات الخارجية.
يُقَدِّمُ لنا هذا المثال، وثمة أمثلة كثيرة، لدى دول أخرى من آسيا، بما فيها إسرائيل، نموذجاً صارخاً عن النظرة الدونية للثقافة التي تبدو في النسبة المئوية من الميزانية العامة للدولةِ المُخَصَّصَة للثقافة، وفي نظرة مؤسسات القطاع الخاص، والجماعات المحلية، ومجالس المُدن، وممثلي الشعب! في الغرفتين.. وهي كلها أطراف مسؤولة، وهو ما لا يعفي الدولة كمسؤول أول وأخير، من التَّرَدِّي الذي وصلته المعرفة في بلادنا، والتعليم، بجميع أسلاكه، شاهدُ تأكيد على هذه المأساة التي طالتْ المجتمع، ومَسَّت قِيَمَهُ المختلفة، ولعلَّ أخطـرها القيم الرمزية، من إنتاجات فـي مجالات الكتابة والفن، والإبداع بشكل عام، وعلى رأسها للغة التي بها نكتُب ونقرأ.
الاستهانة بالقراءة، وبالكِتابِ، أي بالمعرفة، هي استهانة بالوجـود التاريخي والحضاري للأمَّة، وهي أيضاً استهانة بالمُقَدَّرات البشرية، وبما يختزنه الإنسان من قدرات على الإنتاج والإبداع، وعلى المشاركة في البناء، وفي تفعيل البرامج، خصوصاً إذا كانت هذه البرامج، والمُخططات والمشاريع، تضع في حسابها، الإنسان كشريك، وكطاقة فاعلة في تحريك عجلة النمو، وفي النظر إلى المستقبل بثقة وبتفاؤل كبيرين.
إنَّ مجتمع المعرفة، لا يعمل بالآليات التقليدية، ولا بالمفهوم المبتذل لكلمة نشاط أو أنشطة، أو ما تعتبره وزارتيْ الثقافة والتعليم عندنا، حُلُولاً لمعضلاتٍ كبرى، في هذين القطاعين، فالأمر أصبح يقتضي الاستعانة بالخبـراء، ومَنْ يعملون وفق رُؤًى وتصوُّرات تقوم علـى الرؤية البعيدة، وعلى اسْتِشْراف المستقبل، ليس بنوعٍ من النبوءة، أو الكلام الإعلامي المُوَجَّه للاستهلاك، ولتبرير الفشل، وسوء التسيير والتدبير، بل بإشراك المعنيين بشأن التعليم والثقافة، وبتشخيص أماكن الخلل والعطب، في هذين القطاعين، واستشارة المنجزات المتقدمة، والتي راكمت تجارب ناجحة، طبعاً، دون السقوط في استنساخها، أو نقلها بطريقة قد تُفضي إلى ما يُكرِّسُ الفشل، ويضاعف من أعطابنا.
إننا، بهذا المعنى، فـي حاجة إلـى ‘سياسات خاصة لتعزيـز ثقافة الإبداع والابتكار في كل مجال من مجالات الحياة الإنسانية والاقتصادية ‘، ما يعني
أننا في حاجة لوضع الإنسان في الواجهة، ولخلق شروط، وإمكانات الابتكار والإبداع، وتهيئ الشروط الضرورية للمعرفة، بكل ما أصبحت تتطلبه من بنيات تحتية كافية، ومن وسائل لتسهيل انخراط الإنسان في مشروعاتِ، وبرامجِ الاهتمامِ بالبيئة، وبالقيم التي تكفَلُ لكل فَرْدٍ حق التَّعَلُّم ووُلُوج عالم المعرفة. ‘فالصناعة الثقافية مثلاً، تحتاج إلى البشر أكثر من حاجتها إلى المال، وهي لا تثير مشاكل بيئية أو صحية كالصناعات الكبيرة، ولها أسواق داخلية أوسع من أسواق السلع الصناعية الأخرى ‘.
لا حُجَّةَ لنا في هذا الإهمال، ولا بديل عن المعرفة، أعني عن المجتمع المتعلم، القارئ، والمٌنتِج، وهذا هو الرِّهانُ الذي ما تزال الدولة، عندنا، بكل قطاعاتها، تَتَلَكَّأُ في اتِّخاذ المبادرة، وفي إعلان برنامج واضح، لدعم الثقافة والتعليم، والبحث العلمي، بما يقتضيه من بنياتٍ تحتية، ومن اهتمام بالإنسان، وبما يمتلكه من طاقات على الإبداع والإنتاج.
شاعر من المغرب
بصدد بعض الأرقام الواردة في النص، وما بين مزدوجتين يمكن العودة إلى، عبد الحسن الحسيني، التنمية البشرية وبناء مجتمع المعرفة.. الدار العربية للعلوم ناشرون 2008
القدس العربي